{ 17 - 18 ْ } { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ْ }
يقول تعالى : { مَا كَانَ ْ } أي : ما ينبغي ولا يليق { لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ْ } بالعبادة ، والصلاة ، وغيرها من أنواع الطاعات ، والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر بشهادة حالهم وفطرهم ، وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل .
فإذا كانوا { شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ْ } وعدم الإيمان ، الذي هو شرط لقبول الأعمال ، فكيف يزعمون أنهم عُمَّارُ مساجد اللّه ، والأصل منهم مفقود ، والأعمال منهم باطلة ؟ " .
ولهذا قال : { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ْ } أي : بطلت وضلت { وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ْ }
وقوله تعالى { ما كان للمشركين } الآية{[5557]} ، معناه ما كان للمشركين بحق الواجب أن يعمروا ، وهذا هو الذي نفى الله عز وجل وإلا فقد عمروا مساجده قديماً وحديثاً وتغلباً وظلماً ، وقرأ حماد بن أبي سلمة عن ابن كثير والجحدري «مسجد الله » بالإفراد في الموضعين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وقتادة وغيرهم «مساجد » بالجمع في الموضعين ، وقرأ ابن كثير أيضاً وأبو عمرو «مسجد » بالإفراد في هذا الموضع الأول و «مساجد » بالجمع في الثاني ، كأنه ذكر أولاً فيه النازلة ذلك الوقت ، ثم عمت المساجد ثانياً في الحكم الثابت ما بقيت الدنيا ، ولفظ الجمع يقتضي عموم المساجد كلها ، ويحتمل أن يراد به المسجد الحرام في الموضعين وحده على أن يقدر كل موضع سجود فيه مسجداً ثم يجمع ، ولفظ الإفراد في الموضعين يقتضي خصوص المسجد الحرام وحده ، ويحتمل أن يراد به الجنس فيعم المساجد كلها ولا يمنع من ذلك إضافته كما ذهب إليه من لا بصر له ، وقال أبو علي الثاني في هذه القراءة يراد به الأول وسائر المساجد كلها حكمها حكم المسجد الحرام ، وقوله { شاهدين على أنفسهم بالكفر } إشارة إلى حالهم إذ أقوالهم وأفعالهم تقتضي الإقرار بالكفر والتحلي به ، وقيل الإشارة إلى قولهم في التلبية إلا شريك هو لك ونحو ذلك ، وحكى الطبري عن السدي أنه قال : الإشارة إلى أن النصراني كان يقول أن نصراني واليهودي كذلك والوثني يقول أنا مشرك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لم يحفظ ، ثم حكم الله تعالى عليهم بأن أعمالهم { حبطت } أي بطلت ولا أحفظها تستعمل إلا في السعي والعمل ، ويشبه أن يكون من الحبط وهو داء قاتل يأخذ السائمة إذا رعت وبيلاً وهو الذي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم » الحديث{[5558]} .
هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين ، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل ، وهو مرتبط بما تضمّنته البراءة في قوله : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } [ التوبة : 1 ] ولِمَا اتّصَل بتلك الآية من بيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق : أنْ لا يَحُج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان . وهو توطئة لقوله : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] .
وتركيب ( ما كان لهم أن يفعلوا ) يدلّ على أنّهم بُعداء من ذلك ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة } في سورة آل عمران ( 79 ) ، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات .
و{ مَساجد الله } مواضع عبادته بالسجود والركوع : المراد المسجدُ الحرام وما يتبعه من المسعى ، وعرفةُ ، والمشعرُ الحرام ، والجَمَرات ، والمَنْحر من منى .
وعمْر المساجد : العبادةُ فيها لأنّها إنّما وضعت للعبادة ، فعَمْرها بمن يحلّ فيها من المتعبّدين ، ومن ذلك اشتقّت العُمرة ، والمعنى : ما يحقّ للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله . وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين : إيماء إلى أنّ الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله .
وقد جاء الحال في قوله : { شاهدين على أنفسهم بالكفر } مبيِّناً لسبب براءتهم من أن يعمروا مساجد الله ، وهو حال من ضمير { يعمروا } فبين عامل الضمير وهو { يعمروا } الداخلُ في حكم الانتفاء ، أي : انتفى تأهّلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله ، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده .
والمراد بالكفر : الكفر بالله ، أي بوحدانيته ، فالكفر مرادف للشرك ، فالكفر في حدّ ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابِه مساجد الله ، لأنّها مساجد الله فلا حقّ لغير الله فيها ، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره ، وأقام إبراهيم عليه السلام أوّل مسجد وهو الكعبة عنواناً على التوحيد ، وإعلاناً به ، كما تقدّم في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ) ، فهذه أوّل درجة من الحرمان . ثم كونُ كفرهم حاصلاً باعترافهم به موجبٌ لانتفاء أقلّ حظ من هذه العمارة ، وللبراءة من استحقاقها ، وهذه درجة ثانية من الحرمان .
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم ، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك ، مثل قولهم في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ، ومثل سجودهم للأصنام ، وطوافهم بها ، ووضعهم إيّاها في جوف الكعبة وحولَها وعلى سطحها .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بإفراد { مسجد الله } أي المسجد الحرام وهو المقصود ، أو التعريف بالإضافة للجنس . وقرأ الباقون : { مسَاجد الله } ، فيعمّ المسجد الحرام وما عددناه معه آنفاً .
وجملة { أولئك حبطت أعمالهم } ابتداءُ ذم لهم ، وجيء باسم الإشارة لأنّهم قد تميّزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] بعد قوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] الآية .
و { حبطت } بطلت ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } في سورة البقرة ( 217 ) .
وتقديم { في النار } على { خالدون } للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.