{ ذَلِكُمْ } الذي حصل لكم من العذاب { ب } سبب { أنكم اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } مع أنها موجبة للجد والاجتهاد وتلقيها بالسرور والاستبشار والفرح .
{ وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بزخارفها ولذاتها وشهواتها فاطمأننتم إليها ، وعملتم لها وتركتم العمل للدار الباقية .
{ فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : ولا يمهلون ولا يردون إلى الدنيا ليعملوا صالحا .
و : { آيات الله } لفظ جامع لآيات القرآن وللأدلة التي نصبها الله تعالى لينظر فيها العباد .
وقرأ أكثر القراء : «لا يُخرَجون » بضم الياء المنقوطة من تحت وفتح الراء . وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش والحسن : «يَخرُجون » بإسناد الفعل إليهم بفتح الياء وضم الراء . و : { يستعتبون } تطلب منهم مراجعة إلى عمل صالح .
{ ذلكم } إشارة إلى { مأواكم } والباء للسببية ، أي ذلكم المأوى بسبب اتخاذكم آيات الله ، وهي آيات القرآن هزؤاً ، أي مستهزأ بها ، { هزؤاً } مصدر مراد به اسم المفعول مثل خلق .
وتغرير الحياة الدنيا إياهم سبب أيضا لجعل النار مأواهم . والتغرير : الإطماع الباطل . ومعنى تغرير الحياة الدنيا إياهم : أنهم قاسوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا فظنوا أن الله لا يحيي الموتى وتطرقوا من ذلك إلى إنكار الجزاء في الآخرة على ما يعمل في الدنيا وغرّهم أيضاً ما كانوا عليه من العزة والمنعة فخالوه منتهى الكمال فلم يصيخوا إلى داعي الرشد وعظة النصح وأعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن القرآن المرشد ولولا ذلك لأقبلوا على التأمل فيما دعوا إليه فاهتدوا فسلموا من عواقب الكفر ولكون هذه المغررات حاصلة في الحياة الدنيا أسند التغرير إلى الحياة على سبيل المجاز العقلي لأن ذلك أجمع لأسباب الغرور .
وفرع على ذلك { فاليوم لا يخرجون منها } بالفاء وهذا من تمام الكلام الذي قيل لهم لأن وقوع كلمة ( اليوم ) في أثنائه يعين أنه من القيل الذي يقال لهم يومئذٍ . واتفق القراء على قراءة { لا يخرجون } بياء الغيبة . وكان مقتضى الظاهر أن يقال : لا تُخرجون ، بأسلوب الخطاب مثل سابقه ولكن عدل عن طريقة الخطاب إلى الغيبة على وجه الالتفات . ويحسّنه هنا أنه تخييل للإعراض عنهم بعد توبيخهم وتأييسهم وصرف بقية الإخبار عنهم إلى مخاطب آخر ينبّأ ببقية أمرهم تحقيراً لهم .
وقرأ الجمهور { يُخرجون } بضم الياء وفتح الراء ، فالمعنى : أنهم يسألون مَن يُخرجهم فلا يُخرجهم أحد كما في قوله تعالى : { ربّنا أخرجنا منها } [ المؤمنون : 107 ] وقوله : { فهل إلى خروج من سبيل } [ غافر : 11 ] . وقرأه حمزة والكسائي { يخرُجون } بفتح الياء وضم الراء . فالمعنى : أنهم يفزعون إلى الخروج فلا يستطيعون لقوله تعالى : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها } [ الحج : 22 ] .
والاستعتاب بمعنى : الإعتاب ، فالسين والتاء للمبالغة كما يقال : أجاب واستجاب . ومعنى الإعتاب : إعطاء العُتبى وهي الرضا . وهو هنا مبني للمجهول . أي لا يستعتبهم أحد ، أي ولا يُرضون بما يسألون ، وتقدم نظيره في قوله تعالى : { فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون } في سورة الروم ( 57 ) .
وتقدم { هم } على { يستعتبون } وهو مسند فعلي بعد حرف النفي هنا تعريض بأن الله يُعتِب غيرهم ، أي يُرضي المؤمنين ، أي يغفر لهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلكم بأنكم}: إنما نزل بكم العذاب في الآخرة بأنكم.
{اتخذتم آيات الله} يعني كلام الله.
{هزوا} يعني استهزاء، حين قالوا: ساحر وشاعر وأساطير الأولين.
{وغرتكم الحياة الدنيا} عن الإسلام.
{فاليوم} في الآخرة، {لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقال لهم: هذا الذي حلّ بكم من عذاب الله اليوم بِأَنّكُم في الدنيا اتّخَذْتُمْ آياتِ اللّهِ هُزُوا، وهي حججه وأدلته وآي كتابه التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم.
"هُزُوا" يعني سخرية تسخرون منها.
"وَغَرّتْكُمُ الحَياةُ الدّنْيا": وخدعتكم زينة الحياة الدنيا، فآثرتموها على العمل لما ينجيكم اليوم من عذاب الله.
"فالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها" من النار.
"وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ": ولا هم يردّون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة مما عوقبوا عليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وغرّتكم الحياة الدنيا} نسبة التغرير إلى الحياة الدنيا وإضافته إليها وإن لم يكن منها على التحقيق تغرير وخداع، وهو أنهم إنما اغتروا بها، فنُسب فعل التغرير إليها، كأنها هي غرّتهم، وقد يُنسب إلى السبب الذي به صار ذلك، وإن لم يكن منه حقيقة ذلك، نحو قوله تعالى: {والنهار مُبصِرا} [يونس: 67] أي يبصر به،أو يقال إن ما كان منهما، لو كان ذلك مما يحتمل التغرير، ويملك ذلك، كان تغريرا.
{فاليوم لا يُخرجون منها ولا هم يُستعتبون} اختُلف في قوله: {ولا هم يُستعتبون} قال بعضهم: إنهم يُعاتَبون إلى أن يُدخلوا النار: إنكم فعلتم كذا، وتركتم كذا، ولم فعلتم كذا؟ فإذا أُدخلوا النار يُترك العتاب، ويُجعل كالشيء المنسيّ فيها، والله أعلم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} يسترضون...
بين تعالى أنه يقال لهم إنكم إنما صرتم مستحقين لهذه الوجوه الثلاثة من العذاب الشديد؛ لأجل أنكم أتيتم بثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة:
فأولها: الإصرار على إنكار الدين الحق.
وثانيها: الاستهزاء به والسخرية منه، وهذان الوجهان داخلان تحت قوله تعالى: {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا}.
وثالثها: الاستغراق في حب الدنيا والإعراض بالكلية عن الآخرة، وهو المراد من قوله تعالى: {وغرتكم الحياة الدنيا}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر جزاءهم على ما هو الحق المساوي لأعمالهم طبق الفعل بالفعل، علله بما لزم على أعمالهم فقال: {ذلكم} أي العذاب العظيم {بأنكم اتخذتم} أي بتكليف منكم لأنفسكم وقسر على خلاف ما أدى إليه العقل، وجاءت به الرسل، وساعدت عليه الفطر الأول.
{آيات الله} أي الملك الأعظم الذي لا شيء أعظم منه.
{هزواً} أي جعلتموها عين ما أنزلت للإبعاد منه.
{الحياة الدنيا} أي الدنية فآثرتموها لكونها حاضرة وأنتم كالبهائم لا يعدو نظركم المحسوس فقلتم: لا حياة غيرها ولا بعث ولا حساب، ولو تعقلتم وصفكم لها لأداكم إلى الإقرار بالأخرى.
ولما أوصلهم إلى هذا الحد من الإهانة، سبب عنه زيادة في إهانتهم وتلذيذاً لأوليائه الذين عادوهم فيه وإشماتاً لهم بهم: {فاليوم} بعد إيوائهم فيها.
{لا يخرجون} بمخرج ما {منها} لأن الله لا يخرجهم ولا يقدر غيره على ذلك.
{ولا هم} خاصة. {يستعتبون} أي يطلب من طالب ما منهم الإعتاب، وهو الاعتذار بما يثبت لهم العذر ويزيل عنهم العتب الموجب للغضب بعمل من الأعمال الصالحات؛ لأنهم في دار الجزاء لا دار العمل...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا} وقُرِئ يَخرجُون من الخُروجِ. والالتفاتُ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بإسقاطِهم عن رُتبةِ الخطابِ استهانةً أو بنقلِهم من مقامِ الخطابِ إلى غيابةِ النارِ...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي يطلب منهم أن يعتبوا ربهم سبحانه أي يزيلوا عتبه جل وعلا، وهو كناية عن إرضائه تعالى أي لا يطلب منهم إرضاؤه عز وجل لفوات أوانه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يسدل الستار عليهم بإعلان مصيرهم الأخير، وهم متروكون في جهنم لا يخرجون ولا يطلب إليهم اعتذار ولا عتاب: (فاليوم لا يخرجون منها، ولا هم يستعتبون). وكأننا نسمع مع إيقاع هذه الكلمات صرير الأبواب وهي توصد إيصادها الأخير! وقد انتهى المشهد، فلم يعد فيه بعد ذلك تغيير ولا تحوير!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ذلكم} إشارة إلى {مأواكم} والباء للسببية، أي ذلكم المأوى بسبب اتخاذكم آيات الله، وهي آيات القرآن هزؤاً، أي مستهزأ بها، {هزؤاً} مصدر مراد به اسم المفعول مثل خلق.
وتغرير الحياة الدنيا إياهم سبب أيضا لجعل النار مأواهم. والتغرير: الإطماع الباطل، ومعنى تغرير الحياة الدنيا إياهم: أنهم قاسوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا؛ فظنوا أن الله لا يحيي الموتى وتطرقوا من ذلك إلى إنكار الجزاء في الآخرة على ما يعمل في الدنيا، وغرّهم أيضاً ما كانوا عليه من العزة والمنعة فخالوه منتهى الكمال فلم يصيخوا إلى داعي الرشد وعظة النصح، وأعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن القرآن المرشد، ولولا ذلك لأقبلوا على التأمل فيما دعوا إليه فاهتدوا فسلموا من عواقب الكفر، ولكون هذه المغررات حاصلة في الحياة الدنيا أسند التغرير إلى الحياة على سبيل المجاز العقلي؛ لأن ذلك أجمع لأسباب الغرور.
وفرع على ذلك {فاليوم لا يخرجون منها} بالفاء وهذا من تمام الكلام الذي قيل لهم؛ لأن وقوع كلمة (اليوم) في أثنائه يعين أنه من القيل الذي يقال لهم يومئذٍ.
وقرأ الجمهور {يُخرجون} بضم الياء وفتح الراء، فالمعنى: أنهم يسألون مَن يُخرجهم فلا يُخرجهم أحد كما في قوله تعالى: {ربّنا أخرجنا منها} [المؤمنون: 107] وقوله: {فهل إلى خروج من سبيل} [غافر: 11]. وقرأه حمزة والكسائي {يخرُجون} بفتح الياء وضم الراء. فالمعنى: أنهم يفزعون إلى الخروج فلا يستطيعون لقوله تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها} [الحج: 22].
والاستعتاب بمعنى: الإعتاب، فالسين والتاء للمبالغة كما يقال: أجاب واستجاب. ومعنى الإعتاب إعطاء العُتبى وهي الرضا. وهو هنا مبني للمجهول. أي لا يستعتبهم أحد، أي ولا يُرضون بما يسألون، وتقدم نظيره في قوله تعالى: {فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون} في سورة الروم (57).
وتقدم {هم} على {يستعتبون} وهو مسند فعلي بعد حرف النفي هنا؛ تعريض بأن الله يُعتِب غيرهم أي يُرضي المؤمنين، أي يغفر لهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ «الغرور» و«الاستهزاء» لا ينفصلان عن بعضهما عادة، فإنّ الأفراد المغرورين والمتكبرين الذين ينظرون إلى الآخرين بعين الاحتقار يتخذونهم هزواً ويسخرون منهم ومصدر الغرور في الواقع هو متاع الدنيا وقدرتها وثروتها الزائلة المؤقتة، والتي تدع الأفراد الضيقي الصدور في غفلة تامة لا يعيرون معها لدعوة رسل الله أدنى اهتمام، ولا يكلفون أنفسهم حتى النظر فيها للوقوف على صوابها من عدمه.
وتكرر الآية ما ورد في الآية السابقة وتؤكّده بأُسلوب آخر، فتقول:
(فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون)، فقد كان الكلام هناك عن مأواهم ومقرهم الثابت، والكلام هنا عن عدم خروجهم من النّار.. حيث قال هناك: ما لهم من ناصرين، وهنا يقول: لا يقبل منهم عذر، والنتيجة هي أن لا سبيل لنجاتهم.