{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }
يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر ، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد ، ولا يشق فعلها ، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات ، لتخف عليه العبادات ، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه .
ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي : ما وُظِّف عليهم في كل وقت بحسبه ، فبذلوا هممهم ، ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله ، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه ، ولم يكونوا بصدده ، وهذا هو الذي ينبغي للعبد ، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها ، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا ، وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد ، فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة ، وحصول الكسل وعدم النشاط .
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } تعرضوا بها للقتل في الجهاد ، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا . { أو اخرجوا من دياركم } خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك ، أو اخرجوا بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى : { ولا تنسووا الفضل } وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل . { ما فعلوه إلا قليل منهم } إلا أناس قليل وهم المخلصون . لما بين أن إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم ، نبه على قصور أكثرهم ووهن إسلامهم ، والضمير للمكتوب ودل عليه كتبنا ، أو لأحد مصدري الفعلين -وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلا قليلا . { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطاوعته طوعا ورغبة . { لكان خيرا لهم } في عاجلهم وآجلهم . { وأشد تثبيتا } في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم ونفي الشك أو تثبيتا لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز . والآية أيضا مما نزلت في شأن المنافق اليهودي . وقيل إنها والتي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيرا في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال حاطب : لأن كان ابن عمتك . فقال عليه الصلاة والسلام أسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر واستوف حقك ، ثم أرسله إلى جارك " .
لم يظهر وجه اتّصاله بما قبله ليعطف عليه ، لأنّ ما ذكر هنا ليس أولى بالحكم من المذكور قبله ، أي ليس أولى بالامتثال حتّى يقال : لو أنّا كلّفناهم بالرضا بما هو دون قطع الحقوق لما رضوا ، بل المفروض هنا أشدّ على النفوس ممّا عصوا فيه . فقال جماعة من المفسّرين : وجه اتّصالها أنّ المنافق لمّا لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وأراد التحاكم إلى الطاغوت ، وقالت اليهود : ما أسخف هؤلاء يؤمنون بمحمّد ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمَرنَا نبيئُنا بقتل أنفسنا ففعلنْا وبلغت القتلى منّا سبعين ألفاً ؛ فقال ثابت بن قيس بن شماس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا ، فنزلت هذه الآية تصديقاً لثابت بن قيس ، ولا يخفى بعده عن السياق لأنّه لو كان كذلك لما قيل { ما فعلوه إلاّ قليل منهم } بل قيل : لفعله فريق منهم . وقال الفخر : هي توبيخ للمنافقين ، أي لو شدّدنا عليهم التكليف لما كان من العجب ظهور عنادهم ، ولكنّا رحمناهم بتكليفهم اليسر فليْتركوا العناد . وهي على هذا الوجه تصلح لأن تكون تحريضاً للمؤمنين على امتثال الرسول وانتفاء الحرج عنهم من أحكامه ، فإنّه لم يكلّفهم إلاّ اليسر ، كلّ هذا محمول على أنّ المراد بقتل النفوس أن يقتل أحد نفسه بنفسه .
وعندي أنّ ذكر ذلك هنا من براعة المقطع تهيئة لانتقال الكلام إلى التحريض على الجهاد الآتي في قوله : { يأيّها الذين آمنوا خذوا حذركم } [ النساء : 71 ] وأنّ المراد ب { اقتلوا أنفسكم } : ليقتل بعضكم بعضاً فإنّ المؤمنين يقاتلون قومهم وأقاربهم من المشركين في الجهاد المأمور به بدليل قوله : { ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به } الآية . والمراد بالخروج من الديار الهجرة ، أي كتبنا عليهم هجرة من المدينة ، وفي هذا تنويه بالمهاجرين والمجاهدين .
وقرأ الجمهور { إلاّ قليل } بالرفع على البدل من الواو في { ما فعلوه } على الاستثناء . وقرأه ابن عامر بالنصب على أحد وجهي الاستثناء من الكلام المنفي .
ومعنى { ما يوعظون به } علم من قوله : { فأعرض عنهم وعظهم } [ النساء : 63 ] ، أي ما يؤمرون به أمر تحذير وترقيق ، أي مضمون ما يوعظون لأنّ الوعظ هو الكلام والأمر ، والمفعول هو المأمور به ، أي لو فعلوا كلّ ما يبلّغهم الرسول ، ومن ذلك الجهاد والهجرة . وكونُه خيراً أنّ فيه خير الدنيا لأنّ الله يعلم وهم لا يعلمون .
ومعنى كونه { أشدّ تثبيتاً } يحتمل أنّه التثبيت على الإيمان وبذلك فسّروه ويحتمل عندي أنّه أشدّ تثبيتاً لهم ، أي لبقائهم بين أعدائهم ولعزّتهم وحياتهم الحقيقية فإنّهم إنّما يكرهون القتال استبقاء لأنفسهم ، ويكرهون المهاجرة حبّاً لأوطانهم ، فعلّمهم الله أنّ الجهاد والتغرب فيه أو في غيره أشدّ تثبيتاً لهم ، لأنّه يذود عنهم أعداءهم ، كما قال الحصين بن الحُمَام :
تأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدّما
وممّا دلّ على أنّ المراد بالخير خير الدنيا ، وبالتثبيت التثبيت فيها ، قوله عاطفاً عليه { وإذن لآتيناهُم من لَدُنَّا أجراً عظيماً } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.