الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَفَلَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ} (128)

قوله : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } : في فاعل " يَهْدِ " أوجهٌ ، أحدها : أنه ضميرُ الباري تعالى . ومعنى يَهْدي : يُبَيِّن . ومفعولُ يهدي محذوفٌ تقديرُه : أفلم يُبَيِّنِ اللهُ لهم العبرَ وفِعْلَه بالأمم المكذبة . قال أبو البقاء : " وفي فاعلِه وجهان ، أحدهما : ضميرُ اسم الله تعالى ، وعَلَّق " بَيَّن " هنا إذا كانَتْ بمعنى اعلمْ ، كما عَلَّقه في قولِه تعالى : { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } [ إبراهيم : 45 ] . قال الشيخ : و " كم " هنا خبريةٌ ل تعَُلِّق العاملَ عنها " . وقال الزمخشري : " ويجوز أَنْ يكونَ فيه ضميرُ اللهِ أو الرسولِ . ويدلُّ عليه القراءةُ بالنونِ .

الوجه الثاني : أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يُفَسِّره ما دَلَّ عليه من الكلام بعدَه . قال الحوفي : " كم أَهْلكنا " قد دَلَّ على هلاك القرونِ . التقدير : أفلم يَتَبَيَّن لهم هلاكُ مَنْ أَهْلكنا من القرن ومَحْوُ آثارِهم فيتَّعِظوا بذلك . وقال أبو البقاء : " الفاعلُ ما دَلَّ عليه قوله : { أَهْلَكْنَا } أي إهلاكنا والجملةُ مفسِّرةٌ له " .

الوجه الثالث : أنَّ الفاعلَ نفسُ الجملة بعده . قال الزمخشري : " فاعلُ " لم يَهْدِ " الجملةُ بعده . يريدُ : ألم يَهْدِ لهم هذا بمعناه ومضمونِه . ونظيرُه قولُه تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } [ الصافات : 79 ] أي تَرَكْنا عليه هذا الكلامَ " . قال الشيخ : " وكَوْنَ الجملةِ فاعلَ " يَهْدِ " هو مذهبٌ كوفي . وأمَّا تشبيهُه وتنظيرُه بقولِه : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } فإنَّ " تركْنا " معناه معنى القول ، فحُكِيَتْ به الجملةُ كأنه قيل : وقُلْنا عليه وأَطْلقنا عليه هذا اللفظ ، والجملةُ تُحْكَى بمعنى القولِ كما تُحْكَى بالقولِ " .

الوجهُ الرابعُ : أنه ضميرُ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم ؛ لأنه هو المُبَيِّن لهم بما يُوْحَى إليه من أخبار الأممِ السالفةِ والقرونِ الماضية . وهذا الوجهُ تقدَّم نَقْلُه عن أبي القاسم الزمخشري .

الوجهُ الخامسُ : أنَّ الفاعلَ محذوفٌ ، قال ابنُ عطية نقلاً عن غيره : " إن الفاعلَ مقدرٌ تقديرُه : الهُدى أو الأمرُ أو النظرُ والاعتبار " قال ابن عطية : " وهذا عندي أحسنُ التقادير " .

قال الشيخ : " وهو قولُ المبردِ ، وليس بجيدٍ ؛ إذ فيه حَذْفُ الفاعلِ وهو لا يجوز عند البصريين ، وتحسينُه أَنْ يقالَ : الفاعل مضمر تقديره : يهد هو أي الهدى " ، قلت : ليس في هذا القولِ أنَّ الفاعلَ محذوفٌ ، بل فيه أنه مقدرٌ ، ولفظٌ " مقدرٌ " كثيراً ما يُستعمل في المضمر . وأما مفعولُ " يَهْدِ " ففيه وجهان أحدهما : أنه محذوف . والثاني : أن يكونَ الجملةَ من " كم " وما في حَيِّزها ؛ لأنها معلِّقَةٌ له فهي سادَّة مَسَدَّ مفعولِه .

الوجه السادس : أنَّ الفاعلَ " كم " ، قاله الحوفي وأنكره على قائله ؛ لأنَّ " كم " استفهامٌ لا يَعْمل فيها ما قبلها .

قال الشيخ : " وليست هنا استفهاماً بل هي خبرية " . واختار الشيخ أن يكون الفاعلُ ضميرَ الله تعالى فقال : " وأحسنُ التخاريجِ أن يكونَ الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى فكأنه قال : أفلم يبيِّنِ الله . ومفعول " يُبَيِّن " محذوفٌ أي : العبر بإهلاك القرونِ السابقة . ثم قال : { كَمْ أَهْلَكْنَا } أي : كثيراً أَهْلَكْنا ف " كم " مفعولةٌ بأهلكنا ، والجملةُ كأنها مفسِّرةٌ للمفعولِ المحذوف ل " يَهْدِ " .

قوله : { مِّنَ الْقُرُونِ } في محلِّ نصبٍ نعتاً ل " كم " لأنها نكرة . ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من النكرة . ولا يجوزُ أن يكونَ تمييزاً على قواعد البصريين ، و " مِنْ " داخلةٌ عليه على حَدِّ دخولِها على غيرِه من التمييزات لتعريفِه .

وقرأ العامَّةُ " يَهْدِ " بياءِ الغَيْبة . وتقدَّم الكلامُ في فاعِله . وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن بالنونِ المُؤْذِنَةِ بالتعظيم ، وهي مؤيدةٌ لكونِ الفاعلِ في قراءةِ العامَّةِ ضميرَ الله تعالى .

قوله : { يَمْشُونَ } حالٌ من القرون أو مِنْ مفعولِ " أهلَكْنا " . والضميرُ على هذين عائدٌ على القرونِ المُهْلَكَة . ومعناه : إنَّا أهلكناكم وهم في حالِ أَمْنٍ ومَشْيٍ وتَقَلُّبٍ في حاجاتهم كقوله : { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [ الأنعام : 44 ] ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في " لهم " . والضميرُ في " يَمْشُون " على هذا عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير في " لهم " ، وهم المشركون المعاصرون لرسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم . والعاملُ فيها " يَهْدِ " . / و[ المعنى ] : أنكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفةِ ، وتتصرَّفون في بلادهم ، فينبغي أَنْ تعتبروا لئلاَّ يَحُلَّ بكم ما حلَّ بهم . وقرأ ابن السميفع " يُمَشَّوْن " مبنياً للمفعول مضعَّفاً ؛ لأنه لَمَّا تَعَدَّى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول .