تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا *وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }

هاتان الآيتان أصل في رخصة القصر ، وصلاة الخوف ، يقول تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : في السفر ، وظاهر الآية [ أنه ] يقتضي الترخص{[225]}  في أي سفر كان ولو كان سفر معصية ، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، وخالف في ذلك الجمهور ، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم ، فلم يجوزوا الترخص{[226]}  في سفر المعصية ، تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة ، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا ، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف .

وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } أي : لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك ، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل ، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس ، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى آخر الآية .

وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة ، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة ، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه .

ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران :

أحدهما : ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره .

والثاني : أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد ، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته .

وقوله : { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان :

إحداهما : أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود ، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ ، فإتيانه بقوله : { مِنَ الصَّلَاةِ } ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط ، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

الثانية : أن { من } تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها ، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين .

فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة ، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد ، وهو قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما ، السفر مع الخوف .

ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله : { أَنْ تَقْصُرُوا } قصر العدد فقط ؟ أو قصر العدد والصفة ؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول .

وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا ؟ أي : والله يقول : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أو كما قال .

فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها ، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد .

وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر ، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة ، وهي اجتماع السفر والخوف ، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده ، الذي هو مظنة المشقة .

وأما على الوجه الثاني ، وهو أن المراد بالقصر : قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه ، فإذا وجد السفر والخوف ، جاز قصر العدد ، وقصر الصفة ، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط ، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة . ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ }


[225]:- في ب: الترخيص.
[226]:- في ب: الترخيص.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

انتقال إلى تشريع آخر بمناسبة ذكر السفر للخروج من سلطة الكفر ، على عادة القرآن في تفنين أغراضه ، والتماس مناسباتها . والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها . والضرب في الأرض : السفر .

( وإذا ) مضمّنة معنى الشرط كما هو غالب استعمالها ، فلذلك دخلت الفاء على الفعل الذي هو كجواب الشرط . ( وإذا ) منصوبة بفعل الجواب .

وقصر الصلاة : النقص منها ، وقد عُلم أنّ أجزاء الصلاة هي الركعات بسجداتها وقراءاتها ، فلا جرم أن يعلم أنّ القصر من الصلاة هو نقص الركعات ، وقد بيّنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ صيّر الصلاة ذات الأربع الركعات ذات ركعتين . وأجملت الآية فلم تعيّن الصلوات التي يعتريها القصر ، فبيّنته السنّة بأنّها الظهر والعصر والعشاء . ولم تقصر الصبح لأنّها تصير ركعة واحدة فتكون غير صلاة ، ولم تقصر المغرب لئلاّ تصير شفعاً فإنّها وتر النهار ، ولئلاّ تصير ركعة واحدة كما قلنا في الصبح .

وهذه الآية أشارت إلى قصر الصلاة الرباعية في السفر ، ويظهر من أسلوبها أنّها نزلت في ذلك ، وقد قيل : إنّ قصر الصلاة في السفر شُرع في سنة أربع من الهجرة وهو الأصحّ ، وقيل : في ربيع الآخر من سنة اثنتين ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوماً . وقد روى أهل الصحيح قول عائشة رضي الله عنها : فُرِضت الصلاة ركعتين فأقِرّت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر ، وهو حديث بيّن واضح . ومحمل الآية على مقتضاه : أنّ الله تعالى لمّا فرض الصلاة ركعتين فتقرّرت كذلك فلمّا صارت الظهر والعصر والعشاء أربعاً نسخ ما كان من عددها ، وكان ذلك في مبدأ الهجرة ، وإذ قد كان أمر الناس مقاماً على حالة الحضر وهي الغالب عليهم ، بطل إيقاع الصلوات المذكورات ركعتين ، فلمّا غزوا خفف الله عنهم فأذنهم أن يصلّوا تلك الصلوات ركعتين ركعتين ، فلذلك قال تعالى : { فليس عليكم جناح } وقال : { أن تقصروا من الصلاة } وإنّما قالت عائشة « أقرت صلاة السفر » حيث لم تتغيّر عن الحالة الأولى ، وهذا يدلّ على أنّهم لم يصلّوها تامّة في السفر بعد الهجرة ، فلا تعارض بين قولها وبين الآية .

وقوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } شرط دلّ على تخصيص الإذن بالقصر بحَال الخوف من تمكّن المشركين منهم وإبطالِهم عليهم صلاتهم ، وأنّ الله أذن في القصر لتقع الصلاة عن اطمئنان ، فالآية هذه خاصّة بقصر الصلاة عند الخوف ، وهو القصر الذي له هيئة خاصّة في صلاة الجماعة ، وهذا رأي مالك ، يدلّ عليه ما أخرجه في « الموطأ » : أنّ رجلاً من آل خالد بن أسِيد سأل عبد الله بن عُمر « إنّا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر » ، فقال ابن عمر : « يابن أخي إنّ الله بعث إلينا محمداً ولا نعلم شيئاً فإنّما نفعل كما رأيناه يفعل » ، يعني أنّ ابن عمر أقرّ السائل وأشعره بأنّ صلاة السفر ثبتت بالسنّة ، وكذلك كانت ترى عائشة وسعد بن أبي وقّاص أنّ هذه الآية خاصّة بالخوف ، فكانا يكمّلان الصلاة في السفر .

وهذا التأويل هو البيّن في محمل هذه الآية ، فيكون ثبوت القصر في السفر بدون الخوف وقصر الصلاة في الحضر عند الخوف ثابتين بالسنّة ، وأحدهما أسبق من الآخر ، كما قال ابن عمر . وعن يعلى بن أمية أنّه قال : قلت لعمر بن الخطاب : إنّ الله تعالى يقول : { إن خفتم } وقد أمِن الناس . فقال : عجبتُ ممّا عجبتَ منه فسألتُ رسول الله عن ذلك فقال " صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقَته " . ولا شكّ أنّ محمل هذا الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ عمرَ على فهمه تخصيصَ هذه الآية بالقصر لأجل الخوف ، فكان القصر لأجل الخوف رخصة لدفع المشقّة ، وقوله : له صدقة الخ ، معناه أنّ القصر في السفر لغير الخوف صدقة من الله ، أي تخفيف ، وهو دون الرخصة فلا تردّوا رخصته ، فلا حاجة إلى ما تَمَحّلوا به في تأويل القيد الذي في قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وتقتصر الآية على صلاة الخوف ، ويستغني القائلون بوجوب القصر في السفر مثل ابن عباس ، وأبي حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، وإسماعيل بن إسحاق من المالكية ؛ والقائلون بتأكيد سنّة القصر مثل مالك بن أنس وعامّة أصحابه ، عن تأويل قوله : { فليس عليكم جناح } بما لا يلائم إطلاق مثل هذا اللفظ . ويكون قوله : { وإذا ضربتم في الأرض } إعادة لتشريع رخصة القصر في السفر لقصد التمهيد لقوله : { وإذا كنت فيهم } الآيات .

أمّا قصر الصلاة في السفر فقد دلّت عليه السنّة الفعلية ، واتَّبعه جمهور الصحابة إلاّ عائشة وسعدَ بن أبي وقاص ، حتّى بالغ من قال بوجوبه من أجل حديث عائشة في « الموطأ » و« الصحيحين » لدلالته على أنّ صلاة السفر بقيت على فرضها ، فلو صلاّها رباعية لكانت زيادة في الصلاة ، ولقول عمر فيما رواه النسائي وابن ماجة : صلاة السفر ركعتان تمامٌ غيرُ قصر . وإنّما قال مالك بأنّه سنّة لأنّه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر إلاّ القصر ، وكذلك الخلفاء من بعده . وإنّما أتمّ عثمان بن عفّان الصلاة في الحج خشية أن يتوهّم الأعراب أنّ الصلوات كلّها ركعتان . غير أنّ مالكاً لم يقل بوجوبه من أجل قوله تعالى : { فليس عليكم جناح } لمنافاته لصيغ الوجوب . ولقد أجاد محامل الأدلّة .

وأخْبِر عن الكافرين وهو جمع بقوله : { عَدُوّاً } وهو مفرد . وقد قدّمنا ذلك عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدوَ لكم } [ النساء : 92 ] .