ومن عزته أن { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } على كثرتكم وانتشاركم ، في أنحاء الأرض ، { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وذلك ليسكن إليها وتسكن إليه ، وتتم بذلك النعمة . { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ } أي : خلقها بقدر نازل منه ، رحمة بكم . { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } وهي التي ذكرها في سورة الأنعام { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين }
وخصها بالذكر ، مع أنه أنزل لمصالح عباده من البهائم غيرها ، لكثرة نفعها ، وعموم مصالحها ، ولشرفها ، ولاختصاصها بأشياء لا يصلح غيرها ، كالأضحية والهدي ، والعقيقة ، ووجوب الزكاة فيها ، واختصاصها بالدية .
ولما ذكر خلق أبينا وأمنا ، ذكر ابتداء خلقنا ، فقال : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : طورا بعد طور ، وأنتم في حال لا يد مخلوق تمسكم ، ولا عين تنظر إليكم ، وهو قد رباكم في ذلك المكان الضيق { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } ظلمة البطن ، ثم ظلمة الرحم ، ثم ظلمة المشيمة ، { ذَلِكُمْ } الذي خلق السماوات والأرض ، وسخر الشمس والقمر ، وخلقكم وخلق لكم الأنعام والنعم { اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : المألوه المعبود ، الذي رباكم ودبركم ، فكما أنه الواحد في خلقه وتربيته لا شريك له في ذلك ، فهو الواحد في ألوهيته ، لا شريك له ، ولهذا قال : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } .
وقوله : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي : خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة ، وهو آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ، وهي حواء ، عليهما السلام ، كقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } [ النساء : 1 ] .
وقوله : { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي : وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية ، أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] ، { وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } [ الأنعام : 144 ] .
وقوله : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : قدركم في بطون أمهاتكم { خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : يكون أحدكم أولا نطفة ، ثم يكون علقة ، ثم يكون مضغة ، ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا ، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر ، { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] .
وقوله : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ } يعني : ظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد - وظلمة البطن . كذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو مالك ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد وغيرهم .
وقوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم ، هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك ، { لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده ، { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي : فكيف تعبدون معه غيره ؟ أين يُذْهَبُ بعقولكم ؟ ! .
{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } .
انتقال إلى الاستدلال بخلق الناس وهو الخلق العجيب . وأُدمج فيه الاستدلال بخلق أصلهم وهو نفس واحدة تشعب منها عدد عظيم وبخلق زوج آدم ليتقوّم ناموس التناسل . والجملة يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير الجلالة ، ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً تكريراً للاستدال .
والخطاب للمشركين بدليل قوله بعده : { فأنَّى تُصرفونَ } ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب ، ونكتته أنه لما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم بطريق الغيبة أقبَلَ على خطابهم ليُجمع في توجيه الاستدلال إليهم بين طريقي التعريض والتصريح . وتقدم نظير هذه الجملة في سورة الأعراف ، إلاّ أن في هذه الجملة عطف قوله : { جعل منها زوجها } بحرف { ثم } الدال على التراخي الرتبي لأن مساقها الاستدلال على الوحدانية وإبطال الشريك بمراتبه ، فكان خلق آدم دليلاً على عظيم قدرته تعالى وخلق زوجه من نفسه دليلاً آخر مستقل الدلالة على عظيم قدرته . فعطف بحرف { ثم } الدال في عطف الجمل على التراخي الرتبي إشارة إلى استقلال الجملة المعطوفة بها بالدلالة مثل الجملة المعطوفة هي عليها ، فكان خلق زوج آدم منه أدلّ على عظيم القدرة من خلق الناس من تلك النفس الواحدة ومن زوجها لأنه خلق لم تجرِ به عادة فكان ذلك الخلق أجلب لعجب السامع من خلق الناس فجيء له بحرف التراخي المستعمل في تراخي المنزلة لا في تراخي الزمن لأن زمن خلق زوج آدم سابق على خلق الناس . فأما آية الأعراف فمساقها مساق الامتنان على الناس بنعمة الإِيجاد ، فذُكر الأصلان للناس معطوفاً أحدهما على الآخر بحرف التشريك في الحكم الذي هو الكون أصلاً لخلق الناس .
وقد تضمنت الآية ثلاث دلائل على عظم القدرة خلق الناس من ذكر وأنثى بالأصالة وخلق الذكر الأول بالإِدماج وخلق الأنثى بالأصالة أيضاً .
{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الانعام ثمانية } .
استدلال بما خلقه الله تعالى من الأنعام عطف على الاستدلال بخلق الإِنسان لأن المخاطبين بالقرآن يومئذٍ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلو الأمم يومئذ من الحاجة إلى الأنعام ولم تزل الحاجة إلى الأنعام حافّة بالبشر في قِوام حياتهم . وهذا اعتراض بين جملة { خلقَكم من نَفسٍ واحدةٍ } وبين { يخلُقكم في بُطونِ أُمهاتِكُم } لمناسبة أزواج الأنعام لزوج النفس الواحدة .
وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بما فيها من المنافع للناس لما دل عليه قوله : { لَكُم } لأن في الأنعام مواد عظيمة لبقاء الإِنسان وهي التي في قوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء إلى قوله : إلا بشق الأنفس } [ النحل : 5 7 ] وقوله : { ومن أصوافها وأوبارها } الخ في سورة [ النحل : 80 ] .
والإِنزال : نقل الجسم من علوّ إلى سُفل ، ويطلق على تذليل الأمر الصعب كما يقال : نزلوا على حكم فلان ، لأن الأمر الصعب يتخيل صعب المنال كالمعتصم بقمم الجبال ، قال خصَّاب بن المعلَّى من شعراء الحماسة :
أنزلني الدهر على حكمه *** من شَاهق عالٍ إلى خفض
فإطلاق الإِنزال هنا بمعنى التذليل والتمكين على نحو قوله تعالى : { وأنزلنا الحديد } [ الحديد : 25 ] أي سخرناه للناس فألهمناهم إلى معرفة قَيْنِه يتخذونه سيوفاً ودروعاً ورماحاً وعتاداً مع شدته وصلابته . ويجوز أن يكون إنزال الأنعام إنزالها الحقيقي ، أي إنزال أصولها من سفينة نوح كقوله تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ الأعراف : 11 ] ، أي خلقنا أصلكم وهو آدم ، قال تعالى : { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } [ هود : 40 ] فيكون الإِنزال هو الإِهباط قال تعالى : { قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك } [ هود : 48 ] ، فهذان وجهان حسنان لإِطلاق الإِنزال ، وهما أحسن من تأويل المفسرين إنزال الأنعام بمعنى الخلق ، أي لأن خلقها بأمر التكوين الذي ينزل من حضرة القدس إلى الملائكة .
والأزواج : الأنواع ، كما في قوله تعالى : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [ الرعد : 3 ] والمراد أنواع الإِبل والغنم والبقر والمعز .
وأطلق على النوع اسم الزوج الذي هو المثنّى لغيره لأن كل نوع يتقوّم كيانه من الذكر والأنثى وهما زوجان أو أطلق عليها أزواج لأنه أشار إلى ما أنزل من سفينة نوح منها وهو ذكر وأنثى من كل نوع كما تقدم آنفاً .
{ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظلمات ثلاث } .
بدل من جملة { خلقكم من نفسسٍ واحدة } وضمير المخاطبين هنا راجع إلى الناس لا غير وهو استدلال بتطور خلق الإِنسان على عظيم قدرة الله وحكمته ودقائق صنعه .
والتعبير بصيغة المضارع لإِفادة تجدد الخلق وتكرره مع استحضار صورة هذا التطور العجيب استحضاراً بالوجه والإِجمال الحاصل للأذهان على حسب اختلاف مراتب إدراكها ، ويعلم تفصيله علماء الطب والعلوم الطبيعية وقد بينه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن أحدكم يُجمَع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يُرسل إليه الملَك فينفخُ فيه الروح » . وقوله : { خلقاً من بعدِ خلقٍ } أي طوراً من الخلق بعد طور آخر يخالفه وهذه الأطوار عشرة :
الأول : طور النطفة ، وهي جسم مُخاطِيّ مستدير أبيض خال من الأعضاء يشبه دودة ، طولُه نحو خمسة مليميتر .
الثاني : طور العلَقة ، وهي تتكون بعد ثلاثة وثلاثين يوماً من وقت استقرار النطفة في الرحم ، وهي في حجم النملة الكبيرة طولها نحو ثلاثة عشر مليمتراً يلوح فيها الرأس وتخطيطات من صُور الأعضاء .
الثالث : طور المضغة وهي قطعَة حمراء في حجم النحْلة .
الرابع : عند استكمال شهرين يصير طوله ثلاثة صانتميتر وحجم رأسه بمقدار نصف بقيته ولا يتميز عنقه ولا وجهه ويستمر احمراره .
الخامس : في الشهر الثالث يكون طوله خمسة عشر صانتيميتراً ووزنه مائة غرام ويبدو رسم جبهته وأنفه وحواجبه وأظافره ويستمر احمرار جلده .
السادس : في الشهر الرابع يصير طوله عشرين صانتيميتراً ووزنه ( 240 ) غرامات ، ويظهر في الرأس زغب وتزيد أعضاؤه البطْنية على أعضائه الصدْرية وتتضح أظافره في أواخر ذلك الشهر .
السابع : في الشهر السادس يصير طوله نحو ثلاثين صنتيمتراً ووزنه خمسمائة غرام ويظهر فيه مطبقاً وتتصلب أظافره .
الثامن : في الشهر السابع يصير طوله ثمانية وثلاثين صنتيمتراً ويقلّ احمراراً جلده ويتكاثف جلده وتظهر على الجلد مادة دُهنية دسمة ملتصقة ، ويطول شعر رأسه ويميل إلى الشقرة وتتقبب جمجمته من الوسط .
التاسع : في الشهر الثامن يزيد غلظه أكثر من ازدياد طوله ويكون طوله نحو أربعين صنتيمتراً ، ووزنه نحو أربعة أرطال أو تزيد ، وتقوى حركته .
العاشر : في الشهر التاسع يصير طوله من خمسين إلى ستين صنتيمتراً ووزنه من ستة إلى ثمانية أرطال . ويتم عظْمه ، ويتضخّم رأسه ، ويكثف شعره ، وتبتدىء فيه وظائف الحياة في الجهاز الهضمي والرئة والقلب ، ويصير نماؤه بالغذاء ، وتظهر دورة الدم فيه المعروفة بالدورة الجَنِينِية .
و ( الظلمات الثلاث ) : ظلمة بطن الأم ، وظلمة الرحم ، وظلمة المَشِيمة ، وهي غشاء من جلد يخلق مع الجنين محيطاً به ليقيه وليكون به استقلاله مما ينجر إليه من الأغذية في دورته الدموية الخاصة به دون أمه . وفي ذكر هذه الظلمات تنبيه على إحاطة علم الله تعالى بالأشياء ونفوذ قدرته إليها في أشدَّ ما تكون فيه من الخفاء .
وانتصب { خَلْقاً } على المفعولية المطلقة المبينة للنوعية باعتبار وصفه بأنه { من بعدِ خلقٍ } ، ويتعلق قوله : { في ظُلماتتٍ ثلاثٍ } ب { يَخلُقُكُمْ } .
وقرأ الجمهور { أُمهاتُكُمْ } بضم الهمزة وفتح الميم في حالي الوصل والوقف وقرأه حمزة في حال الوصل بكسر الهمزة إتباعاً لكسرة نون { بُطُونِ } وبكسر الميم إتباعاً لكسر الهمزة . وقرأه الكسائي بكسر الميم في حال الوصل مع فتح الهمزة . .
{ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ فأنى تصرفون } .
بعد أن أُجري على اسم الله تعالى من الأخبار والصفات القاضية بأنه المتصرف في الأكوان كلها : جواهرها وأعراضها ، ظاهرها وخفيها ، ابتداءً من قوله : { خَلَقَ السموات والأرضَ بِالحَقِّ } [ الأنعام : 73 ] ، ما يرشد العاقل إلى أنه المنفرد بالتصرف المستحق العبادة المنفرد بالإلهية أعقب ذلك باسم الإِشارة للتنبيه على أنه حقيق بما يرد بعده من أجل تلك التصرفات والصفات . والجملة فذلكة ونتيجة أنتجتها الأدلة السابقة ولذلك فصلت .
واسم الإِشارة لتمييز صاحب تلك الصفات عن غيره تمييزاً يفضي إلى ما يرد بعد اسم الإِشارة على نحو ما قرر في قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .
والمعنى : ذلكم الذي خلق وسخر وأنشأ الناس والأنعام وخلق الإِنسان أطواراً هو الله ، فلا تشركوا معه غيره إذ لم تَبْق شبهة تَعذر أهلَ الشرك بشركهم ، أي ليس شأنُه بمشابه حال غيره من آلهتكم قال تعالى : { أم جعلوا للَّه شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم } [ الرعد : 16 ] .
والإِتيان باسمه العلَم لإِحضار المسمّى في الأذهان باسم مُختصّ زيادة في البيان لأن حال المخاطبين نزل منزلة حال من لم يعلم أن فاعل تلك الأفعال العظيمة هو الله تعالى .
واسم الجلالة خبر عن اسم الإِشارة . وقوله : { رَبُّكُم } صفة لاسم الجلالة .
ووصفه بالربوبية تذكير لهم بنعمة الإِيجاد والإِمداد وهو معنى الربوبية ، وتوطئة للتسجيل عليهم بكفران نعمته الآتي في قوله : { إن تكفروا فإن اللَّه غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] .
وجملة { لَهُ المُلْكُ } خبر ثان عن اسم الإِشارة .
والملك : أصله مصدر مَلَك ، وهو مثلث الميم إلا أن مضمون الميم خصه الاستعمال بمُلك البلاد ورعاية الناس ، وفيه جاء قوله تعالى : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } [ آل عمران : 26 ] ، وصاحبه : مَلِك ، بفتح الميم وكسر اللام ، وجمعه : ملوك .
وتقديم المجرور لإِفادة الحصر الادعائي ، أي الملك لله لا لغيره ، وأما مُلك الملوك فهو لنقصه وتعرُّضه للزوال بمنزلة العدم ، كما تقدم في قوله تعالى : { الحمد للَّه } [ الفاتحة : 2 ] ، وفي حديث القيامة : « ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض » ، فالإلهية هي المُلك الحقّ ، ولذلك كان ادعاؤهم شركاء للإله الحق خطأً ، فكان الحصر الادعائي لإِبطال ادعاء المشركين .
وجملة { لا إله إلاَّ هُوَ } بيان لجملة الحصر في قوله : { لَهُ المُلْكُ } . وفرع عليه استفهام إنكاري عن انصرافهم عن توحيد الله تعالى ، ولما كان الانصراف حالةً استُفهم عنها بكلمة { أنّى } التي هي هنا بمعنى ( كيف ) كقوله تعالى : { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } [ الأنعام : 101 ] .
والصرف : الإِبعاد عن شيء ، والمصروف عنه هنا محذوف ، تقديره : عن توحيده ، بقرينة قوله : { لا إله إلاَّ هُوَ } .
وجعَلهم مصروفين عن التوحيد ولم يذكر لهم صارفاً ، فجاء في ذلك بالفعل المبني للمجهول ولم يقل لهم : فأنى تنصرفون ، نعياً عليهم بأنهم كالمَقُودين إلى الكفر غير المستقلين بأمورهم يصرفهم الصارفون ، يعني أيمة الكفر أو الشياطين الموسوسين لهم . وذلك إلْهاب لأنفسهم ليكفّوا عن امتثال أيمتهم الذين يقولون لهم : { لا تسمعوا لهذا القرآن } [ فصلت : 26 ] ، عسى أن ينظروا بأنفسهم في دلائل الوحدانية المذكورة لهم .
والمعنى : فكيف يصرفكم صارف عن توحيده بعدما علمتم من الدلائل الآنفة . والمضارع هنا مراد منه زمن الاستقبال بقرينة تفريعه على ما قبله من الدلائل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{خلقكم من نفس واحدة} آدم، عليه السلام {ثم جعل منها زوجها} حواء.
{وأنزل لكم من الأنعام} وجعل لكم من أمره مثل قوله في الأعراف: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا} [الأعراف:26] يقول جعلنا، {وأنزل لكم من الأنعام} الإبل والبقر والغنم.
{ثمانية أزواج} أصناف، أربعة ذكور، وأربعة إناث.
{يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق} نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم الروح.
{في ظلمات ثلاث} البطن والرحم والمشيمة التي يكون فيها الولد.
{ذلكم الله} الذي خلق هذه الأشياء هو {ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون} فمن أين تعدلون عنه إلى غيره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"خَلَقَكُمْ" أيها الناس "مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ "يعني من آدم، "ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا" يقول: ثم جعل من آدم زوجه حواء، وذلك أن الله خلقها من ضِلَع من أضلاعه...
فإن قال قائل: وكيف قيل: خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها؟ وإنما خلق ولد آدم من آدم وزوجته، ولا شك أن الوالدين قبل الولد، فإن في ذلك أقوالا أحدها أن يقال: قيل ذلك لأنه رُوي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنَّ الله لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ كُلَّ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ثُمَّ أسْكَنَهُ بَعْدَ ذلك الجَنَّةَ، وَخَلَقَ بَعْدَ ذلك حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أضْلاعِهِ" فهذا قول. والآخر: أن العرب ربما أخبر الرجل منهم عن رجل بفعلين، فيرد الأول منهما في المعنى بثم، إذا كان من خبر المتكلم، كما يقال: قد بلغني ما كان منك اليوم، ثم ما كان منك أمس أعجب، فذلك نسق من خبر المتكلم. والوجه الآخر: أن يكون خلقه الزوج مردودا على واحدها، كأنه قيل: خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها، فيكون في واحدة معنى: خلقها وحدها...
والقول الذي يقوله أهل العلم أولى بالصواب، وهو القول الأول الذي ذكرت أنه يقال: إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه قبل أن يخلق حوّاء، وبذلك جاءت الرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والقولان الآخران على مذاهب أهل العربية.
وقوله: "وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ" يقول تعالى ذكره: وجعل لكم من الأنعامِ ثمانية أزواج من الإبل زوجين، ومن البقر زوجين، ومن الضأن اثنين، ومن المعْز اثنين، كما قال جل ثناؤه: "ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ"...
وقوله: "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ" يقول تعالى ذكره: يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، وذلك أنه يحدث فيها نطفة، ثم يجعلها علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يُنْشئه خلقا آخر، تبارك الله وتعالى، فذلك خلقه إياه خلقا بعد خلق... [قول عكرمة ومجاهد].
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يخلقكم في بطون أمهاتكم من بعد خلقه إياكم في ظهر آدم، قالوا: فذلك هو الخلق من بعد الخلق...
وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي قاله عكرمة ومجاهد، ومن قال في ذلك مثل قولهما، لأن الله جلّ وعزّ أخبر أنه يخلقنا خلقا من بعد خلق في بطون أمهاتنا في ظلمات ثلاث، ولم يخبر أنه يخلقنا في بطون أمهاتنا من بعد خلقنا في ظهر آدم، وذلك نحو قوله: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً"... الآية.
وقوله: "فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ" يعني: في ظلمة البطْن، وظلمة الرّحِم، وظُلْمة المَشِيمَة...
وقوله: "ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ" يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعل هذه الأفعال أيها الناس هو ربكم، لا من لا يجلب لنفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرّا، ولا يسوق إليكم خيرا، ولا يدفع عنكم سوءا من أوثانكم وآلهتكم.
وقوله: "لَهُ الْمُلْكُ" يقول جلّ وعزّ: لربكم أيها الناس الذي صفته ما وصف لكم، وقُدرته ما بين لكم المُلك، ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما لا لغيره، فأما ملوك الدنيا فإنما يملك أحدهما شيئا دون شيء، فإنما له خاص من الملك. وأما المُلك التام الذي هو المُلك بالإطلاق فلله الواحد القهار.
وقوله: "لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" يقول تعالى ذكره: لا ينبغي أن يكون معبود سواه، ولا تصلح العبادة إلا له. "فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" يقول تعالى ذكره: فأنى تصرفون أيها الناس فتذهبون عن عبادة ربكم، الذي هذه الصفة صفته، إلى عبادة من لا ضر عنده لكم ولا نفع... عن السديّ "فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" قال للمشركين: أنى تصرف عقولكم عن هذا؟
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} يجيء أن يكون على أحد وجوه ثلاثة:
إما ألا يسمى الأنعام، ولا يكون إلا ثمانية الأزواج التي ذكر أنه خلقها لنا. فإن كان على هذا فيكون حرف من ههنا صلة، كأنه قال عز وجل: وأنزل لكم أنعاما، وهي ثمانية أزواج.
وإما أن يسمي كل ما خلق من الدواب أنعاما؛ إلا أنه لم يحل لنا كل شيء منها من جميع أنواع الانتفاع بها من الأزواج التي ذكر، فإنه قد أحل لنا كل شيء من الأصناف الثمانية من لحومها وألبانها وأصوافها وكل شيء منها. وأما ما سوى ذلك من الأنعام فإنه لم يحل لنا كل شيء منها من اللحوم وغيرها، ولكن أحل لنا الانتفاع بظهورها من نحو الحمير والبغال وغير ذلك مما يشتهى.
{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} يحتج عليهم لإنكارهم البعث وإنكارهم بعث الرسول والحجج؛ يخبر أن من فعل ما ذكر من تغييرهم من حال إلى حال وتحويلهم من صورة إلى صورة أخرى أنه لا يفعل ذلك ليتركهم سدى لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم. ثم إذا امتحنهم لا يحتمل ألا يبعثهم ليجزي المسيء منهم والعاصي جزاء الإساءة والعصيان والمحسن منهم والمطيع جزاء الإحسان والطاعة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ}: يصورِّكم، ويُرَكِّب أحوالكم...
{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} ذَكَّرَهم نسبتهم لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم، ويقال بَيَّنَ آثار أفعاله الحكيمة في كيفية خِلْقَتِك -من قطرتين- أمشاجاً متشاكلةَ الأجزاء، مختلفة الصُّوَرِ في الأعضاء،ويقال هذه كلها نِعَمٌ أنعم اللهُ بها علينا فَذَكَّرَنا بها -والنفوسُ مجبولةٌ، وكذلك القلوبُ على حُبِّ مَنْ أحسن إليها- استجلاباً لمحبتنا له.
{ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّكُمْ} إن الذي أحسن إليكم بجميع هذه الوجوه هو ربُّكم: أنا خلقتكم وأنا رزقتكم وأنا صَوَّرتُكم فأحسنت صُورَكم، وأنا الذين أسبَغْتُ عليكم إنعامي، وخصصتكم بجميل إكرامي، وأغرقتكم في بحار أفضالي، وعرفتكم استحقاق جمالي وجلالي، وهديتكم إلى توحيدي، وألزمتكم رعايةَ حدودي... فما لكم لا تَنْقَطِعون بالكلية إليَّ؟ ولا ترجون ما وَعَدْتُكم لديَّ؟ وما لكم في الوقت بقلوبكم لا تنظرون إليَّ؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما وجه قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت تشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه؛ إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرّة، والأخرى لم تجريها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها لها فضلاً ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود...
{وَأَنزَلَ لَكُمْ} وقضى لكم وقسم؛ لأنّ قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون. وقيل: لا تعيش الأنعام إلاّ بالنبات. والنبات لا يقوم إلاّ بالماء. وقد أنزل الماء، فكأنه أنزلها...
{خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ} حيواناً سوياً، من بعد عظام مكسوة لحماً، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«النفس الواحدة»... يحتمل أن يكون اسم الجنس...
{فأنى تصرفون}:من أي جهة تضلون وبأي سبب؟...
ثم إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل فبدأ بذكر الإنسان فقال: {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها} ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مرارا كثيرة، فإن قيل كيف جاز أن يقول: {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها} والزوج مخلوق قبل خلقهم؟ أجابوا عنه من وجوه: الثاني: أن يكون التقدير خلقكم من نفس خلقت وحدها ثم جعل منها زوجها.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الاستدلال بخلقة الإنسان على وجود الصانع ذكر عقيبه الاستدلال بوجود الحيوان عليه فقال: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج}.
الثاني: أن شيئا من الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء والتراب، والماء ينزل من السماء فصار التقدير كأنه أنزلها.
الثالث: أنه تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض.
{ثمانية أزواج} والزوج اسم لكل واحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد منه.
{يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق} وفيه أبحاث:
الأول: قرأ حمزة بكسر الألف والميم، والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم، والباقون أمهاتكم بضم الألف وفتح الميم.
الثاني: أنه تعالى لما ذكر تخليق الناس من شخص واحد وهو آدم عليه السلام أردفه بتخليق الأنعام، وإنما خصها بالذكر؛ لأنها أشرف الحيوانات بعد الإنسان، ثم ذكر عقيب ذكرهما حالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون أمهاتهم.
واعلم أنه تعالى لما شرح هذه الدلائل ووصفها قال: {ذلكم الله ربكم} دلالة على كونه سبحانه وتعالى منزها عن الأجزاء والأعضاء وعلى كونه منزها عن الجسمية والمكانية وذلك أنه تعالى عندما أراد أن يعرف عباده ذاته المخصوصة؛ لم يذكر إلا كونه فاعلا لهذه الأشياء، ولو كان جسما مركبا من الأعضاء لكان تعريفه بتلك الأجزاء والأعضاء تعريفا للشيء بأجزاء حقيقته، والتعريف الأول أكمل من الثاني، ولو كان ذلك القسم ممكنا لكان الاكتفاء بهذا القسم الثاني تقصيرا ونقصا وذلك غير جائز، فعلمنا أن الاكتفاء بهذا القسم إنما حسن؛ لأن القسم الأول محال ممتنع الوجود، وذلك يدل على كونه سبحانه وتعالى متعاليا عن الجسمية والأعضاء والأجزاء.
{له الملك} وهذا يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره، ولما ثبت أنه لا ملك إلا له وجب القول بأنه لا إله إلا هو لأنه لو ثبت إله آخر، فذلك الإله إما أن يكون له الملك أو لا يكون له الملك، فإن كان له الملك فحينئذ يكون كل واحد منهما مالكا قادرا ويجري بينهما التمانع كما ثبت في قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وذلك محال، وإن لم يكن للثاني شيء من القدرة والملك فيكون ناقصا ولا يصلح للإلهية، فثبت أنه لما دل الدليل على أنه لا ملك إلا الله، وجب أن يقال لا إله للعالمين ولا معبود للخلق أجمعين إلا الله الأحد الحق الصمد.
ثم اعلم أنه سبحانه لما بين بهذه الدلائل كمال قدرة الله سبحانه وحكمته ورحمته رتب عليه تزييف طريقة المشركين والضالين من وجوه:
الأول: قوله: {فأنى تصرفون} يحتج به أصحابنا ويحتج به المعتزلة؛ أما أصحابنا فوجه الاستدلال لهم بهذه الآية: أنها صريحة في أنهم لم ينصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفها عنهم غيرهم، وما ذاك الغير إلا الله، وأيضا فدليل العقل يقوي ذلك؛ لأن كل واحد يريد لنفسه تحصيل الحق والصواب، فلما لم يحصل ذلك وإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه، وأما المعتزلة فوجه الاستدلال لهم: أن قوله: {فأنى تصرفون} تعجب من هذا الانصراف، ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان خلق الحيوان أدل على الوحدانية والقهر بما خالف به الجمادات من الحياة التي لا يقدر على الانفكاك عنها قبل أجله، وبما له من أمور اضطرارية لا محيص له عنها، وأمور اختيارية موكولة في الظاهر إلى مشيئته، وكان أعجبه خلقاً الإنسان بما له من قوة النطق، قال دالاً على ما دل عليه بخلق الخافقين لافتاً القول إلى خطاب النوع كله إيذاناً بتأهلهم للخطاب، وترقيهم في عُلا الأسباب، من غير عطف إيذاناً بأن كلاًّ من خلقهم وخلق ما قبلهم مستقل بالدلالة على ما سيق له:
{خلقكم} أي أيها الناس المدعون لإلهية غيره {من نفس واحدة}.
{ثم} أي بعد حين،وعبر بالجعل لأنه كافٍ في نفي الشركة التي هذا أسلوبها وليبين أنه ما خلق آدم عليه السلام إلا ليكون سبباً لما يحدث عنه من الذرية ليترتب على ذلك إظهار ما له سبحانه من صفات الكمال فقال: {جعل منها} أي تلك النفس.
{زوجها} ونقلكم بعد خلقكم منه إليها ثم أبرزكم إلى الوجود الخارجي منها، ويجوز -وهو أحسن- أن يكون المعنى لأن السياق لإحاطة العلم المدلول عليه بإنزال الكتاب وما تبعه: قدر خلقكم على ما أنتم عليه من العدد والألوان وجميع الهيئات حين خلق آدم بأن هيأه لأن تفيضوا منه، فلا تزيدون على ما قدره شيئاً ولا تنقصون وأن تفيض منه زوجه، وذلك قبل خلق حواء منه، ثم أوجدها فكان الفيض منها فيضاً منه فالكل منه...
ولما كان تنويع الحيوان إلى أنواع متباينة أدل على القدرة التي هي منشأ القهر، وكان سبحانه موصوفاً بالعلو، وكان أكثر الأنعام أشد من الإنسان، فكان تسخيره له وتذليله إنزالاً له عن قوته وإيهاناً لشدته، قال دالاً على ذلك الإنشاء والجعل بلفظ الإنزال: {وأنزل لكم} أي خاصة.
{من الأنعام} ولما لم يكن عند العرب البخاتي والجواميس لم يذكرها سبحانه، واقتصر على ما عندهم، وقال: {ثمانية أزواج} أي من كل نوع زوجين ذكراً وأنثى، والزوج اسم لواحد معه آخر لا يكمل نفعه إلا به، وإذا نظرت هذه العبارة مع العبارة عن خلق الإنسان فهمت أن الأنعام خلق كل من ذكرها وأنثاها على انفراده لا أن أحداً منها من صاحبه، وذلك أدل على إطلاق التصرف وتنويعه مما لو جعل خلقها مثل خلق الآدمي...
ولما كان تكوينهم في تطويرهم عجباً قال مستأنفاً بياناً لما أجمل قبل: {يخلقكم} أي يقدر إيجادكم أنتم والأنعام على ما أنتم عليه من أخلاط العناصر {في بطون أمهاتكم} ولما كان تطوير الخلق داخل البطن حيث لا تصل إليه يد مخلوق ولا بصره، قال دالاً على عظمته ودلالته على تمام القدرة والقهر: {خلقاً} ودل على تكوينه شيئاً بعد شيء بإثبات الحرف فقال: {من بعد خلق} في تنقلات الأطوار وتقلبات الأدوار. ولما كان الحيوان لا يعرف ما هو إلا في التطوير الرابع، وكان الجهل ظلمة قال: {في ظلمات ثلاث} ظلمة النطفة ثم العلقة ثم المضغة، فإذا صار عظاماً مكسوة لحماً عرف هل هو ذكر أو أنثى فزالت عنه ظلمات الجهل، وصار خلقاً آخر...
ولما ثبت له سبحانه كمال العظمة والقهر، قال مستأنفاً ما أنتجه الكلام السابق معظماً بأداة البعد وميم الجمع: {ذلكم} أي العالي المراتب بشهادتكم أيها الخلق كلكم، بعضكم بلسان قاله، وبعضكم بناطق حاله، الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا أفعاله، ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد، أخبر عن اسم الإشارة فقال: {الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال، ونبه على جهلهم مما يعلمون من ربوبيته لعملهم بالشرك عمل جاهل بذلك فقال واصفاً: {ربكم} أي المالك والمربي لكم بالخلق والرزق.
ولما كان المربي قد لا يكون ملكاً قال نتيجة لما سبق: {له} أي وحده {الملك} ولما كان المختص بالملك قد لا يكون إلهاً، قال مثبتاً له الإلهية على ما يقتضيه من الوحدانية وهو بمنزلة نتيجة النتيجة: {لا إله إلا هو}.
ولما تكفل هذا السياق بوجوب الإخلاص في الإقبال عليه والإعراض عما سواه؛ لأن الكل تحت قهره، وشمول نهيه وأمره، سبب عنه قوله: {فأنى} أي فكيف ومن أي وجه {تصرفون} أي قهراً عن الإخلاص له إلى الإشراك به بصارف ما وإن كان عظيماً، ونبه بالبناء للمفعول مع هذا على أنهم مقهورون في فعل ما هم عليه؛ لأنهم تابعون للهلاك المحض، تاركون للأدلة التي لا خفاء في شيء منها، ومعلوم أنه لا يترك أحد الدليل في الفيافي المعطشة الذي إن تركه هلك إلا قهراً؛ وأن الناس هيئوا لطريق الهدى بما خلقوا عليه من أحسن تقويم بسلامة الفطر واستقامة العقول، وأشار إلى هذا؛ لأنهم يأنفون من النسبة إلى القهر وأن يفعلوا شيئاً بغير اختيار لما عندهم من الأنفة وعلو الهمم والعظمة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن تلك اللفتة إلى آفاق الكون الكبير، ينتقل إلى لمسة في أنفس العباد؛ ويشير إلى آية الحياة القريبة منهم في أنفسهم وفي الأنعام المسخرة لهم:... وحين يتأمل الإنسان في نفسه. نفسه هذه التي لم يخلقها. والتي لا يعلم عن خلقها إلا ما يقصه الله عليه. وهي نفس واحدة. ذات طبيعة واحدة. وذات خصائص واحدة. خصائص تميزها عن بقية الخلائق، كما أنها تجمع كل أفرادها في إطار تلك الخصائص. فالنفس الإنسانية واحدة في جميع الملايين المنبثين في الأرض في جميع الأجيال وفي جميع البقاع. وزوجها كذلك منها. فالمرأة تلتقي مع الرجل في عموم الخصائص البشرية -رغم كل اختلاف في تفصيلات هذه الخصائص- مما يشي بوحدة التصميم الأساسي لهذا الكائن البشري. الذكر والأنثى. ووحدة الإرادة المبدعة لهذه النفس الواحدة بشقيها، وعند الإشارة إلى خاصية الزوجية في النفس البشرية ترد الإشارة إلى هذه الخاصية في الأنعام كذلك. مما يشي بوحدة القاعدة في الأحياء جميعاً...
(وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج):... والتعبير يعبر عن تسخيرها للإنسان بأنه إنزال لها من عند الله. فهذا التسخير منزل من عنده. منزل من عليائه إلى عالم البشر. ومأذون لهم فيه من عنده تعالى...
ثم يعود -بعد هذه الإشارة إلى وحدة خاصية الزوجية في الناس والأنعام- إلى تتبع مراحل الخلق للأجنة في بطون أمهاتها (في ظلمات ثلاث) ظلمة الكيس الذي يغلف الجنين. وظلمة الرحم الذي يستقر فيه هذا الكيس. وظلمة البطن الذي تستقر فيه الرحم. ويد الله تخلق هذه الخلية الصغيرة خلقاً من بعد خلق. وعين الله ترعى هذه الخليقة وتودعها القدرة على النمو. والقدرة على التطور. والقدرة على الارتقاء والقدرة على السير في تمثيل خطوات النفس البشرية كما قدر لها بارئها. وتتبع هذه الرحلة القصيرة الزمن، البعيدة الآماد؛ وتأمل هذه التغيرات والأطوار؛ وتدبر تلك الخصائص العجيبة التي تقود خطى هذه الخلية الضعيفة في رحلتها العجيبة، في تلك الظلمات وراء علم الإنسان وقدرته وبصره، هذا كله من شأنه أن يقود القلب البشري إلى رؤية يد الخالق المبدع. رؤيتها بآثارها الحية الواضحة الشاخصة والإيمان بالوحدانية الظاهرة الأثر في طريقة الخلق والنشأة. فكيف يصرف قلب عن رؤية هذه الحقيقة؟: (ذلكم الله ربكم له الملك. لا إله إلا هو. فأنى تصرفون؟)
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الجملة يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير الجلالة، ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً تكريراً للاستدال، والخطاب للمشركين بدليل قوله بعده: {فأنَّى تُصرفونَ}، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب، ونكتته أنه لما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم بطريق الغيبة أقبَلَ على خطابهم؛ ليُجمع في توجيه الاستدلال إليهم بين طريقي التعريض والتصريح.
وتقدم نظير هذه الجملة في سورة الأعراف، إلاّ أن في هذه الجملة عطف قوله: {جعل منها زوجها} بحرف {ثم} الدال على التراخي الرتبي؛ لأن مساقها الاستدلال على الوحدانية وإبطال الشريك بمراتبه، فكان خلق آدم دليلاً على عظيم قدرته تعالى وخلق زوجه من نفسه دليلاً آخر مستقل الدلالة على عظيم قدرته.
فأما آية الأعراف فمساقها مساق الامتنان على الناس بنعمة الإِيجاد، فذُكر الأصلان للناس معطوفاً أحدهما على الآخر بحرف التشريك في الحكم الذي هو الكون أصلاً لخلق الناس.
وقد تضمنت الآية ثلاث دلائل على عظم القدرة خلق الناس من ذكر وأنثى بالأصالة وخلق الذكر الأول بالإِدماج وخلق الأنثى بالأصالة أيضاً.
{وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الانعام ثمانية}. استدلال بما خلقه الله تعالى من الأنعام عطف على الاستدلال بخلق الإِنسان لأن المخاطبين بالقرآن يومئذٍ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلو الأمم يومئذ من الحاجة إلى الأنعام ولم تزل الحاجة إلى الأنعام حافّة بالبشر في قِوام حياتهم.
والإِنزال: نقل الجسم من علوّ إلى سُفل، ويطلق على تذليل الأمر الصعب كما يقال: نزلوا على حكم فلان؛ لأن الأمر الصعب يتخيل صعب المنال، فإطلاق الإِنزال هنا بمعنى التذليل والتمكين على نحو قوله تعالى: {وأنزلنا الحديد} [الحديد: 25]. ويجوز أن يكون إنزال الأنعام إنزالها الحقيقي، أي إنزال أصولها من سفينة نوح فهذان وجهان حسنان لإِطلاق الإِنزال، وهما أحسن من تأويل المفسرين إنزال الأنعام بمعنى الخلق؛ لأن خلقها بأمر التكوين الذي ينزل من حضرة القدس إلى الملائكة.
والأزواج: الأنواع، وأطلق على النوع اسم الزوج الذي هو المثنّى لغيره؛ لأن كل نوع يتقوّم كيانه من الذكر والأنثى وهما زوجان أو أطلق عليها أزواج؛ لأنه أشار إلى ما أنزل من سفينة نوح منها وهو ذكر وأنثى من كل نوع كما تقدم آنفاً.
{خلقاً من بعدِ خلقٍ} أي طوراً من الخلق بعد طور آخر يخالفه وهذه الأطوار عشرة {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ فأنى تصرفون} الجملة فذلكة ونتيجة أنتجتها الأدلة السابقة ولذلك فصلت. واسم الإِشارة لتمييز صاحب تلك الصفات عن غيره تمييزاً يفضي إلى ما يرد بعد اسم الإِشارة.
والإِتيان باسمه العلَم لإِحضار المسمّى في الأذهان باسم مُختصّ زيادة في البيان؛ لأن حال المخاطبين نزل منزلة حال من لم يعلم أن فاعل تلك الأفعال العظيمة هو الله تعالى.
ووصفه بالربوبية تذكير لهم بنعمة الإِيجاد والإِمداد وهو معنى الربوبية، وتوطئة للتسجيل عليهم بكفران نعمته الآتي في قوله: {إن تكفروا فإن اللَّه غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7].
والصرف: الإِبعاد عن شيء، والمصروف عنه هنا محذوف، تقديره: عن توحيده، بقرينة قوله: {لا إله إلاَّ هُوَ}. وجعَلهم مصروفين عن التوحيد ولم يذكر لهم صارفاً فجاء في ذلك بالفعل المبني للمجهول ولم يقل لهم: فأنى تنصرفون، نعياً عليهم بأنهم كالمَقُودين إلى الكفر غير المستقلين بأمورهم يصرفهم الصارفون، يعني أيمة الكفر أو الشياطين الموسوسين لهم. وذلك إلْهاب لأنفسهم ليكفّوا عن امتثال أيمتهم الذين يقولون لهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن} [فصلت: 26]، عسى أن ينظروا بأنفسهم في دلائل الوحدانية المذكورة لهم...
تبين الآيةُ طبيعة خَلْق الإنسان الذي أراده خليفة في الأرض، فقال: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} هو آدم عليه السلام {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي: حواء، ومنهما كانت الذرية وجاء التناسل.
وما دام الله تعالى خلق هذا المخلوق ليكون خليفةً يعمر الأرض فلا بُدَّ أنْ يكونوا من جنس واحد ليتم لهم الإلْف والانسجام وتجمعهم حركة الحياة.
وإلا لو كان هذا الخليفة من أجناس متعددة، فمجموعة مثلاً من الإنس، وأخرى من الجن، وأخرى من الحيوان ما استقامتْ بهم الحياة، ولا تساندتْ حركتهم. إذن: الجنس الواحد تتوفر فيه المودة والإلْف والمحبة والانسجام بين عناصره لأن لكل جنس قانونَهُ ونظامه والتقاءاته ومعاشرته، ولو أن الإنسان خُلِق من أجناس مختلفة لتعذَّر عليه الائتلاف واتحاد الحركة والأنس في المعيشة.
وأيضاً، فإن الخالق سبحانه خلق الإنسان من جنس واحد ليثبت التساوي في الأصل، فلا يكون لأحد مَزيّة على أحد، لأنه خلق من جنس أعلى، وإنما ليكون التفاضل والمزية بمقدار توافق هذا المخلوق مع منهج الله، وهذه القضية أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:"لا فضلَ لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى".
والحق سبحانه يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] يعني: لا فضلَ لأحدكم على الآخر إلا بحسنه فيما يستقبل عن ربه. وإنما تأتي الألوان والأشكال مختلفة لتناسب بيئة المعيشة، فالبيئات الحارة مثلاً يميل أهلها إلى السواد، والبيئات الباردة إلى البياض، كذلك الحال في اختلاف الألسنة بحسب البيئات أيضاً. أما الأصل فنحن جميعاً نُرَدُّ إلى آدم، وآدم خُلِق من تراب، وذريته خُلِقَتْ من بعده بالتكاثر.
حتى في الرسالة قال الله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] يعني: ليس غريباً عنكم، وليس من جنس غير جنسكم، فلم يكُنْ من الملائكة مثلاً مع أنها أعلى درجة إلا أن الرسول الملَك لا تتحقق فيه القدوة والأسوة المرادة من الرسول، كذلك لم يأْتِ فارسياً ولا رومياً يختلف لسانه عن لسانكم، إنما جاء عربياً من أوسطكم، ومن أعظم قبائلكم.
إذن: البشر جميعاً في هذا الكون يعودون إلى نفس واحدة هي آدم عليه السلام، وقد أوضح لنا الحق سبحانه كيف خلق آدم بالشكل المعروف. وقال سبحانه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29]...
ثم يقول تعالى، وهو يُعدِّد بعض نِعَمه على خَلْقه: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وسبق أن قلنا في صدر هذه السورة: إن الإنزال لا تنظر فيه إلى جهة العلو فحسب كما في إنزال المنهج والقيم، إنما ينظر أيضاً إلى المنزل سبحانه، فالإنزال يكون بمعنى الإيجاد، والأنعام من النعم الموجودة في الأرض لكنها من عند مَنْ؟ من عند الله فكأنه أنزلها، والإنزال هنا ناسبه حرف الجر {لَكُمْ} ولم يقُلْ: عليكم لأن الأنعام شيء منفصل عن الإنسان.
وقد ورد تفصيل هذه الثمانية في سورة الأنعام، ومع أن نِعَم الله علينا كثيرة إلا أنه خَصَّ هنا الأنعام بالذات، لأنها الجنسُ القريب من الإنسان من حيث الخَلْق، بعدها النبات ثم الجماد. وكلمة الزوج. البعض يظن أنها تعني اثنين معاً، وهذا خطأ لأن الزوج تعني: واحد ومعه مثله، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] ومثلها كلمة توأم.
وقوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} معنى {خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} بيان لأطوار الخلق التي يمر بها الجنين في بطن أمه، فهو يتقلب في بطنها بين ماء مَهِين، يستقر في الرحم نطفة، ثم علقة ثم مضغة، ثم يتكوَّن منها العظام، ثم يكسو العظام لحماً، هذه أطوار الخَلْق المرادة في قوله تعالى: {خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ}.
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12-14].
هذه هي الأطوار التي يمرُّ بها الإنسان منذ أنْ يصلَ إلى رَحِم الأم، وهذا يعني أن هناك طَوْراً يسبق هذه الأطوار، هو طوْر التقاء عنصر الذكورة بعنصر الأنوثة، أو التقاء الحيوان المنوي بالبويضة وتلقيحها؛ لأنه لا يصل إلى الرحم إلا بويضة مُلقَّحة دخلها ميكروب الذكورة.
وفي سورة الحج بيَّن سبحانه أن المضغة منها مُخلَّقة وغير مُخلَّقة: {يٰأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الحج: 5].
فالمضغة المخلّقة هي الجزء الذي خُلِّقتْ منه الأعضاء والجوارح، وغير المخلَّقة هي الجزء الذي استقر في الجسم بدون تخليق ليظل احتياطياً للجسم... أو صيدلية صيانة، فإذا ما حدث في الجسم عطب قامتْ المضغة غير المخلَّقة بإصلاحه، كما نرى مثلاً في الجروح، فالجرح بعد فترة يندمل وتبني فيه أنسجته حتى تعودَ كما كانت، من أين؟ من المضغة غير المخلَّقة...
فقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ} أي: الخلق الثاني، فالخَلْق الأول خلق آدم عليه السلام من تراب، وقد أخبرنا الله به، لأن أحداً لم يره، كما قال سبحانه: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف: 51].
فإذا طلع علينا مَنْ يقول إن الإنسان أصله قرد تطوَّر إلى إنسان نعلم أنه من المضلِّين الذين أخبرنا الله عنهم، ولا بُدَّ أن نعلم كذبه، والرد على هذا الهراء ميسور، لأن الإنسان إنْ كان متطوراً عن قرد، فلماذا لم تتطور باقي القرود؟ ولماذا على مَرِّ التاريخ كله لم نَرَ قرداً تطور وارتقى حتى إلى ما يقرب من الإنسان.
إذن: هذا كذب وباطل، لأن الخالق سبحانه خلق الأجناس كلها، وجعل من كُلٍّ زوجين اثنين، يتم التكاثر وليتم الانفصال، قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].
وقوله سبحانه: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} بيان للقرار المكين الذي يستقر فيه الإنسان في بطن أمه، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [المرسلات: 21-22] والمكين هو المستقرّ في المكان، فبطن الأم مكان، والجنين في البطن مكين.
ولما تكلم العلماء في معنى الظلمات الثلاث قالوا: هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة.
وكلمة الظلمة نفهم منها عدة أمور.
أولاً: الظلمة تعني عدم وجود النور، وهي مرتبطة بالليل.
ثانياً: الليل دائماً رطب عن النهار؛ لأن النهار فيه حرارةُ الشمس وحرارةُ الأنفاس الناشئة عن الحركة، أما الأنفاس في الليل فهادئة، لأنها لمجرد استبقاء الحياة، وليست ناشئة عن حركة العمل والجهد المبذول.
ثالثاً: كذلك في الظلمة سكون، وهدوء لا يتوفر في النهار.
إذن: في الظلمة عدم نور، وفيها برودة، وفيها سكون، وهذه الأمور الثلاثة ضرورية لنمو الجنين، وتكوُّن أعضائه في بطن أمه، لأنه في بطن أمه خلْقٌ ضعيف غير مكتمل الأعضاء والجوارح، لا يَقْوى على تحمُّل الحرارة، ولا تحمُّل الضوء، ولا تحمُّل الأصوات المزعجة، لذلك جعل له الخالق سبحانه عوازلَ تقيه هذه الأشياء، لذلك قال سبحانه: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ}.
والأقرب للصواب أن هذه الظلمات الثلاثة في الرحم وليس منها ظلمة البطن؛ لأن الحق سبحانه يُحدِّثنا عن القرار المكين الخاص بالجنين، فيقول: {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ} بيان للظرف العام الذي يقع فيه الظرف الخاص بالجنين وهو الرحم، فالبطن ظرف كبير يحوي الرحم والأمعاء والمعدة والكبد والطحال والبنكرياس.. إلخ لذلك حدد الظرف الخاص بالجنين فقال بعدها: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ}.
إذن: الظلمات الثلاث عبارة عن عوازل وأغشية تحمي الطفل، وكلها داخل الرحم، وإذا كان الإنسان المكتمل الناضج تزعجه الأصوات، وربما أتلفت طبلة أذنه مثلاً، وتؤذيه الأضواء العالية، حتى لا يَقْوى نظره على مواجهتها، فهل يطيق الجنين مثل هذه الأشياء، وهو لم تكتمل أعضاؤه بعد؟
ومعلوم أن الطفل يُولد بجلد رقيق لا يتحمل الحرارة، ويُولد ولم تكتمل فيه بعض الأعضاء والجوارح، فالجهاز العصبي مثلاً لا يكتمل إلا بعد عدة سنوات، والجهاز العقلي لا ينضج إلا بعد سِنِّ البلوغ، والعين لا تؤدي مهمتها في الرؤية إلا بعد ثلاثة أيام.
فالجنين يحتاج إلى حماية؛ لذلك جعله الله في ظرف داخل ظرف داخل ظرف، كما أنك تجعل أوراقك المهمة مثلاً في ملف، والملف في الخزينة، والخزينة في غرفة، فقوله {فِي} دليل على العناية بهذا المخلوق، وتوفير ما يناسبه من الظروف المحيطة به.
وقوله سبحانه: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [الزمر: 6] كلمة {ذَٰلِكُمُ} [الزمر: 6] عبارة عن اسم الإشارة (ذا) وضمير المخاطبين، والإشارة هنا للحق -تبارك وتعالى...
وجاءت هذه الإشارة إلى الحق سبحانه بعد أنْ تكلم عن بعض أسراره في خَلْق الإنسان، وعن الظلمات الثلاث في رحم الأم، وكلها في مجال الخَلْق والتربية والتكوين الأول للإنسان، وهذه المسألة يناسبها صفة الربوبية التي تتولى الخَلْق والتربية، فالربُّ هو الخالق وهو المربّي، أما كلمة الله فهي للألوهية، والألوهية تكليف، لأن الله يعني المعبود بطاعة أوامره واجتناب نواهيه، والجنين في بطن الأم بعيد عن مسألة التكليف، فلماذا اختار هنا وفي هذا المقام لفظ الألوهية (الله) فقال: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}.
ولم يقل: ذلكم ربكم الله- كما يقول بعض المستشرقين؟
قالوا: لنفهم أنه سبحانه لا يخلقنا ولا يربينا لنكون مثل الدواب في الكون، إنما يخلقنا ويُربينا لهدف ولمنهج تكليفي نسير عليه؛ ذلك ليجعلنا نأنس بكلمة الله قبل كلمة رب، وفي هذا إشارة إلى أن الهدفَ من التكليف صلاح المجتمع وصلاحكم فيما بينكم، فالخالق سبحانه لم يخلقنا عبثاً ولم يتركنا هَمَلاً وخلْقاً ضائعاً لا هدفَ له.
لذلك في صدر سورة الرحمن يُبيِّن الحق سبحانه أن تعليمَ المنهج قبل تكوين الخَلْق، وأن الخَلْق لا يُعَدُّ نعمة إلا إذا تَمَّ في ظل منهج الخالق، فصاحب الصنعة لا بُدَّ أنْ يحدد مهمتها قبل أنْ يصنعها، قال تعالى: {الرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} [الرحمن: 1-4].
وقوله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ} مادة (ملك) منها المُلك والملك والملكوت: المِلْك بالكسر هو ما تملكه ولو كان يسيراً، والمُلْك بالضم أنْ تملك مَنْ يملك، والمِلك والمُلك في عالم المشاهدة، أما الملكوت فهو ما لا نشاهده من مُلْك الله، ولا يُطلع الله عليه إلا مَنْ اصطفاه من أنبيائه ورسله وأهل طاعته ممَّنْ صفَتْ فطرتهم الإيمانية وسَلِمَ لهم جهاز الاستقبال عن الله، هؤلاء يُطلِعهم الله على بعض ملكوته، لذلك لما وفَّى سيدنا إبراهيم وأذعن لأمر ربه أراه هذا الملكوت: {وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ..} [الأنعام: 75].
ومثل مُلك وملكوت نقول: رحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت.
ومعنى {لَهُ الْمُلْكُ..} يعني: إنْ كنتم قد شهدتم مُلْكاً واسعاً فاعلموا أنه لمن خلقكم، ومن العجيب أنه مخلوق من أجلكم أنتم وقد خلقه الله لكم قبل أنْ يخلقكم؛ لأن الإنسان الأول طرأ على كَوْن مُعَدٍّ لاستقباله بكل ما يلزمه من مُقوِّمات الحياة بدايةً من الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم إلى أصغر شيء في الكون.
وقوله بعدها: {لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ..} يعني: أن هذا الخَلْق العجيب لله وحده ولم يَدَّعه أحد لنفسه، وما دام أن أحداً لم يدَّع الخَلْقَ لنفسه فليس لأحد أنْ يدَّعي أنه واضح المنهج الذي يعيش به الإنسانُ في الكون؛ لأن الذي خلق هو الذي يضع المنهج، والذي صنع هو الذي يضع قانون الصيانة لصنعته.
{فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ} أي: كيف تنصرفون عن عبادة الله الخالق إلى عبادة غيره ممن ليس لهم من الخَلْق شيء؟ كيف تنصرفون عن ربٍّ خلق وربَّى ولا يزال فلم يتركنا ولم يسلم خَلْقه لأحد غيره، وليس عنده استعداد لأنْ يسلمه أبداً.