تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗاۖ وَلَا تُسۡـَٔلُ عَنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡجَحِيمِ} (119)

ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها ، وهي ترجع إلى ثلاثة أمور :

الأول : في نفس إرساله ، والثاني : في سيرته وهديه ودله ، والثالث : في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة .

فالأول والثاني ، قد دخلا في قوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ } والثالث دخل في قوله : { بِالْحَقِّ }

وبيان الأمر الأول وهو - نفس إرساله - أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران ، والصلبان ، وتبديلهم للأديان ، حتى كانوا في ظلمة من الكفر ، قد عمتهم وشملتهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، قد انقرضوا قبيل البعثة .

وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى ، ولم يتركهم هملا ، لأنه حكيم عليم ، قدير رحيم ، فمن حكمته ورحمته بعباده ، أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم ، يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له ، فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه ، وهو آية كبيرة على أنه رسول الله ، وأما الثاني : فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة ، وعرف سيرته وهديه قبل البعثة ، ونشوءه على أكمل الخصال ، ثم من بعد ذلك ،

قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين ، فمن عرفها ، وسبر أحواله ، عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين ، لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم .

وأما الثالث : فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع العظيم ، والقرآن الكريم ، المشتمل على الإخبارات الصادقة ، والأوامر الحسنة ، والنهي عن كل قبيح ، والمعجزات الباهرة ، فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة .

قوله : { بَشِيرًا } أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية ، { نَذِيرًا } لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي .

{ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } أي : لست مسئولا عنهم ، إنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗاۖ وَلَا تُسۡـَٔلُ عَنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡجَحِيمِ} (119)

{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }( 119 )

المعنى { بشيراً } لمن آمن ، { ونذيراً } لمن كفر ، وقرأ( {[1192]} ) نافع وحده «ولا تسألْ » بالجزم على النهي ، وفي ذلك معنيان : أحدهما لا تسأل على جهة التعظيم لحالهم من العذاب ، كما تقول : فلان لا تسأل عنه ، تعني أنه في نهاية تشهره من خير أو شر ، والمعنى الثاني( {[1193]} ) روي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ليت شعري ما فعل أبواي » فنزلت { ولا تسأل }( {[1194]} ) .

وحكى المهدوي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ليت شعري أي أبوي أحدث موتاً » ، فنزلت( {[1195]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ ممن رواه أو ظنه لأن أباه مات وهو في بطن أمه ، وقيل وهو ابن شهر ، وقيل ابن شهرين ، وماتت أمه بعد ذلك بخمس سنين منصرفة به من المدينة من زيارة أخواله ، فهذا مما لا يتوهم أنه خفي عليه صلى الله عليه وسلم ، وقرأ باقي السبعة «ولا تُسألُ » بضم التاء واللام ، وقرأ قوم «ولا تَسألُ » بفتح التاء وضم اللام ، ويتجه في هاتين القراءتين معنيان : أحدهما الخبر أنه لا يسأل عنهم ، أو لا يسأل هو عنهم ، والآخر أن يراد معنى الحال كأنه قال : وغير مسؤول( {[1196]} ) أو غير سائل( {[1197]} ) عنهم ، عطفاً على قوله { بشيراً ونذيراً } ، وقرأ أبي بن كعب «وما تسأل » وقرأ ابن مسعود «ولن تسأل » ، وهاتان القراءتان تؤيدان معنى القطع والاستئناف في غيرهما( {[1198]} ) ، و { الجحيم } إحدى طبقات النار .


[1192]:- ذكر الواحدي في الوسيط أن نافعا قرأ (تسأل) بفتح التاء وجزء اللام على النهي للنبي صلى الله عليه وسلم. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن قبر أبيه وأمه فدله عليهما، فذهب إلى القبرين ودعا لهما وتمنى أن يعرف حال أبويه في الآخرة فنزلت الآية، وهذا ما ذكره، والذي نعتقده ونتقرب به إلى الله تعالى نجاتهما لما بينه الحافظ السيوطي في مؤلفاته في هذا الموضوع، فإنه قد أزال كل شبهة رضي الله عنه وأرضاه.
[1193]:- هذا المعنى الثاني ذكر فيه المؤلف قولين – الأول ما روي عن محمد بن كعب القرظي- والثاني ما حكاه المهدوي رحمه الله، وقد اعترض على الثاني وخطأه.
[1194]:- رواه عبد الرزاق، وابن جرير بسندهما عن محمد بن كعب القرظي، قال الحافظ السيوطي فيما رواه عبد الرزاق: إنه مرسل ضعيف الإسناد، وفيما رواه ابن جرير: إنه معضل الإسناد ضعيف لا تقوم بهما حجة. وقد رد ابن جرير رحمه الله ما روي عن محمد ابن كعب وغيره، انظره.
[1195]:- ما حكاه المهدوي من رواية: (أي أبوي أحدث موتا) هراء من القول، ولذلك اعترض عليه ابن عطية رحمه الله بلهجة حادة.
[1196]:- أي أنه لا يكون مسؤلا ولا مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار.
[1197]:- يعني أن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم، وفي هذا ما يدل على أن أحدا لا يسأل عن ذنب أحد، (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
[1198]:- قال (ح) قراءة الجمهور وقراءة أبي بن كعب تحتمل الاستئناف وهو الأظهر، وتحتمل أن تكون في موضع الحال- وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف، والمعنى على الاستئناف أنك لا تسأل عن الكفار ما لهم لم يؤمنوا، لأن ذلك ليس إليك، إن عليك إلا البلاغ، فكأنه قيل: لست مسئولا عنهم فلا يحزنك كفرهم، وأما قراءة نافع فهي على الاستئناف- تأمل، والله أعلم.