تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

[ وهي ]{[1]} مكية .

قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا قتيبة وسفيان بن وَكِيع ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسي ، عن الحسن بن صالح ، عن هارون أبي محمد ، عن مقاتل بن حيان ، عن قتادة{[2]} ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن يس . ومَنْ قرأ يس كَتَبَ الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات » .

ثم قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حُميد بن عبد الرحمن . وهارون أبو محمد شيخ مجهول . وفي الباب عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، ولا يصح لضعف إسناده ، وعن أبي هريرة منظور فيه . {[3]}

أما حديث الصديق فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول . {[4]} وأما حديث أبي هريرة فقال{[5]} أبو بكر البزار : حدثنا عبد الرحمن بن الفضل ، حدثنا زيد - هو ابن الحباب - حدثنا حُميد - هو المكي ، مولى آل علقمة - عن عطاء - هو ابن أبي رباح - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن يس » .

ثم قال : لا نعلم رواه إلا زيد ، عن حميد . {[6]}

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن هشام بن زياد ، عن الحسن قال : سمعت أبا هريرة يقول{[7]} : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ يس في ليلة أصبح مغفورًا له . ومن قرأ : " حم " التي فيها الدخان أصبح مغفورًا له » . إسناد{[8]} جيد . {[9]}

وقال{[10]} ابن حبان في صحيحه : حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم - مولى ثقيف - حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني ، حدثنا أبي ، حدثنا زياد بن خَيْثَمة ، حدثنا محمد بن جُحَادة ، عن الحسن ، عن جُنْدَب بن{[11]} عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله ، غفر له » . {[12]}

وقد قال{[13]} الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبيه ، عن معقل بن يَسَار ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «البقرة سِنام القرآن وذِرْوَته ، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا ، واستخرجت { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] من تحت العرش فوصلت بها - أو : فوصلت بسورة البقرة - ويس قلب القرآن ، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة ، إلا غفر له ، واقرؤوها على موتاكم » .

وكذا رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن محمد بن عبد الأعلى ، عن معتمر بن سليمان ، به{[14]} .

ثم قال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن أبيه ، عن مَعْقِل بن يَسَار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اقرؤوها على موتاكم » - يعني : يس .

ورواه أبو داود ، والنسائي في " اليوم والليلة " وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك ، به{[15]} إلا أن في رواية النسائي : عن أبي عثمان ، عن معقل بن يسار .

ولهذا قال بعض العلماء : من خصائص هذه السورة : أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله . وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة ، وليسهل{[16]} عليه خروج الروح ، والله أعلم .

قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان قال : كان المشيخة يقولون : إذا قرئت - يعني يس - عند الميت خُفِّف عنه بها . {[17]}

وقال{[18]} البزار : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : قال النبي{[19]} صلى الله عليه وسلم : «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي » - يعني : يس . {[20]}

بسم الله الرحمن الرحيم

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول " سورة البقرة " ، ورُوي عن ابن عباس وعِكْرِمَة ، والضحاك ، والحسن وسفيان بن عُيَيْنَة{[24662]} أن " يس " بمعنى : يا إنسان .

وقال سعيد بن جبير : هو كذلك في لغة الحبشة .

وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : هو اسم من أسماء الله تعالى .


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[7]:في د: "ومال".
[8]:في د: "أن يعذب".
[9]:في د: "اللهم إني أعوذ بك".
[10]:في د: "لا يحتسبون".
[11]:في د: "وجلس".
[12]:في د: "فإذا هو بسمكة".
[13]:في د: "الغالبة".
[14]:في د: "وضربوهما".
[15]:في ف، أ: "زاكية".
[16]:في ف: "قد بلغت مني" وهو خطأ.
[17]:في إسناده عاصم وقد تكلم فيه وشيخه مجهول. ورواه البخاري في صحيحه برقم (4569) ومسلم في صحيحه برقم (763) من طريق كريب عن ابن عباس بنحوه.
[18]:صحيح البخاري برقم (4725).
[19]:في جـ، ر، أ، و: "بيضاء".
[20]:في ت، ف، أ: "فذكره بنحوه".
[24662]:- في ت : "وعكرمة وغيرهما".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة يس بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور ، فصار منطوقهما علما عليها . وكذلك ورد اسمها عن النبي صلى الله عليه وسلم .

روى أبو داود عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا يس على موتاكم . وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير .

ودعاها بعض السلف { قلب القرآن } لوصفها في قول النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ، رواه الترمذي عن أنس ، وهي تسمية غير مشهورة .

ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة 1078 أحسبه في بلاد العجم عنونها سورة حبيب النجار وهو صاحب القصة وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى كما يأتي . وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سندا ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي سورة التين عنونها سورة الزيتون .

وهي مكية ، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال إلا أن فرقة قالت قوله تعالى { ونكتب ما قدموا وآثارهم } نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم : دياركم تكتب آثاركم . وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة اه .

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم ونكتب ما قدموا وآثارهم وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ .

وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده الجعبري ، نزلت بعد سورة قل أوحي وقبل سورة الفرقان .

وعدت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين . وعدت عند الكوفيين ثلاثا وثمانين .

وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس . ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات . قال الترمذي : هذا حديث غريب ، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول . قال أبو بكر بن العربي : حديثها ضعيف .

أغراض هذه السورة

التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة ، وبالقسم بالقرآن تنويها به ، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام . والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية ، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة .

وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم ، لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى .

ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام ، وتمثيل حالهم الشنيعة ، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم .

وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش .

وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة .

ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا .

والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل .

وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد أخرى .

مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات .

ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم .

ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا ، فهلك من كذب ، ونجا من آمن .

ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء .

والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب .

وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك .

وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة .

والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان .

واتباع دعاة الخير .

ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء .

وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه قولهم وأن لهم بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه .

فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة ، ومعجزة القرآن ، وما يعتبر في صفات الأنبياء وإثبات القدر ، وعلم الله ، الحشر ، والتوحيد ، وشكر المنعم ، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل ، ومنها تتفرع الشريعة . وإثبات الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب ، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى « قلب القرآن » لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله ، وإلى وتينها ينصب مجراها .

قال الغزالي : إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر ، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه ، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد .

القول فيه كالقول في الحروف المقَطَّعة الواقعة في أوائل السور ، ومن جملتها أنه اسم من أسماء الله تعالى ، رواه أشهب عن مالك قاله ابن العربي ، وفيه عن ابن عباس أنه : يا إنسان ، بلسان الحبشة . وعنه أنها كذلك بلغة طيء ، ولا أحسب هذا يصح عنه لأن كتابتها في المصاحف على حرفين تنافي ذلك .

ومن الناس من يدعي أن يس من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وبنى عليه إسماعيل بن بكر الحِميري شاعر الرافضة المشهور عندهم بالسيد الحِميري قوله :

يا نفْس لا تَمْحضِي بالودّ جَاهدة على *** المَودة إلاَّ آل ياسِينا

ولعله أخذه من قوله تعالى في سورة الصافات ( 130 ) { سلام على آل ياسين } فقد قيل إنه يعني آل محمد صلى الله عليه وسلم .

ومن الناس من قال : إن يس اختزال : يا سيد ، خطابا للنبيء صلى الله عليه وسلم ويوهنه نطق القراء بها بنون .

ومن الناس من يسمّي ابنه بهذه الكلمة وهو كثير في البلاد المصرية والشامية ومنهم الشيخ يس بن زين الدين العُليمي الحمصي المتوفى سنة 1061 صاحب التعاليق القيمة فإنما يكتب اسمه بحسب ما ينطق به لا بحروف التهجي وإن كان الناس يغفلون فيكتبونه بحرفين كما يكتب أول هذه السورة .

قال ابن العربي قال أشهب : سألت مالكاً هل ينبغي لأحد أن يسمي يس ؟ قال : ما أراه ينبغي لقول الله تعالى : { يس والقرآن الحكيم } [ يس : 1 ، 2 ] يقول هذا : اسمي يس . قال ابن العربي : وهو كلام بديع لأن العبد لا يجوز أن يسمّى باسم الله إذا كان فيه معنى منه كقوله : عالم وقادر ، وإنما منع مالك من التسمية بهذا لأنه اسم من أسماء الله لا يُدرَى معناه فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبْد فيقدم على خطر فاقتضى النظر رفعه عنه ا ه . وفيه نظر .

والنطق باسم ( يا ) بدون مد تخفيف كما في كهيعص .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة يس مكية.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

مكية في قول الجميع، إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا إلا آية منها وهي قوله: {وإذا قيل لهم أنفقوا} الآية...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

السورة مكية بإجماع، إلا أن فرقة قالت إن قوله "ونكتب ما قدموا وآثارهم "[يس: 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم (دياركم تكتب آثاركم) وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعروا المدينة، وعلى هذا فالآية مدنية وليس الأمر كذلك؛ وإنما نزلت الآية بمكة، ولكنه احتج بها عليهم في المدينة، ووافقها قول النبي صلى الله عليه وسلم في المعنى فمن هنا قيل ذلك.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة. وإيقاعات سريعة. ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثاً وثمانين، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها -سورة فاطر- وعدد آياتها خمس وأربعون.

وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص، فتتلاحق إيقاعاتها، وتدق على الحس دقات متوالية، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها. وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار.

والموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية. وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة. فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها: (يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم. تنزيل العزيز الرحيم...). وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة؛ وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه. وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته: (وما علمناه الشعر -وما ينبغي له- إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين)..

كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية. فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول: وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون؟ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون؟ إني إذاً لفي ضلال مبين.. وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون. لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون)..

والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة. تجيء في أولها: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين).. وتأتي في قصة أصحاب القرية، فيما وقع للرجل المؤمن. وقد كان جزاؤها العاجل في السياق: (قيل: ادخل الجنة. قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).. ثم ترد في وسط السورة: (ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون).. ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة. وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه. قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم..

هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها، تتكرر في السور المكية. ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة، تحت ضوء معين، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها.

هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة -بصفة خاصة- ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها. ومن مصارع الغابرين على مدار القرون. ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية: مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة. ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام. ومشهد الشمس تجري لمستقر لها. ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم. ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين. ومشهد الأنعام مسخّرة للآدميين. ومشهد النطفة ثم مشهدها إنساناً وهو خصيم مبين! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون!

وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه: منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون؛ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون). ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار.. ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن. فيكون).. وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود.

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط:

يبدأ الشوط الأول بالقسم بالحرفين: يا. سين وبالقرآن الحكيم، على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه على صراط مستقيم. يتلو ذلك الكشف عن النهاية البائسة للغافلين الذين يكذبون. وهي حكم الله عليهم بألا يجدوا إلى الهداية سبيلاً، وأن يحال بينهم وبينها أبداً. وبيان أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب؛ فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان.. ثم يوجه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى أن يضرب لهم مثلاً أصحاب القرية، فيقص قصة التكذيب وعاقبة المكذبين. كما يعرض طبيعة الإيمان في قلب الرجل المؤمن وعاقبة الإيمان والتصديق..

ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بنداء الحسرة على العباد الذين ما يفتأون يكذبون كل رسول ويستهزئون به. غير معتبرين بمصارع المكذبين، ولا متيقظين لآيات الله في الكون وهي كثير.. وهنا يعرض تلك المشاهد الكونية التي سبقت الإشارة إليها في تقديم السورة، كما يعرض مشهداً مطولاً من مشاهد القيامة فيه الكثير من التفصيل.

والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها. فينفي في أوله أن ما جاء به محمد [صلى الله عليه وسلم] شعر، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلاً. ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المتفردة، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة!. ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة! ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد! وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة.. وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن. فيكون. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت هذه السورة يس بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور، فصار منطوقهما علما عليها. وكذلك ورد اسمها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

روى أبو داود عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا يس على موتاكم. وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.

أغراض هذه السورة:

التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة، وبالقسم بالقرآن تنويها به، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام. والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.

وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم، لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى.

ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام، وتمثيل حالهم الشنيعة، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.

وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش.

وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة.

ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا.

والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.

وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد أخرى.

مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات.

ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم.

ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا، فهلك من كذب، ونجا من آمن.

ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء.

والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب.

وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك.

وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.

والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان.

واتباع دعاة الخير.

ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء.

وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه قولهم وأن لهم بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه.

فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة، ومعجزة القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء وإثبات القدر، وعلم الله، الحشر، والتوحيد، وشكر المنعم، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل، ومنها تتفرع الشريعة. وإثبات الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى « قلب القرآن» لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله، وإلى وتينها ينصب مجراها.

قال الغزالي: إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

محتوى السورة:

هذه السورة من السور المكّية، لذا فهي من حيث النظرة الإجمالية لها نفس المحتوى العام للسور المكّية، فهي تتحدّث عن التوحيد والمعاد والوحي والقرآن والإنذار والبشارة، ويلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسيّة:

تتحدّث السورة أوّلا عن رسالة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم وعن المؤمنين به، وتستمر بذلك حتّى آخر الآية الحادية عشرة.

قسم آخر من هذه السورة يتحدّث عن رسالة ثلاثة من أنبياء الله، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد، وجهادهم المتواصل المرير ضدّ الشرك، وهذا في الحقيقة نوع من التسلية والمواساة لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضيح الطريق أمامه لتبليغ رسالته الكبرى.

قسم آخر منها، والذي يبدأ من الآية 33 وحتّى الآية 44، مملوء بالنكات التوحيدية الملفتة للنظر، وهو عرض معبّر عن الآيات والدلائل المشيرة إلى عظمة الله في عالم الوجود، كذلك فإنّ أواخر السورة أيضاً تعود إلى نفس هذا البحث التوحيدي والآيات الإلهية.

قسم مهمّ آخر من هذه السورة، يتحدّث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلّة المختلفة عليه، وكيفية الحشر والنشر، والسؤال والجواب في يوم القيامة، ونهاية الدنيا، ثمّ الجنّة والنار، وهذا القسم يتضمّن مطالب مهمّة ودقيقة جدّاً.

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محرّكة ومحفّزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهّال، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

الخلاصة، أنّ الإنسان يواجه في هذه السورة بمشاهد مختلفة من الخلق والقيامة، الحياة والموت، الإنذار والبشارة، بحيث تشكّل بمجموعها نسخة الشفاء ومجموعة موقظة من الغفلة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"يس"؛ فقال بعضهم: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.

وقال آخرون: معناه: يا رجل...

وقال آخرون: هو مفتاح كلام افتتح الله به كلامه...

وقال آخرون: بل هو اسم من أسماء القرآن...

وقد بيّنا القول فيما مضى في نظائر ذلك من حروف الهجاء بما أغنى عن إعادته وتكريره في هذا الموضع.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

عن معاذ بن جبل وكعب رضي الله عنهما أنهما قالا: {يس} قسم، أقسم الله به، يا محمد.

دل أن الخطاب به على إثر قوله: {يس} على أنه هو المراد بقوله: {يس} إذ لا يستقيم الخطاب بقوله: {إنك لمن المرسلين} إلا على سبق خطاب له وذكر اسم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{يس} إن كان المعنى: يا إنسان، فهو قلب الموجودات المخلوقات كلها وخالصها وسرها ولبابها، وإن أريد: يا سيد، فهو خلاصة من سادهم.

وإن أريد: يا رجل، فهو خلاصة البشر، وإن أريد: يا محمد، فهو خالصة الرجال الذين هم لباب البشر...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

القول فيه كالقول في الحروف المقَطَّعة الواقعة في أوائل السور، ومن جملتها أنه اسم من أسماء الله تعالى، رواه أشهب عن مالك قاله ابن العربي، وفيه عن ابن عباس أنه: يا إنسان، بلسان الحبشة. وعنه أنها كذلك بلغة طيء، ولا أحسب هذا يصح عنه لأن كتابتها في المصاحف على حرفين تنافي ذلك.

ومن الناس من يدعي أن يس من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.

ولعله أخذه من قوله تعالى في سورة الصافات (130) {سلام على آل ياسين} فقد قيل إنه يعني آل محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن الناس من قال: إن يس اختزال: يا سيد، خطابا للنبيء صلى الله عليه وسلم ويوهنه نطق القراء بها بنون.

ومن الناس من يسمّي ابنه بهذه الكلمة وهو كثير في البلاد المصرية والشامية...