اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَلَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ} (128)

قوله : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } في فاعل ( يَهْدِ ) أوجه{[27317]} :

أحدها{[27318]} : أنه{[27319]} ضمير الباري تعالى ، ومعنى ( يَهْدِي ) يُبَيِن ، ومفعول ( يَهْدِي ) محذوف تقدره : أفلم يُبَيِّن اللهُ لهم العبرَ وفعله بالأمم المكذبة .

قال أبو البقاء : وفي فاعله وجهان :

أحدهما : ضمير اسم الله تعالى وعلَّق ( بَيَّن ) هنا ، إذا كانت بمعنى أعلم كما علقه في قوله تعالى { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ }{[27320]} {[27321]} .

قال أبو حيَّان : و " كَمْ " هنا خبرية ، والخبرية لا تعلِّق العامل ( عنها ){[27322]} {[27323]} .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون فيه ضمير الله ، أو الرسول ، ويدل عليه القراءة بالنون{[27324]} .

الوجه الثاني{[27325]} : أنَّ الفاعل مضمر يفسره ما دلَّ عليه من الكلام بعده ، قال الحوفي : " كَمْ أهْلَكْنَا " قد دَلَِّ على هلاك القرون التقدير : أَفَلَمْ نُبَيِّن لَهُمْ هَلاَكَ من أهلكنا من القرون ومَحْونا آثارَهم فيتعِظُوا بذَلِك{[27326]} .

وقال أبو البقاء : الفاعل ما دَلَّ عليه " أهْلَكْنا " أي إهْلاَكنا والجملة مفسرة له{[27327]} .

الوجه الثالث{[27328]} : أنَّ الفاعل نفس الجملة بعده .

قال الزمخشري : فاعل " لَمْ يَهْدِ " الجملة بعده يريد : أَلَمْ يَهْدِ لَهُم هذا بمعناه ومضمونه ، ونظيره قوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين }{[27329]} .

أي : تركنا عليه هذا الكلام{[27330]} .

قال أبو حيَّان : وكونُ الجملة فاعل " يَهْدِ " هو مذهب كوفيّ{[27331]} ، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين }{[27332]} فإن " تَرَكْنَا " معناه هذا القول{[27333]} فحكيتْ به الجملة ، فكأنه قيل : وقُلْنَا عليه ، وأطلقنا عليه هذا اللفظ ، ( والجملة تُحكَى بمعنى القول كما تُحْكَى بالقول ){[27334]} {[27335]} .

الوجه{[27336]} الرابع{[27337]} : أنه ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبيّن لهم بما{[27338]} يوحى إليه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ، وهذا الوجه تقدم نقلُه عن الزمخشري{[27339]} .

الوجه الخامس{[27340]} : أنَّ الفاعلَ محذوف ، نقل ابن عطية عن بعضهم{[27341]} : أنَّ الفاعل مقدر تقديره : الهُدَى أو الأمرُ أو النَّظَرُ والاعتبارُ .

قال ابن عطيَّة : وهذا عندي أحسن التقادير{[27342]} .

قال أبو حيان : وهو قول المبرِّد ، وليس بجيد إذ فيه{[27343]} حذف الفاعل ، وهو لا يجوز عند البصريين{[27344]} ، وتحسينه أن يقال : الفاعل مضمرٌ تقديره : يَهْدِ هُوَ أي : الهُدَى {[27345]} قال شهاب الدين : ليسَ في هذا القول أن الفاعل محذوف بل فيه أنه مقدر ، ولفظ مقدَّر كثيراً ما يستعمل في المضمر{[27346]} . وأما مفعول " يَهْدِ " ففيه وجهان :

أحدهما : أنه محذوف .

والثاني : أن يكون الجملة من " كَمْ " وما في خبرها ، لأنها معلقة له ، فهي سادة مسدّ مفعوله{[27347]} .

الوجه السادس{[27348]} : أن الفاعل " كَمْ " -قاله الحوفي{[27349]} ، وأنكره على قائله{[27350]} لأن " كَمْ " استفهام لا يعمل فيها ما قبلها{[27351]} .

قال أبو حيَّان : وليست " كَمْ " هنا استفهامية بل هي خبرية{[27352]} .

واختار{[27353]} أن يكونَ الفاعل ضمير الله تعالى ، فقال{[27354]} : وأحسَنُ التخاريج أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى ، كأنَّه قال أَفَلَمْ يبيَّن الله ، ومفعول يبين محذوف ، أي العبرَ بإهلاك القرون السابقة{[27355]} ، ثم قال : " كَمْ أهْلَكْنَا " أي : كثيراً أهلكنَا{[27356]} ، ف " كَمْ " مفعولة{[27357]} ب " أهْلَكْنَا " {[27358]} والجملة كأنها للمفعول المحذوف ل " يَهْدِ " {[27359]} .

قال القفَّال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيِّناً لهم كما جعل{[27360]} مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً{[27361]} . وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن{[27362]} السلمي " أَفَلَمْ{[27363]} نَهْدِ " بالنون المؤذنة بالتعظيم{[27364]} . قال الزجاج : يعني أفَلَمْ{[27365]} نبيَِّن لهم بياناً يهتدون{[27366]} به لو تدبروا وتفكروا .

وقوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } فالمراد به المبالغة في كثرة مَنْ أهلكه الله تعالى من القرون الماضية{[27367]} . قوله : { مِنَ القُرونِ } في محل نصب ( نعت ل " كَمْ " ){[27368]} لأنَّها نكرة ويضعف جعلُه حالاً من النكرة{[27369]} ، ولا يجوز أن يكون تمييزاً على قواعد البصريين{[27370]} و " مِن " {[27371]} داخلة عليه على حد دخولها على غيره من التمييزات لتعريفه .

قوله : { يَمْشُونَ } حال من " القُرونِ " ، أو من مفعول " أَهْلَكْنَا " {[27372]} والضمير على هذين عائد على القرون المهلكة ، ومعناه{[27373]} : إنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ وَهُمْ في حال أمنٍ وَمَشْيٍ وتقلُّب في حاجاتهم كقوله : { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً }{[27374]} ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " لَهُمْ " ، والضمير في " يَمْشُونَ " على هذا عائد على مَنْ عادَ عليه الضمير في " لَهُمْ " وهم المشركون المعاصرون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعامل فيها " يَهْدِ " {[27375]} . والمعنى : إنَّكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفة وتتصرفون في بلادهم فينبغي أن تعتبروا لئلا يحلّ بكُم ما حلَّ بهم{[27376]} .

وقرأ ابن السميفع " يُمَشَّوْنَ " مبنيًّا للمفعول مضعفاً{[27377]} ، لأنه لما تعدَّى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول .

فصل

المعنى : أَو لَمْ{[27378]} نبيِّن القرآن أو مَا تقدم من المقادير{[27379]} لكفَّار مكة { كَمْ{[27380]} أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } ديارهم إذا سافَرُوا . والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام ، فيروْنَ ديار المهلكين من أصحاب الحِجْر ، وثَمُود ، وقرى{[27381]} لوط{[27382]} { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى } لذوي العقول .


[27317]:في ب: في ذلك أوجه. وهو تحريف.
[27318]:في ب: الأول.
[27319]:في ب: أنها. وهو تحريف.
[27320]:[إبراهيم: 45].
[27321]:التبيان 2/907.
[27322]:البحر المحيط 6/289.
[27323]:في ب: عليها. وهو تحريف.
[27324]:الكشاف 2/451. والقراءة بالنون قراءة ابن عباس والسلمي وغيرهما. انظر القرطبي 11/260، البحر المحيط 6/288.
[27325]:الوجه: سقط من ب.
[27326]:انظر البحر المحيط 6/289.
[27327]:التبيان 2/907.
[27328]:في ب: الوجه الثاني. وهو تحريف.
[27329]:الآيتان (78، 79) من سورة الصافات. والاستشهاد بهما هو أن الجملة هنا وقعت مفعولا، وفي الآية التي معنا وقعت فاعلا. انظر التبيان 2/1090.
[27330]:الكشاف 2/51.
[27331]:اختلف النحاة في وقوع الجملة فاعلا، فمذهب البصريين أن الفاعل لا يكون جملة مطلقا. وهشام وثعلب أجازه مطلقا نحو يعجبني قام زيد. والفراء وجماعة فصّلوا ذلك فقالوا: إن كان الفاعل قلبيا ووجد معلق عن العمل نحو ظهر لي أقام زيد صح وإلا فلا. وقد ذكرنا ذلك عند قوله تعالى: {فلما أتاها نودي يا موسى} [طه: 11].
[27332]:الآيتان (78، 79) من سورة الصافات. والاستشهاد بهما هو أن الجملة هنا وقعت مفعولا، وفي الآية التي معنا وقعت فاعلا. انظر التبيان 2/1090.
[27333]:في ب: فإن تركناه معنى القول.
[27334]:البحر المحيط 6/289.
[27335]:ما بين القوسين سقط من ب.
[27336]:الوجه: سقط من ب.
[27337]:في ب: الثالث.
[27338]:في ب: مما.
[27339]:عند الحديث عن الوجه الأول، حيث قال الزمخشري: (ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول، ويدل عليه القراءة بالنون) الكشاف 2/451، وانظر الوجه الأول.
[27340]:ما بين القوسين سقط من ب، وفيه: الرابع.
[27341]:عن بعضهم: سقط من ب.
[27342]:تفسير ابن عطية 10/110.
[27343]:في ب: و.
[27344]:وذلك لأن الفاعل عمدة في الكلام لا يجوز حذفه، لأن الفعل وفاعله كجزء كلمة لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وأجاز الكسائي حذفه تمسكا بقوله: فإن كان لا يرضيك حتى تردني *** إلى قطريّ لا إخالك راضيـا وأوله الجمهور على أن التقدير فإن كان هو، أي: ما نحن عليه من السلامة فالفاعل ضمير مستتر عائد على معلوم من المقام لا محذوف. ويستثنى من عدم جواز حذفه أبواب: باب النائب عن الفاعل نحو قضي الأمر والاستثناء المفرغ نحو ما قام إلا زيد. والتعجب نحو "أسمع بهم وأبصر" والمصدر نحو ضربا زيدا. والفعل المؤكد بالنون نحو "ولا يصدنك". انظر شرح الأشموني وحاشية الصبان 2/44-45.
[27345]:البحر المحيط 6/289.
[27346]:في ب: الضمير.
[27347]:الدر المصون 5/14. الجملة تقع مفعولا في ثلاثة أبواب: أحدها: باب الحكاية بالقول أو مرادفه نحو "قال إني عبد الله". الباب الثاني: باب ظن وأعلم فإنها تقع مفعولا ثانيا لظن وثالثا لأعلم وذلك لأن أصلهما الخبر، ووقوعه جملة سائغ. الباب الثالث: باب التعليق، وذلك غير مختص بباب ظن، بل هو جائز في كل فعل قلبي كما هنا. انظر المغني 2/412 – 416.
[27348]:في ب: الخامس.
[27349]:في ب: قال الحوفي.
[27350]:والكوفيون هم القائلون بأن فاعل "يهد" هو "كم". وانظر مشكل إعراب القرآن 2/78، البيان 2/154، القرطبي 11/260.
[27351]:انظر البحر المحيط 6/289.
[27352]:المرجع السابق. وأبو حيان هو القائل وحده بأن "كم" خبرية.
[27353]:في ب: وأشار.
[27354]:أي أبو حيان، وأرجح ما اختاره أبو حيان من كون الفاعل ضمير الله تعالى.
[27355]:في ب: السالفة.
[27356]:في ب: هلكنا.
[27357]:في ب: مفعول.
[27358]:عند البصريين. انظر مشكل إعراب القرآن 2/78، التبيان 2/908.
[27359]:البحر المحيط 6/289.
[27360]:في ب: كما قد جعل.
[27361]:انظر الفخر الرازي 22/132.
[27362]:في ب: وأبو عبد الله.
[27363]:في النسختين: أو لم. وهو تحريف.
[27364]:انظر القرطبي 11/260، البحر المحيط 6/288. والزمخشري قد استدل بهذه القراءة على أنّ فاعل "يهد" ضمير الله أو الرسول. انظر الكشاف 2/451.
[27365]:في النسختين: أو لم. وهو تحريف.
[27366]:معاني القرآن وإعرابه 3/379.
[27367]:انظر الفخر الرازي 22/132.
[27368]:ما بين القوسين في النسختين: نعتا.
[27369]:لأنه لم يتقدم على النكرة حتى يكون حالا منها.
[27370]:لأن مميز (كم) الاستفهامية لا يكون مجموعا عندهم، ولأن القرون معرفة فيجوز أن التمييز محذوفا، أي قرنا من القرون. انظر الكافية 2/96.
[27371]:في ب: على دخوله عليه ومن. وهو تحريف.
[27372]:انظر التبيان 2/908، البحر المحيط 6/289.
[27373]:في ب: ومعنى. وهو تحريف.
[27374]:من قوله تعالى:{فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44]. وانظر التبيان 2/908، البحر المحيط 6/289.
[27375]:انظر التبيان 2/908، البحر المحيط 6/289.
[27376]:في ب: ما أحلّ.
[27377]:المختصر: (90) ، البحر المحيط 6/289.
[27378]:في ب: إذا لم. وهو تحريف.
[27379]:في ب: التعادم.
[27380]:في ب: إذا لم. وهو تحريف.
[27381]:في الأصل: وقريات. وهو تحريف.
[27382]:انظر البغوي 5/467.