{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي : من الرزق الذي منَّ به اللّه عليكم ، ولو شاء لسلبكم إياه ، { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا } معارضين للحق ، محتجين بالمشيئة : { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ } أيها المؤمنون { إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث تأمروننا بذلك .
وهذا مما يدل على جهلهم العظيم ، أو تجاهلهم الوخيم ، فإن المشيئة ، ليست حجة لعاص أبدا ، فإنه وإن كان ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فإنه تعالى مكَّن العباد ، وأعطاهم من القوة ما يقدرون على فعل الأمر واجتناب النهي ، فإذا تركوا ما أمروا به ، كان ذلك اختيارا منهم ، لا جبرا لهم ولا قهرا .
{ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } على محاويجكم . { قال الذين كفروا } بالصانع يعني معطلة كانوا بمكة . { للذين آمنوا } تهكما بهم من إقرارهم به وتعليقهم الأمور بمشيئته . { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } على زعمكم ، وقيل قاله مشركو قريش حين استطعمهم فقراء إيهاما بأن الله تعالى لما كان قادرا أن يطعمهم ولم يطعمهم فنحن أحق بذلك ، وهذا من فرط جهالتهم فإن الله يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم له . { إن أنتم إلا في ضلال مبين } حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله ، ويجوز أن يكون جوابا من الله لهم أو حكاية لجواب المؤمنين لهم .
الضمير في قوله :{ لهم } لقريش ، وسبب الآية أن الكفار لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم من المستضعفين قطعوا عنهم نفقاتهم وجميع صلاتهم وكان الأمر بمكة أولاً فيه بعض الاتصال في وقت نزول آيات الموادعة فندب أولئك المؤمنون قرابتهم من الكفار إلى أن يصلوهم وينفقوا عليهم مما رزقهم الله ، فقالوا عند ذلك { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } قال الرماني : ونسوا ما يجب من التعاطف وتآلف المحقين وقالت فرقة : بل سبب الآية أن قريشاً شحت بسبب أزمة على المساكين جميعاً ، مؤمن وغير مؤمن وندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين فقالوا هذا القول ، وقولهم يحتمل معنيين من التأويل : أحدهما يخرج على اختيارات لجهال العرب ، فقد روي أن أعرابياً كان يرعى إبله فجعل السمان في الخصب والمهازيل في المكان الجدب فقيل له في ذلك فقال : أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله ، فيخرج قول قريش على هذا المعنى كأنهم رأوا الإمساك عمن أمسك الله عنه رزقه ، ومن أمثالهم «كن مع الله كالمدبر » ، والتأويل الثاني أن يكون كلامهم بمعنى الاستهزاء بقول محمد صلى الله عليه وسلم إن ثم إلهاً هو الرزاق فكأنهم قالوا لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم أي نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمت أطعمه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كما يدعي إنسان أنه غني ثم يحتاج إلى معونتك في مال فتقول له على جهة الاحتجاج والهزء به أتطلب معونتي وأنت غني أي على قولك ، وقوله تعالى : { إن أنتم إلا في ضلال مبين } يحتمل أن يكون من قول الكفرة للمؤمنين ، أي في أمركم لنا في نفقة أموالنا وفي غير ذلك من دينكم ، ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفر استئناف وزجرهم بهذا .
كانوا مع ما هم عليه من الكرم يشحّون على فقراء المسلمين فيمنعونهم البذل تشفّياً منهم فإذا سمعوا من القرآن ما فيه الأمر بالإِنفاق أو سألهم فقراء المسلمين من فضول أموالهم أو أن يعطوهم ما كانوا يجعلونه لله من أموالهم الذي حكاه الله عنهم بقوله : { وجعلوا للَّه مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } [ الأنعام : 136 ] فلعل من أسلم من الفقراء سألوا المشركين ما اعتادوا يعطونهم قَبْل إسلامهم فيقولون أعطوا مما رزقكم الله وقد سمعوا منهم كلمات إسلامية لم يكونوا يسمعونها من قبل ، وربما كانوا يحاجونهم بأن الله هو الرزاق ولا يقع في الكون كائن إلا بإرادته فجعل المشركون يتعللون لمنعهم بالاستهزاء فيقولون : لا نُطعم من لو يشاء الله لأطعمه ، وإذا كان هذا رزقناه الله فلماذا لم يرزقكم ، فلو شاء الله لأطعمكم كما أطعمنا . وقد يقول بعضهم ذلك جهلاً فإنهم كانوا يجهلون وضع صفات الله في مواضعها كما حكى الله عنهم : { وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] .
وإظهار الموصول من قوله : { قَالَ الذيِنَ كَفَرُوا } في مقام الإِضمار مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : قالوا أنطعم الخ لنكتة الإِيماء إلى أن صدور هذا القول منهم إنما هو لأجل كفرهم ولأجل إيمان الذين سئل الإِنفاق عليهم .
روى ابنُ عطية : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المشركين بالإِنفاق على المساكين في شدة أصابت الناس فشحّ فيها الأغنياء على المساكين ومنعوهم ما كانوا يعطونهم .
واللام في قوله : { لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } يجوز أن تكون لتعدية فعل القول إلى المخاطب به أي خاطبوا المؤمنين بقولهم : { أنُطعِمُ مَن لو يَشاءُ الله أطعَمَهُ } ، ويجوز أن تكون اللام للعلة ، أي قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا ، أي قالوا في شأن الذين آمنوا كقوله تعالى : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } [ آل عمران : 168 ] وقوله : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [ الأحقاف : 11 ] أي قالوا ذلك تعلة لعدم الإِنفاق على فقراء المؤمنين .
والاستفهام في { أنُطْعِمُ } إنكاري ، أي لا نطعم من لو شاء الله لأطعمهم بحسب اعتقادكم أن الله هو المطعم .
والتعبير في جوابهم بالإِطعام مع أن المطلوب هو الإِنفاق : إمّا لمجرد التفنن تجنباً لإِعادة اللفظ فإن الإِنفاق يراد منه الإِطعام ، وإمّا لأنهم سئلوا الإِنفاق وهو أعمّ من الإِطعام لأنه يشمل الإِكساء والإِسكان فأجابوا بإمساك الطعام وهو أيسر أنواع الإِنفاق ، ولأنهم كانوا يعيّرون من يشحّ بإطعام الطعام وإذا منعوا المؤمنين الطعام كان منعهم ما هو فوقه أحرى .
وجملة { إنْ أنتُمْ إلاَّ في ضَلالٍ مُبِينٍ } من قول المشركين يخاطبون المؤمنين ، أي ما أنتم في قولكم : { أنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } وما في معناه من اعتقاد أن الله متصرف في أحوالنا إلا متمكن منكم الضلال الواضح . وجعلوه ضلالاً لجهلهم بصفات الله ، وجعلوه مبيناً لأنهم يحكمون الظواهر من أسباب اكتساب المال وعدمه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.