تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ} (78)

ف { وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي : يسرعون ويبادرون ، يريدون أضيافه بالفاحشة ، التي كانوا يعملونها ، ولهذا قال : { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } أي : الفاحشة التي ما سبقهم عليها أحد من العالمين .

{ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } من أضيافي ، [ وهذا كما عرض لسليمان صلى الله عليه وسلم ، على المرأتين أن يشق الولد المختصم فيه ، لاستخراج الحق ولعلمه أن بناته ممتنع منالهن ، ولا حق لهم فيهن . والمقصود الأعظم ، دفع هذه الفاحشة الكبرى ]{[434]}

{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي : إما أن تراعوا تقوى الله ، وإما أن تراعوني في ضيفي ، ولا تخزون عندهم .

{ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } فينهاكم ، ويزجركم ، وهذا دليل على مروجهم وانحلالهم ، من الخير والمروءة .


[434]:- زيادة من هامش ب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ} (78)

أي جاءه بعضُ قومه . وإنما أسند المجيء إلى القوم لأن مثل ذلك المجيء دأبهم وقد تمالؤوا على مثله ، فإذا جاء بعضهم فسيعقبه مجيء بعض آخر في وقت آخر . وهذا من إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها ، كقول الحارث بن وعلة الجرمي :

قومي همُ قتلوا أمَيْمة أخي *** فإذا رميتُ يصيبني سهمي

و { يُهرعون } بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبني للمفعول فسّروه بالمشي الشبيه بمشي المدفوع ، وهو بين الخبب والجَمْز ، فهو لا يكون إلا مبنيّاً للمفعول لأن أصله مشي الأسير الذي يُسرَع به . وهذا البناء يقتضي أن الهَرْع هو دفع الماشي حين مشيه ؛ إلاّ أن ذلك تنوسِيَ ، وبقي أهرع بمعنى سار سيراً كسير المدفوع ، ولذلك قال جمع من أهل اللغة : إنّه من الأفعال التي التزموا فيها صيغة المفعول لأنها في الأصل مسندة إلى فاعلٍ غير معلوم . وفسّره في « الصحاح » و« القاموس » بأنه الارتعاد من غضب أو خوف ، وعلى الوجهين فجملة { يهرعون } حال .

وقد طوى القرآن ذكر الغرض الذي جاؤوا لأجله مع الإشارة إليه بقوله : { ومن قبل كانوا يعملون السيّئات } فقد صارت لهم دأباً لا يسعون إلاّ لأجله .

وجملة { قال يا قوم } إلخ مستأنفة بيانياً ناشئاً عن جملة { وجاءه قومه } ، إذ قد علم السامع غرضهم من مجيئهم ، فهو بحيث يسأل عمّا تلقّاهم به .

وبادرهم لوط عليه السّلام بقوله : { يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } . وافتتاح الكلام بالنّداء وبأنّهم قومه ترقيق لنفوسهم عليه ، لأنّه يعلم تصلبهم في عادتهم الفظيعة كما دلّ عليه قولهم : { لقد علمتَ ما لنا في بناتك من حق } [ هود : 79 ] ، كما سيأتي .

والإشارة ب { هؤلاء } إلى { بناتي } . و { بناتي } بدل من اسم الإشارة ، والإشارة مستعملة في العَرض ، والتقديرُ : فخذوهن .

وجملة { هنّ أطهر لكم } تعليل للعرض . ومعنى { هنّ أطهر } أنهنّ حلال لكم يَحُلْنَ بينكم وبين الفاحشة ، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة قصد به قوّة الطهارة .

و { هؤلاء } إشارة إلى جمع ، إذ بُيّنَ بقوله : { بناتي } .

وقد رُويَ أنه لم يكن له إلاّ ابنتان ، فالظّاهر أن إطلاق البنات هنا من قبيل التشبيه البليغ ، أي هؤلاء نساؤهن كبناتي . وأراد نساءً من قومه بعدد القوم الذين جاءوا يُهرعون إليه . وهذا معنى ما فسر به مجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وهو المناسب لجعلهنّ لقومه إذ قال : { هنّ أطهر لكم } ، فإن قومه الذين حضروا عنده كثيرون ، فيكون المعنى : هؤلاء النساء فتَزَوّجوهنّ . وهذا أحسن المحامل .

وقيل : أراد بنات صلبه ، وهو رواية عن قتادة . وإذ كان المشهور أنّ لوطاً عليه السّلام له ابنتان صار الجمع مستعملاً في الاثنين بناء على أن الاثنين تعامل معاملة الجمع في الكلام كقوله تعالى : { فقد صَغَت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] .

وقيل : كان له ثلاث بنات .

وتعترض هذا المَحمل عقبتان :

الأولى : أنّ القوم كانوا عدداً كثيراً فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاث ؟ .

الثانية : أن قوله : { هؤلاء بناتي } عرض عليهم كما علمت آنفاً ، فكيف كانت صفة هذه التخلية بين القوم وبين البنات وهم عدد كثير ، فإن كان تزويجاً لم يكفين القوم وإن كان غير تزويج فما هو ؟ .

والجواب عن الأول : أنه يجوز أن يكون عدد القوم الذين جاؤوه بقدر عدد بناته أو أن يكون مع بناته حتى من قومه . وعن الثاني : أنه يجوز أن يكون تصرف لوط عليه السّلام في بناته بوصف الأبوة ، ويجوز أن يكون تصرفاً بوصف النبوءة بالوحي للمصلحة أن يكون من شرع لوط عليه السّلام إباحة تمليك الأب بناته إذا شاء ، فإن كان أولئك الرهط شركاء في ملك بناته كان استمتاع كل واحد بكل واحدة منهنّ حلالاً في شريعته على نحو ما كان البغاء من بقايا الجاهلية في صدر الإسلام قبل أن ينسخ .

وأما لحاق النسب في أولاد من تحمل منهنّ فيجوز أن يكون الولد لاحقاً بالذي تُليطه أمه به من الرجال الذين دخلوا عليها ، كما كان الأمر في البغايا في صدر الإسلام ، ويجوز أن لا يلحق الأولاد بآباء فيكونوا لاحقين بأمّهاتهم مثل ابن الزنى وولد اللّعان ، ويكون هذا التحليل مباحاً ارتكاباً لأخف الضررين ، وهو ممّا يشرع شرعاً مؤقتاً مثل ما شرع نكاح المتعة في أوّل الإسلام على القول بأنه محرّماً وهو قول الجمهور .

وقد اشتغل المفسرون عن تحرير هذا بمسألة تزويج المؤمنات بالكفّار وهو فضول .

وفرع على قوله : { هنّ أطهر لكم } أن أمرهم بتقوى الله لأنّهم إذا امتثلوا ما عرض لهم من النساء فاتّقوا الله .

وقرأ الجمهور { ولا تخزون } بحذف ياء المتكلم تخفيفاً . وأثبتها أبو عمرو .

والخزي : الإهانة والمذلة . وتقدم آنفاً . وأراد مذلته .

و { في } للظرفية المجازيّة . جعل الضيف كالظرف ، أي لا تجعلوني مخزياً عند ضيفي إذ يلحقهم أذى في ضيافتي ، لأنّ الضيافة جوار عند ربّ المنزل ، فإذا لحقت الضيف إهانة كانت عاراً على ربّ المنزل .

والضيف : الضائف ، أي النازل في منزل أحد نزولاً غير دائم ، لأجل مرور في سفر أو إجابة دعوة .

وأصل ضيف مصدر فعل ضاف يضيف ، ولذلك يطلق على الواحد وأكثر ، وعلى المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وقد يعامل معاملة غير المصدر فيجمع كما قال عمرو بن كلثوم :

نزلتم منزل الأضياف منّا

وقد ظن لوط عليه السّلام الملائكة رجالاً مارّين ببيته فنزلوا عنده للاستراحة والطعام والمبيت .

والاستفهام في { أليس منكم رجل رشيد } إنكار وتوبيخ لأنّ إهانة الضيف مسبّة لا يفعلها إلاّ أهل السفاهة .

وقوله : { منكم } بمعنى بعضكم أنكر عليهم تمالؤهم على الباطل وانعدام رجل رشيد من بينهم ، وهذا إغراء لهم على التعقل ليظهر فيهم من يتفطّن إلى فساد ما هم فيه فينهاهم ، فإنّ ظهور الرشيد في الفئة الضالة يفتح باب الرشاد لهم . وبالعكس تمالؤُهم على الباطل يزيدهم ضراوة به .