تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ} (18)

{ 18-19 } { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ }

أي : ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي { فَاتَّبِعْهَا } فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح ، { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي : الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه ، وهم كل من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين لا يعلمون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ} (18)

المعنى : { ثم جعلناك على شريعة } ، فلا محالة أنه سيختلف عليك كما تقدم لبني إسرائيل فاتبع شريعتك ، والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] .

وفي الشرائع من جيلان مقتنص . . . رث الثياب خفيّ الشخص منسرب{[10269]}

فشريعة الدين هي من ذلك ، كأنها من حيث يرد الناس أمر الحدود ورحمته والقرب منه . وقال قتادة : الشريعة : الفرائض والحدود والأمر والنهي .

وقوله : { من الأمر } يحتمل أن يكون واحد الأمور أي من دون الله ونبواته التي بثها في سالف الزمان ، ويحتمل أن يكون مصدراً من أمر يأمر ، أي على شريعة من الأوامر والنواهي ، فسمى جميع ذلك أمراً . و { الذين لا يعلمون } هم الكفار الذين كانوا يريدون صرف محمد صلى الله عليه وسلم إلى إرادتهم .


[10269]:هذا البيت شاهد على أن الشريعة هي الموضع الذي يرد فيه الناس إلى الأنهار والمياه فيشربون ويستقون، وهو في اللسان(زرب)، وقد نسبه إلى ذي الرمة، والرواية فيه: وبالشمائل من جلان مقتنص رذل الثياب خفي الشخص منزرب قال:"والزرب والزريبة": بئر يحتفرها الصائد، يكمن فيها للصيد، وفي الصحاح: انزرب الصائد في قترته: دخل: قال ذو الرمة:"وبالشمائل من جلان..." البيت، وجلان: قبيلة"اهـ. وعلى هذا فلا شاهد فيه هنا، أما على رواية"وفي الشرائع" فإن الشريعة هي الموضع الذي يُنحدر منه إلى الماء، جاء في اللسان(شرع):"شرع الوارد يشرع وشروعا: تناول الماء بفيه، وشرعت الدواب في الماء: دخلت، والشريعة والشِراع والمشرعة: المواضع التي ينحدر إلى الماء منها، قال الليث: وبها سمي ما شرع الله للعباد شريعة"اهـ.وجيْلان-بفتح الجيم وبياء ساكنة كما ضبطه الحموي في معجم البلدان- هم قوم من أبناء فارس انتقلوا إلى نواحي اصطخر فزلوا بطرف من البحرين فغرسوا وزرعوا وحفروا وأقاموا هناك، فنزل عليهم قوم من بني عِجل فدخلوا فيهم، وهذا يتفق مع قول اللسان: جَلاّن: قبيلة. والمقتنص: الصائد، والشخص: كل جسم له ارتفاع وظهور، وغلب في الإنسان، وانسرب: اختفى في شيء،يقول: إن في موارد المياه صائد من قبيلة جلان يخفي شخصه، ويدخل في قُترته ويبقى في انتظار فرائسه. وهذا وقد سبق الاستشهاد بهذا البيت في تفسير قوله تعالى في الآية(48) من سورة (المائدة):{لكل جعلنا منكم شِرعة ومنهاجا}. راجع الجزء الرابع صفحة(470).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ} (18)

{ ثم } للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو . وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف { ثم } أهم من مضمون الجملة المعطوفِ عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجةِ على الدليل . وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة والبّيناتِ من الأمر ، فنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وكتابُه وحُكمه وبَيناته أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك .

و { على } للاستعلاء المجازي ، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] .

وتنوين { شريعة } للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي .

والشريعة : الدين والملة المتَّبعة ، مشتقة من الشرع وهو : جَعل طريق للسير ، وسمي النهج شَرعاً تسميةً بالمصدر . وسُميت شَريعة الماء الذي يرده الناس شريعةً لذلك ، قال الراغب : استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيهاً بشريعة الماء قلتُ : ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير .

و { الأمر } : الشأن ، وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى ، قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] ، فتكون { مِن } تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفاً { وآتيناهم بينات من الأمر } [ الجاثية : 17 ] لأن إضافة { شريعة } إلى { الأمر } تمنع من ذلك .

وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغاً عظيماً إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى ، وأنها شريعة عظيمة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدَأب في بيانها والدعوة إليها . ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله : { فاتّبعها } أي دُم على اتباعها ، فالأمر لطلب الدوام مثل { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] .

وبين قوله : { فاتبعها } وقوله : { ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } محسِّن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر . و { الذين لا يعلمون } هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهاه هواه } [ الجاثية : 23 ] .

والأهواء : جمع هوى ، وهو المحبة والميل . والمعنى : أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين .

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه : إسماع المشركين لئلا يطمعوا بمصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إيَّاهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحِينَ يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] . وفيه أيضاً تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون . وعن ابن عباس « أنها نزلت لمّا دعته قريش إلى دين آبائه » قال البغوي : كانوا يقولون له : ارجع إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك .