ومن الآيات على كمال قدرته وبديع صنعته أن جعل { فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ } فيها أنواع الأشجار { مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } وغير ذلك ، والنخيل التي بعضها { صِنْوَانٌ } أي : عدة أشجار في أصل واحد ، { وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } بأن كان كل شجرة على حدتها ، والجميع { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ } وأرضه واحدة { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } لونا وطعما ونفعا ولذة ؛ فهذه أرض طيبة تنبت الكلأ والعشب الكثير والأشجار والزروع ، وهذه أرض تلاصقها لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء ، وهذه تمسك الماء ولا تنبت الكلأ ، وهذه تنبت الزرع والأشجار ولا تنبت الكلأ ، وهذه الثمرة حلوة وهذه مرة وهذه بين ذلك .
فهل هذا التنوع في ذاتها وطبيعتها ؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم ؟
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم ، وتقودهم إلى ما يرشدهم ويعقلون عن الله وصاياه وأوامره ونواهيه ، وأما أهل الإعراض ، وأهل البلادة فهم في ظلماتهم يعمهون ، وفي غيهم يترددون ، لا يهتدون إلى ربهم سبيلا ولا يعون له قيلا .
وقوله : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } أي : أراضٍ تجاور{[15432]} بعضها بعضا ، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس ، وهذه سَبَخة مالحة لا تنبت شيئا . هكذا روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وغيرهم .
وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض ، فهذه تربة حمراء ، وهذه بيضاء ، وهذه صفراء ، وهذه سوداء ، وهذه محجرة{[15433]} وهذه سهلة ، وهذه مرملة ، وهذه سميكة ، وهذه رقيقة ، والكل متجاورات . فهذه بصفتها ، وهذه بصفتها الأخرى ، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
وقوله : { وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } {[15434]} يحتمل{[15435]} أن تكون عاطفة على { جنات } فيكون { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } {[15436]} مرفوعين . ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب ، فيكون مجرورا ؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة .
وقوله : { صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } الصنوان : هي الأصول المجتمعة في منبت واحد ، كالرمان والتين وبعض النخيل ، ونحو ذلك . وغير الصنوان : ما كان على أصل واحد ، كسائر الأشجار ، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه ، كما جاء في الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر : " أما شعرت{[15437]} أن عم الرجل صنو أبيه ؟ " {[15438]} .
وقال سفيان الثوري ، وشعبة ، عن أبى إسحاق ، عن البراء ، رضي الله عنه : الصنوان : هي النخلات في أصل واحد ، وغير الصنوان : المتفرقات . وقاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقوله : { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ } قال الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ } قال : " الدَّقَل والفارسي ، والحُلْو والحامض " . رواه الترمذي وقال : حسن غريب{[15439]} .
أي : هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع ، في أشكالها وألوانها ، وطعومها وروائحها ، وأوراقها وأزهارها .
فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة ، وذا{[15440]} في غاية المرارة وذا عَفِص ، وهذا عذب وهذا{[15441]} جمع هذا وهذا ، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى . وهذا أصفر وهذا أحمر ، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق . وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد{[15442]} من طبيعة واحدة ، وهو الماء ، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا ، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار ، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها ، فجاء ذلك معطوفاً على الأشياء التي أسند جَعْلها إلى الله تعالى ، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله : { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها . وأمثال هذه العِبر ، ولَفْتِ النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب .
وأعيد اسم { الأرض } الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضَى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب ، وأصل انتظام الكلام أن يقال : جَعل فيها زوجين اثنين ، وفيها قطعٌ متجاورات ، فعدل إلى هذا توضيحاً وإيجازاً .
والقِطع : جمع قِطعة بكسر القاف ، وهي الجزء من الشيء تشبيهاً لها بما يقتطع . وليس وصف القِطع بمتجاورات مقصوداً بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات ، بل المقصود وصفٌ محذوف دل عليه السياق تقديره ؛ مختلفات الألوان والمنابت ، كما دل عليه قوله : { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } .
وإنما وصفت بمتجاورات لأن اختلاف الألوان والمنابت مع التجاور أشد دلالة على القدرة العظيمة ، وهذا كقوله تعالى : { ومن الجبال جُدَدٌ بِيض وحُمر مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود } [ فاطر : 27 ] .
فمعنى { قطع متجاورات } بقاعٌ مختلفة مع كونها متجاورةً متلاصقة .
والاقتصار على ذكر الأرض وقِطعها يشير إلى اختلاف حاصل فيها عن غير صنع الناس وذلك اختلاف المراعي والكلأ . ومجرد ذكر القطَع كاف في ذلك فأحالهم على المشاهدة المعروفة من اختلاف منابت قطع الأرض من الأبّ والكلإ وهي مراعي أنعامهم ودوابّهم ، ولذلك لم يقع التعرض هنا لاختلاف أُكله إذ لا مذاق للآدمي فيه ولكنه يختلف شَرعهُ بعض الحيوان على بعضه دون بعض .
وتقدم الكلام على { وجنات من أعناب } عند قوله تعالى : { ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب } [ الأنعام : 99 ] .
والزرع تقدم في قوله : { والنخل والزرع مختلفا أكله } [ الأنعام : 141 ] .
والنخيل : اسم جمع نخلة مثل النخل ، وتقدم في تلك الآية ، وكلاهما في سورة الأنعام .
والزرع يكون في الجنات يزرع بين أشجارها .
وقرأ الجمهور { وزرع ونخيل } بالجر عطفاً على { أعناب } ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب بالرفع عطفاً على { جنات } . والمعنى واحد لأن الزرع الذي في الجنات مساوٍ للذي في غيرها فاكتُفي به قضاء لحق الإيجاز . وكذلك على قراءة الرفع هو يغني عن ذكر الزرع الذي في الجنات ، والنخل لا يكون إلاّ في جنات .
وصنوان : جمع صِنو بكسر الصاد في الأفصح فيهما وهي لغة الحجاز ، وبضمها فيهما أيضاً وهي لغة تميم وقيسسٍ . والصنو : النخلة المجتمعة مع نخلة أخرى نابتتين في أصل واحد أو نخلات .
الواحد صنو والمثنى صنواننِ بدون تنوين ، والجمع صِنوانٌ بالتنوين جمع تكسير . وهذه الزنة نادرة في صيغ أو الجموع في العربية لم يحفظ منها إلا خمسةُ جموع : صِنو وصنوانٌ ، وقِنْو وقنوانٌ ، وزِيدٍ بمعنى مِثْل وزِيدَاننٍ ، وشِقْذ ( بذال معجمة اسم الحرباء ) وشِقذان ، وحِشّ ( بمعنى بستان ) وحِشانٍ .
وخصّ النخل بذكر صفة صنوان لأن العبرة بها أقوى . ووجه زيادة { وغير صنوان } تجديد العبرة باختلاف الأحوال .
وقرأ الجمهور { صنوان وغير صنوان } بجر { صنوان } وجر { وغير } عطفاً على { زرع } . وقرأهما ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب بالرفع عطفاً على { وجنات } .
والسقي : إعطاء المشروب . والمراد بالماء هنا ماء المطر وماء الأنهار وهو واحد بالنسبة للمسقى ببعضه .
والتفضيل : منة بالأفضل وعبرة به وبضده وكناية عن الاختلاف .
وقرأ الجمهور { تُسقَى } بفوقية اعتباراً بجمع { جنات } ، وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب { يسقى } بتحتية على تأويل المذكور .
وقرأ الجمهور { ونفضل } بنون العظمة ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف { ويفضل } بتحتية . والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { الله الذي رفع السماوات بغير عمد } . وتأنيث { بعضها } عند من قرأ { يسقى } بتحتية دون أن يقول بعضه لأنه أريد يفضل بعض الجنات على بعض في الثمرة .
والأُكْل : بضم الهمزة وسكون الكاف هو المأكول . ويجوز في اللغة ضم الكاف .
وظرفية التفضيل في { الأكل } ظرفية في معنى الملابسة لأن التفاضل يظهر بالمأكول ، أي نفضل بعض الجنات على بعض أو بعض الأعناب والزرع والنخيل على بعض من جنسه بما يثمره . والمعنى أن اختلاف طعومه وتفاضلها مع كون الأصل واحداً والغذاء بالماء واحداً ما هو إلا لقوى خفيّة أودعها الله فيها فجاءت آثارها مختلفة .
ومن ثم جاءت جملة { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } مجيء التذييل .
وأشار قوله : { ذلك } إلى جميع المذكور من قوله : { وهو الذي مدّ الأرض } [ سورة الرعد : 3 ] . وقد جعل جميع المذكور بمنزلة الظرف للآيات . وجعلت دلالته على انفراده تعالى بالإلهية دلالات كثيرة إذ في كل شيء منها آية تدل على ذلك .
ووصفت الآيات بأنها من اختصاص الذين يعقلون تعريضاً بأن من لم تقنعهم تلك الآيات منزّلون منزلة من لا يعقل . وزيد في الدلالة على أن العقل سجية للذين انتفعوا بتلك الآيات بإجراء وصف العقل على كلمة { قَوم } إيماء إلى أن العقل من مقومات قوميتهم كما بيناه في الآية قبلها .