قوله : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } في فاعل ( يَهْدِ ) أوجه{[27317]} :
أحدها{[27318]} : أنه{[27319]} ضمير الباري تعالى ، ومعنى ( يَهْدِي ) يُبَيِن ، ومفعول ( يَهْدِي ) محذوف تقدره : أفلم يُبَيِّن اللهُ لهم العبرَ وفعله بالأمم المكذبة .
قال أبو البقاء : وفي فاعله وجهان :
أحدهما : ضمير اسم الله تعالى وعلَّق ( بَيَّن ) هنا ، إذا كانت بمعنى أعلم كما علقه في قوله تعالى { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ }{[27320]} {[27321]} .
قال أبو حيَّان : و " كَمْ " هنا خبرية ، والخبرية لا تعلِّق العامل ( عنها ){[27322]} {[27323]} .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون فيه ضمير الله ، أو الرسول ، ويدل عليه القراءة بالنون{[27324]} .
الوجه الثاني{[27325]} : أنَّ الفاعل مضمر يفسره ما دلَّ عليه من الكلام بعده ، قال الحوفي : " كَمْ أهْلَكْنَا " قد دَلَِّ على هلاك القرون التقدير : أَفَلَمْ نُبَيِّن لَهُمْ هَلاَكَ من أهلكنا من القرون ومَحْونا آثارَهم فيتعِظُوا بذَلِك{[27326]} .
وقال أبو البقاء : الفاعل ما دَلَّ عليه " أهْلَكْنا " أي إهْلاَكنا والجملة مفسرة له{[27327]} .
الوجه الثالث{[27328]} : أنَّ الفاعل نفس الجملة بعده .
قال الزمخشري : فاعل " لَمْ يَهْدِ " الجملة بعده يريد : أَلَمْ يَهْدِ لَهُم هذا بمعناه ومضمونه ، ونظيره قوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين }{[27329]} .
أي : تركنا عليه هذا الكلام{[27330]} .
قال أبو حيَّان : وكونُ الجملة فاعل " يَهْدِ " هو مذهب كوفيّ{[27331]} ، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين }{[27332]} فإن " تَرَكْنَا " معناه هذا القول{[27333]} فحكيتْ به الجملة ، فكأنه قيل : وقُلْنَا عليه ، وأطلقنا عليه هذا اللفظ ، ( والجملة تُحكَى بمعنى القول كما تُحْكَى بالقول ){[27334]} {[27335]} .
الوجه{[27336]} الرابع{[27337]} : أنه ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبيّن لهم بما{[27338]} يوحى إليه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ، وهذا الوجه تقدم نقلُه عن الزمخشري{[27339]} .
الوجه الخامس{[27340]} : أنَّ الفاعلَ محذوف ، نقل ابن عطية عن بعضهم{[27341]} : أنَّ الفاعل مقدر تقديره : الهُدَى أو الأمرُ أو النَّظَرُ والاعتبارُ .
قال ابن عطيَّة : وهذا عندي أحسن التقادير{[27342]} .
قال أبو حيان : وهو قول المبرِّد ، وليس بجيد إذ فيه{[27343]} حذف الفاعل ، وهو لا يجوز عند البصريين{[27344]} ، وتحسينه أن يقال : الفاعل مضمرٌ تقديره : يَهْدِ هُوَ أي : الهُدَى {[27345]} قال شهاب الدين : ليسَ في هذا القول أن الفاعل محذوف بل فيه أنه مقدر ، ولفظ مقدَّر كثيراً ما يستعمل في المضمر{[27346]} . وأما مفعول " يَهْدِ " ففيه وجهان :
والثاني : أن يكون الجملة من " كَمْ " وما في خبرها ، لأنها معلقة له ، فهي سادة مسدّ مفعوله{[27347]} .
الوجه السادس{[27348]} : أن الفاعل " كَمْ " -قاله الحوفي{[27349]} ، وأنكره على قائله{[27350]} لأن " كَمْ " استفهام لا يعمل فيها ما قبلها{[27351]} .
قال أبو حيَّان : وليست " كَمْ " هنا استفهامية بل هي خبرية{[27352]} .
واختار{[27353]} أن يكونَ الفاعل ضمير الله تعالى ، فقال{[27354]} : وأحسَنُ التخاريج أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى ، كأنَّه قال أَفَلَمْ يبيَّن الله ، ومفعول يبين محذوف ، أي العبرَ بإهلاك القرون السابقة{[27355]} ، ثم قال : " كَمْ أهْلَكْنَا " أي : كثيراً أهلكنَا{[27356]} ، ف " كَمْ " مفعولة{[27357]} ب " أهْلَكْنَا " {[27358]} والجملة كأنها للمفعول المحذوف ل " يَهْدِ " {[27359]} .
قال القفَّال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيِّناً لهم كما جعل{[27360]} مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً{[27361]} . وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن{[27362]} السلمي " أَفَلَمْ{[27363]} نَهْدِ " بالنون المؤذنة بالتعظيم{[27364]} . قال الزجاج : يعني أفَلَمْ{[27365]} نبيَِّن لهم بياناً يهتدون{[27366]} به لو تدبروا وتفكروا .
وقوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } فالمراد به المبالغة في كثرة مَنْ أهلكه الله تعالى من القرون الماضية{[27367]} . قوله : { مِنَ القُرونِ } في محل نصب ( نعت ل " كَمْ " ){[27368]} لأنَّها نكرة ويضعف جعلُه حالاً من النكرة{[27369]} ، ولا يجوز أن يكون تمييزاً على قواعد البصريين{[27370]} و " مِن " {[27371]} داخلة عليه على حد دخولها على غيره من التمييزات لتعريفه .
قوله : { يَمْشُونَ } حال من " القُرونِ " ، أو من مفعول " أَهْلَكْنَا " {[27372]} والضمير على هذين عائد على القرون المهلكة ، ومعناه{[27373]} : إنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ وَهُمْ في حال أمنٍ وَمَشْيٍ وتقلُّب في حاجاتهم كقوله : { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً }{[27374]} ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " لَهُمْ " ، والضمير في " يَمْشُونَ " على هذا عائد على مَنْ عادَ عليه الضمير في " لَهُمْ " وهم المشركون المعاصرون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعامل فيها " يَهْدِ " {[27375]} . والمعنى : إنَّكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفة وتتصرفون في بلادهم فينبغي أن تعتبروا لئلا يحلّ بكُم ما حلَّ بهم{[27376]} .
وقرأ ابن السميفع " يُمَشَّوْنَ " مبنيًّا للمفعول مضعفاً{[27377]} ، لأنه لما تعدَّى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول .
المعنى : أَو لَمْ{[27378]} نبيِّن القرآن أو مَا تقدم من المقادير{[27379]} لكفَّار مكة { كَمْ{[27380]} أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } ديارهم إذا سافَرُوا . والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام ، فيروْنَ ديار المهلكين من أصحاب الحِجْر ، وثَمُود ، وقرى{[27381]} لوط{[27382]} { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى } لذوي العقول .