{ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا }
وقوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا } السفهاء : جمع " سفيه " وهو : من لا يحسن التصرف في المال ، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ، ونحوهما ، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد . فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها ، لأن الله جعل الأموال قياما لعباده في مصالح دينهم ودنياهم ، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها ، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها ، بل يرزقهم منها ويكسوهم ، ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية ، وأن يقولوا لهم قولا معروفا ، بأن يعدوهم -إذا طلبوها- أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ، ونحو ذلك ، ويلطفوا لهم في الأقوال جبرًا لخواطرهم .
وفي إضافته تعالى الأموال إلى الأولياء ، إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء ما يفعلونه في أموالهم ، من الحفظ والتصرف وعدم التعريض للأخطار . وفي الآية دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه في مالهم ، إذا كان لهم مال ، لقوله : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ }
وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه من النفقة الممكنة والكسوة ؛ لأن الله جعله مؤتمنا على مالهم فلزم قبول قول الأمين .
ينهى تعالى عن تَمْكين السفهاء من التصرّف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما ، أي : تقوم{[6600]} بها معايشهم من التجارات وغيرها . ومن هاهنا يُؤْخَذُ الحجر على السفهاء ، وهم أقسام : فتارة يكون الحَجْرُ للصغر ؛ فإن الصغير مسلوب العبارة . وتارة يكون الحجرُ للجنون ، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين ، وتارة يكون الحجر للفَلَس ، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاقَ ماله عن وفائها ، فإذا سأل{[6601]} الغُرَماء الحاكم الحَجْرَ عليه حَجَرَ عليه .
وقد قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } قال : هم بَنُوك والنساء ، وكذا قال ابن مسعود ، والحكم بن عُتَيبة{[6602]} والحسن ، والضحاك : هم النساء والصبيان .
وقال سعيد بن جُبَير : هم اليتامى . وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : هم النساء .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عَمّار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإن النساء السُّفَهاء إلا التي أطاعت قَيِّمَها " .
ورواه ابن مَرْدُويه مطولا{[6603]} .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حَرْب بن سُرَيج{[6604]} عن معاوية بن قرة{[6605]} عن أبي هريرة { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } قال : الخدم ، وهم شياطين الإنس وهم الخدم .
وقوله : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول [ تعالى ]{[6606]} لا تَعْمَد إلى مالك وما خَوَّلك الله ، وجعله معيشة ، فتعطيَه امرأتك أو بَنيكَ ، ثم تنظر{[6607]} إلى ما في أيديهم ، ولكن أمْسكْ مالك وأصلحْه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسْوتهم ومؤنتهم ورزقهم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن فرَاس ، عن الشعبي ، عن أبي بُرْدة ، عن أبي موسى قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت له امرأة سَيّئة الخُلُق فلم يُطَلقها ، ورجل أعطى ماله سفيها ، وقد قال : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه .
وقال مجاهد : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا } يعني في البر والصلة .
وهذه الآية الكريمة انتظمت الإحسان إلى العائلة ، ومَنْ تحت الحَجْر بالفعل ، من الإنفاق في الكساوي والإنفاق{[6608]} والكلام الطيب ، وتحسين الأخلاق .
عطف على قوله : { وآتوا النساء صدقاتهن } [ النساء : 4 ] لدفع توهّم إيجاب أن يؤتى كلّ مال لمالكه من أجل تقدّم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرّتين في قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم وآتوا النساء صدقاتهن } [ النساء : 2 ، 4 ] . أو عطف على قوله : { وآتوا اليتامى } وما بينهما اعتراض .
والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله ، والحال التي يؤتى فيها مالَه ، وقد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدّم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنّه أسبق في الحصول ، فيتّجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدّم حكم التسليم ، لأنّ الناس أحرص على ضدّه ، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتّخذه الظالمون حجّة لهم ، وتظاهروا بأنّهم إنّما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم ، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدّمين غير الأتقياء ، إذ يتصدّون للمعارضة في بيّنات ثبوت الرشد لمجرّد الشغب وإملال المحاجير من طلب حقوقهم .
والخطاب في قوله : { ولا تؤتوا السفهاء } كمثل الخطاب في { وآتوا اليتامى وآتوا النساء } هو لعموم الناس المخاطبين بقوله : { يا أيها الناس اتّقوا ربكم } [ الحج : 1 ] ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظّه من الامتثال .
والسفهاء يجوز أن يراد به اليتامى ، لأنّ الصغر هو حالة السفه الغالبة ، فيكون مقابلاً لقوله : { وآتوا اليتامى } لبيان الفرق بين الإيتاء بمعنى الحفظ والإيتاء بمعنى التمكين ، ويكون العدول عن التعبير عنهم باليتامى إلى التعبير هنا بالسفهاء لبيان علّة المنع . ويجوز أن يراد به مطلق من ثبت له السفه ، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرّف ، فتكون الآية قد تعرّضت للحجر على السفيه الكبير استطراداً للمناسبة ، وهذا هو الأظهر لأنّه أوفر معنى وأوسع تشريعاً . وتقدّم بيان معاني السفه عند قوله تعالى : { إلا من سفه نفسه } في سورة البقرة ( 130 ) .
والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم ، ألا ترى إلى قوله : { وارزقوهم فيها } وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين ب ( يا أيّها الناس ) إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكية المختصّين به في ظاهر الأمر ، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها ، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة ، فمن تلك الأموال يُنفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف ، ومتى قلَّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة ، فأصبحوا في ضنك وبؤس ، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم ، وامتلاك بلادهم ، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم ، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة .
وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها . وقد أبْعَدَ جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة ، لأنّ الأموال في يد الأولياء ، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة . وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم ، وإن لم تكن أموالهم حقيقة ، وإليه مال الزمخشري . وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالَهم أموالُهم وإليه مال فخر الدين . وقارب ابن العرب إذ قال : « لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك » وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن . وأبعَدَ فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا يا أصحاب الأموال أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم ، وهذا أبعد الوجوه ، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلاّ الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء ، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين ، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجهاً جائزاً يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة .
وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحاً وهي قوله : { التي جعل اللَّه لكم قياماً } فجاء في الصفة بموصول إيماء إلى تعليل النهي ، وإيضاحاً لمعنى الإضافة ، فإنّ ( قيما ) مصدر على وزن فِعَل بمعنى فِعَال : مثل عِوذَ بمعنى عياذ ، وهو من الواوي وقياسُه قِوَم ، إلاّ أنّه أعلّ بالياء شذوذاً كما شذّ جياد في جمع جَواد وكما شذّ طيال في لغة ضَبَّةَ في جمع طويل ، قصدوا قلب الواو ألفاً بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه ، إلاّ أنّ ذلك في وزن فِعال مطّرد ، وفي غيره شاذّ لكثرة فِعال في المصادر ، وقلّة فِعَل فيها ، وقيم من غير الغالب . كذا قرأه نافع ، وابن عامر : « قيما » بوزن فِعَل ، وقرأه الجمهور « قياماً » ، والقيام ما به يتقوّم المعاش وهو واوي أيضاً وعلى القراءتيْن فالإخبار عن الأموال به إخبار بالمصدر للمبالغة مثل قول الخنساء :
والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس . وقيل : قيما جمع قِيمة أي التي جعلها الله قيماً أي أثماناً للأشياء ، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم .
ومعنى قوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم } واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق ، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة ، ولذلك قال فقهاؤنا : تسلّم للمحجور نفقته وكِسْوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله ، وعدل عن تعدية { ارزقوهم واكسوهم } ب ( مِن ) إلى تعديتها ب ( في ) الدالّة على الظرفية المجازية ، على طريقة الاستعمال في أمثاله ، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء ، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل : تارة من عينه ، وتارة من ثمنه ، وتارة من نتاجه ، وأنّ ذلك يحصل مكرّراً مستمرّاً .
وانظر ذلك في قول سَبرة بن عمرو الفَقْعسي :
نُحابِي بها أكفاءنَا ونُهيِنَها *** ونَشْرَب في أثْمَانِها ونُقامِر
يريد الإبل التي سيقت إليهم في دية قتيل منهم ، أي نشرب بأثمانها ونقامر ، فإمّا شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها في القمار ، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا ، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى ( في ) ، واهتدى إليه صاحب « الكشاف » بعض الاهتداء فقال : أي اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربَّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال . فقوله : « لا من صلب المال » مستدرك ، ولو كان كما قال لاقتضى نهياً عن الإنفاق من صلب المال .
وإنّما قال : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى ، فإنّ شأن من يُخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال ، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي ، والتي من مال المعطَى ، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون ، لقلّة تدبيره ، فلعلّ ذلك يحمل ولّيه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة ، فلا ينبغي أن يشتم عليه ، ولأنّ السفيه غالباً يستنكر منعَ ما يطلبُه من واسع المطالب ، فقد يظهر عليه ، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه ، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدئوا محاجيرهم بسَيّىء الكلام ، ولا يجيبوهم بما يسوء ، بل يعظون المحاجير ، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا ، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم ، وحفظه حفظ لمصالحهم ، فإنّ في ذلك خيراً كثيراً ، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم ، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتّى لا يكونوا كما قال :
إذا نُهِي السفيهُ جرى إليه *** وخالف والسفيه إلى خلاف
وقد شمل القَول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله . وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخُلُق بمصادفته المحزّ ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه .