تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (100)

{ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب ، وبيان ما فيها من المصالح ، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته ، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة ، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين ، والسعة على مصالح الدنيا .

وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة ، وفقرًا بعد الغنى ، وذلا بعد العز ، وشدة بعد الرخاء .

والأمر ليس كذلك ، فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في غاية النقص ، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة ونحوها ، ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل ، وتوابع ذلك ، لعدم تمكنه من ذلك ، وهو بصدد أن يفتن عن دينه ، خصوصا إن كان مستضعفًا .

فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم ، فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل ، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه ، وقد وقع كما أخبر الله تعالى .

واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله ، كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من الإيمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين الله ، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم ، وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم ، ما كانوا به أغنى الناس ، وهكذا كل من فعل فعلهم ، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة .

ثم قال : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : قاصدا ربه ورضاه ، ومحبة لرسوله ونصرًا لدين الله ، لا لغير ذلك من المقاصد { ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ } بقتل أو غيره ، { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي : فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى ، وذلك لأنه نوى وجزم ، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل ، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملاً ولو لم يكملوا العمل ، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها .

ولهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات ، خصوصا التائبين المنيبين إلى ربهم .

{ رَحِيمًا } بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال والبنين والقوة ، وغير ذلك . رحيمًا بالمؤمنين حيث وفقهم للإيمان ، وعلمهم من العلم ما يحصل به الإيقان ، ويسر لهم أسباب السعادة والفلاح وما به يدركون غاية الأرباح ، وسيرون من رحمته وكرمه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بشر ما عندنا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (100)

جملة { ومن يهاجر } عطف على جملة { إنّ الذين توفّاهم الملائكة } [ النساء : 97 ] ، و ( مَن ) شرطية . والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله . والسبيل استعارة معروفة ، وزادها قبولاً هنا أنّ المهاجرة نوع من السير ، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية . والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض ، وفعل راغم مشتقّ من الرّغام بفتح الراء وهو التراب . أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره ، ولعلّ أصله أنّه أبقاه على الرغام ، أي التراب ، أي يجِد مكاناً يُرْغم فيه من أرغمه ، أي يَغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر ، قال الحارث بن وعلة الذهلي :

لا تأمنَنْ قوماً ظلمتهم *** وبدأتهم بالشتم والرغــم

إن يأبِرُوا نَخْلاً لغيرهم *** والشيءُ تحقره وقد ينمي

أي أن يكونوا عوْناً للعدوّ على قومهم . ووصفُ المراغم بالكثير لأنّه أريد به جنس الأمكنة . والسعة ضد الضيق ، وهي حقيقةً اتّساعُ الأمكنة ، وتطلق على رفاهية العيش ، فهي سعة مجازية . فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير ، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنّه يجده ملائماً من جهة أرضاء النفس ، ومن جهة راحة الإقامة .

ثم نوّه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلاً بمجرّد الخروج من بلد الكفر ، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجَر إليه . بقوله : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } الخ . ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله . وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للإلتحاق بالرسول وتعزيز جانبه ، لأنّ الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصّل على نصرة الرسول ، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجَرهُ إلى المدينة .

ومعنى { يدركه الموت } ، أي في الطريق ، ويجوز أن يكون المعنى : ثم يدركه الموت مهاجراً ، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصحّ ، وقد اختلف في الهجرة المرادة من هذه الآية : فقيل : الهجرة إلى المدينة ، وقيل : الهجرة إلى الحبشة . واختلف في المعني بالموصول من قوله : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } . فعند من قالوا إنّ المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فلمّا نزل قوله تعالى : { إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم إلى قوله : وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 97 100 ] كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين من أهل مكة ، وكان هذا الرجل مريضاً ، فقال : إني لَذو مال وعبيد ، فدعا أبناءَه وقال لهم : احملوني إلى المدينة .

فحملوه على سرير ، فلمّا بلغ التنعيم توفّي ، فنزلت هذه الآية فيه ، وتعمّ أمثاله ، فهي عامّة في سياق الشرط لا يخصّصها سبب النزول .

وكان هذا الرجل من كنانة ، وقيل من خزاعة ، وقيل من جُنْدَع ، واختلف في اسمه على عشرة أقوال : جندب بن حمزة الجندعي ، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي . ضمرة بن بغيض الليثي ، ضمرة بن جندب الضمْري ، ضمرة بن جندب الضمْري ، ضمرة بن ضمرة بن نعيم . ضمرة من خزاعة ( كذا ) . ضمرة بن العيص . العيص بن ضمرة بن زنباع ، حبيب بن ضمرة ، أكثم بن صيفي .

والذين قالوا : إنّها الهجرة إلى الحبشة قالوا : إنّ المعنيّ بمن يخرج من بيته خالد بن حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أمّ المؤمنين ، خرج مهاجراً إلى الحبشة فنهشته حيّة في الطريق فمات . وسياق الشرط يأبى هذا التفسير .