ثم قال : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } أي : ظاهرا وباطنا { وَآتُوا الزَّكَاةَ } مستحقيها ، { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : صلوا مع المصلين ، فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله ، فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة ، وبين الإخلاص للمعبود ، والإحسان إلى عبيده ، وبين العبادات القلبية البدنية والمالية .
وقوله : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : صلوا مع المصلين ، ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها ، وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع ، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 )
وقد تقدم القول في الصلاة ، و { الزكاة } في هذه الآية هي المفروضة بقرينة إجماع الأمة على وجوب الأمر بها ، و { الزكاة } مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد ، وسمي الإخراج من المال زكاة( {[548]} ) وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثيب الله به المزكي وقيل { الزكاة } مأخوذة من التطهير ، كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة أو الاغفال ، فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى في الموطأ ما يخرج في الزكاة أوساخ الناس( {[549]} ) .
وقوله تعالى : { واركعوا مع الراكعين } قال قوم : جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة كلها .
وقال قوم : إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع( {[550]} ) .
وقالت فرقة : إنما قال { مع } لأن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتض شهود الجماعة ، فأمرهم بقوله { مع } بشهود الجماعة ، والركوع في اللغة الانحناء بالشخص .
أخبر أخبار القرون التي مضت . . . أدبُّ كأني كلما قمت راكع
ويستعار أيضاً في الانحطاط في المنزلة ، قال الأضبط بن قريع : [ الخفيف ]
أمرٌ بالتلبس بشعار الإسلام عقب الأمر باعتقاد عقيدة الإسلام فقولُه : { وآمنوا بما أنزلت } [ البقرة : 41 ] الآية راجع إلى الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم وما هو وسيلة ذلك وما هو غايته ، فالوسيلة { اذْكروا نعمتي- إلى- فارهبون } [ البقرة : 40 ] والمقصدُ { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم } ، والغاية { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } . وقد تخلل ذلك نهي عن مفاسد تصدهم عن المأمورات مناسباتٍ للأوامر . فقوله : { وأقيموا الصلاة } إلخ أمر بأعظم القواعد الإسلامية بعد الإيمان والنطق بكلمة الإسلام ، وفيه تعريض بحسن الظن بإجابتهم وامتثالهم للأوامر السالفة وأنهم كملت لهم الأمور المطلوبة . وفي هذا الأمر تعريض بالمنافقين ، ذلك أن الإيمان عقد قلبي لا يدل عليه إلا النطق ، والنطقُ اللساني أمر سهل قد يقتحمه من لم يعتقد إذا لم يكن ذا غلو في دينه فلا يتحرج أن ينطق بكلام يخالف الدين إذا كان غير معتقد مدلوله كما قال تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] الآية ، فلذلك أمروا بالصلاة والزكاة لأن الأولى عمل يدل على تعظيم الخالق والسجود إليه وخلع الآلهة ، ومثل هذا الفعل لا يفعله المشرك لأنه يغيظ آلهته بالفعل وبقول الله أكبر ولا يفعله الكتابي لأنه يخالف عبادته ، ولأن الزكاة إنفاق المال وهو عزيز على النفس فلا يبذله المرء في غير ما ينفعه إلا عن اعتقاد نفع أخروي لا سيما إذا كان ذلك المال ينفق على العدو في الدين ، فلذلك عقب الأمر بالإيمان بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنهما لا يتجشمهما إلا مؤمن صادق . ولذلك جاء في المنافقين { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } [ النساء : 142 ] وقوله : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } [ الماعون : 4 ، 5 ] وفي « الصحيح » أن صلاة العشاء أثقل صلاة على المنافقين .
وفي هذه الآية دليل لمالك على قتل من يمتنع من أداء الصلاة مع تحقق أنه لم يؤدها من أول وقت صلاة من الصلوات إلى خروجه إذا كان وقتاً متفقاً بين علماء الإسلام ، لأنه جَعل ذلك الامتناع مع عدم العذر دليلاً على انتفاء إيمانه ، لكنه لما كان مصرحاً بالإيمان قال مالك : إنه يقتل حداً جمعاً بين الأدلة ومنعها لذريعة خرم الملة . ويوشك أن يكون هذا دليلاً لمن قالوا بأن تارك الصلاة كافر لولا الأدلة المعارضة .
وفيها دليل لما فعل أبو بكر رضي الله عنه من قتال مانعي الزكاة وإطلاق اسم المرتدين عليهم ؛ لأن الله جعل الصلاة والزكاة أمارة صدق الإيمان إذ قال لبني إسرائيل { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ولهذا قال أبو بكر لما راجعه عمر في عزمه على قتال أهل الردة حين منعوا إعطاء الزكاة وقال له : كيف تقاتلهم وقد قالوا : لا إله إلا الله وقد قال رسول الله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " فقال أبو بكر : لآقاتلن من فَرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ، فحصل من عبارته على إيجازها جواب عن دليل عمر .
وقوله : { واركعوا مع الراكعين } تأكيد لمعنى الصلاة لأن لليهود صلاة لا ركوع فيها فلكي لا يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله : { واركعوا مع الراكعين } .
والركوع طأْطأَة وانحناء الظهر لقصد التعظيم أو التبجيل ، وقد كانت العرب تفعله لبعض كبرائهم ، قال الأعشى :
إذا مَا أتانا أبو مالك *** رَكَعْنَا له وخَلَعْنا العِمَامه
( وروي سجدنا له وخلعنا العمارا ، والعمار هو العمامة ) .
وقوله : { مع الراكعين } إيماء إلى وجوب ممثالة المسلمين في أداء شعائر الإسلام المفروضة فالمراد بالراكعين المسلمون وفيه إشارة إلى الإتيان بالصلاة بأركانها وشرائطها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.