تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

{ 19 - 22 ْ } { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

لما اختلف بعض المسلمين ، أو بعض المسلمين وبعض المشركين ، في تفضيل عمارة المسجد الحرام ، بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاج ، على الإيمان باللّه والجهاد في سبيله ، أخبر اللّه تعالى بالتفاوت بينهما ، فقال : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } أي : سقيهم الماء من زمزم كما هو المعروف إذا أطلق هذا الاسم ، أنه المراد { وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ }

فالجهاد والإيمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة ، لأن الإيمان أصل الدين ، وبه تقبل الأعمال ، وتزكو الخصال .

وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين ، الذي به يحفظ الدين الإسلامي ويتسع ، وينصر الحق ويخذل الباطل .

وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج ، فهي وإن كانت أعمالا صالحة ، فهي متوقفة على الإيمان ، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان والجهاد ، فلذلك قال : { لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : الذين وصفهم الظلم ، الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير ، بل لا يليق بهم إلا الشر .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله } السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر فلا يشبهان بالجثث بل لا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن . ويؤيد الأول قراءة من قرأ " سقاة الحاج وعمرة المسجد " والمعنى إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ثم قرر ذلك بقوله : { لا يستوُون عند الله } وبين عدم تساويهم بقوله : { والله لا يهدي الظالمين } أي الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول عليه الصلاة والسلام منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم الله ووفقهم للحق والصواب ، وقيل المراد بالظالمين الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

وقرأ الجمهور «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام » وقرأ ابن الزبير{[5560]} وأبو وجزة{[5561]} ومحمد بن علي وأبو جعفر القاري{[5562]} «أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام »{[5563]} ، وقرأها كذلك ابن جبير إلا أنه نصب «المسجدَ » على إرادة التنوين في «عمرة » وقرأ الضحاك وأبو وجزة وأبو جعفر القاري «سُقاية الحاج » بضم السين{[5564]} «وعمرة » ، فأما من قرأ «سقاية وعمارة » ففي الكلام عنده محذوف إما في أوله وإما في آخره فإما أن يقدر «أجعلتم أهل سقاية » وإما أن يقدر كفعل من آمن بالله . وأما من قرأ «سقاة » و «عمرة » فنمط قراءته مستو ، وأما قراءة الضحاك فجمع ساق إلا أنه ضم أوله كما قالوا عرف وعُراف وظئر وظُؤار{[5565]} ، وكان قياسه أن يقال سقاء وإن أنث كما أنث من الجموع حجارة وغيره . فكان القياس سقية من أول مرة على التأنيث قاله ابن جني ، و { سقاية الحاج } كانت في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، قال الحسن : ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أقيموا عليها فإنها لكم خير »{[5566]} ، { وعمارة المسجد } قيل هي حفظه من الظلم فيه ويقال هجراً ، وكان ذلك إلى العباس ، وقيل هي السدانة خدمة البيت خاصة ، وكانت في بني عبد الدار وكان يتولاها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الدار ، وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة المذكور هذان هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة في ثاني يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي رضي الله عنهما ، وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان وشيبة :

«يوم وفاء وبر خذوها خالدة تالدة لا ينازعكموها إلا ظالم »{[5567]} .

قال القاضي أبو محمد : يعني السدانة واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فقيل إن كفار قريش قالوا لليهود إنَّا نسقي الحجيج ونعمر البيت ، أفنحن أفضل أم محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ؟ فقالت لهم أحبار اليهود بل أنتم ، فنزلت الآية في ذلك ، وقيل إن الكفار افتخروا بهذه الأشياء فنزلت الآية في ذلك ، وأسند الطبري إلى النعمان بن بشير أنه قال : كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فقال أحدهم ما أتمنى بعد الإسلام إلا أن أكون ساقي الحاج ، وقال الآخر إلا أن أكون خادم البيت وعامره ، وقال الثالث إلا أن أكون مجاهداً في سبيل الله ، فسمعهم عمر بن الخطاب فقال : اسكتوا حتى أدخل على النبي صلى الله ليه وسلم فأستفتيه فدخل عليه فاستفتاه فنزلت الآية في ذلك{[5568]} ، وقال ابن عباس والضحاك : إن المسلمين عيروا أسرى بدر بالكفر فقال العباس بل نحن سقاة الحاج وعمرة البيت فنزلت الآية في ذلك{[5569]} ، وقال مجاهد : أمروا بالهجرة فقال العباس أنا أسقي الحاج وقال عثمان بن طلحة أنا حاجب للكعبة فلا نهاجر فنزلت { أجعلتم سقاية الحاج } إلى قوله { حتى يأتي الله بأمره } ، {[5570]} وقال مجاهد وهذا كله قبل فتح مكة ، وقال محمد بن كعب : إن العباس وعلياً وعثمان بن طلحة تفاخروا فقال العباس أنا ساقي الحاج وقال عثمان أنا عامر البيت ولو شئت بت فيه وقال علي أنا صاحب جهاد الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم والذي آمنت وهاجرت قديما ، فنزلت الآية في ذلك{[5571]} .


[5560]:- هو عبد الله بن الزبير بن العوّام القرشي الأسدي، أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه، ولد عام الهجرة، وحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة فكان أول شيء دخل في جوفه هو ريق النبي صلى الله عليه وسلم، وردت عنه =الروايات في حروف القرآن، وقتل سنة 73 من الهجرة، وهو قول الجمهور (الإصابة).
[5561]:- اسمه يزيد بن عبيدة السعدي المدني، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، وتوفي سنة 130 من الهجرة. (طبقات القراء).
[5562]:- هو يزيد بن القعقاع أبو جعفر المخزومي المدني القاري، أحد القراء العشرة المشهورين، تابعي كبير القدر (طبقات القراء).
[5563]:-(سُقاة) في هذه القراءة: جمع ساق مثل رام ورماة، و(عمرة) بفتح العين وحذف الألف: جمع عامر مثل صانع وصنعة. قال ابن الجزري في كتابه "النشر في القراءات العشر" : "وهي رواية ميمونة والقورسي عن أبي جعفر، وكذا رواها ابن جبير عن ابن جماز".
[5564]:- قال القرطبي تعقيبا على هذه القراءة: وهي لغة.
[5565]:- العُراق: العظم أكل لحمه. والظّئر: المرضعة لغير ولدها، يقال: ظأرت المرأة والناقة على غير ولدها: عطفت.
[5566]:- أخرج أبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {أجعلتم سقاية الحاج} قال: أرادوا أن يدعوا السقاية والحجابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوها فإن لكم فيها خيرا). (الدر المنثور).
[5567]:- عثمان بن طلحة بن أبي طلحة: اسمه عبد الله بن عبد العزّى، أسلم في هدنة الحديبية، وهاجر مع خالد بن الوليد. وشهد الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ودخل معه بلال وعثمان بن طلحة، وأسامة بن زيد، وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من عثمان مفتاح البيت فدخل فمكث فيه نهارا ثم خرج، وقد سكن عثمان بالمدينة إلى أن مات بها سنة اثنين وأربعين من الهجرة.
[5568]:- أخرجه مسلم، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه. وفيه: (فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم*** الخ (الدر المنثور).
[5569]:- أخرجه ابن جرير، وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه. (الدر المنثور).
[5570]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، وابن مردويه- عن عبد الله بن عبيدة رضي الله عنه، وأخرج الفريابي مثله عن ابن سيرين. (الدر المنثور).
[5571]:- أخرج مثله أبو نعيم في فضائل الصحابة، وابن عساكر عن أنس رضي الله عنه، وفيه "شيبة بن عثمان" بدلا من "عثمان".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جلّ ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله لا في الذي افتخروا به من السدانة والسقاية...

حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: ثني معاوية بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، عن النعمان بن بشير الأنصاريّ، قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي ألاّ أعمل عملاً بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيته فيما اختلفتم فيه قال: ففعل، فأنزل الله تبارك وتعالى:"أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ..." إلى قوله: "وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ"...

عن ابن عباس قوله: "أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... "إلى قوله: "الظّالِمِينَ" وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين: "قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ على أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرا تَهْجُرُونَ" يعني أنهم يستكبرون بالحرم، وقال: «به سامرا» لأنهم كانوا يسمرون ويهجرون القرآن والنبيّ صلى الله عليه وسلم. فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية. ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه، قال الله: "لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ" يعني: الذين زعموا أنهم أهل العمارة، فسماهم الله «ظالمين» بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا...

فتأويل الكلام إذن: أجعلتم أيها القوم سقاية الحاجّ، وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون هؤلاء وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملاً. "واللّهُ لا يَهْدِي القَوْم الظّالِمِينَ" يقول: والله لا يوفق لصالح الأعمال من كان به كافرا ولتوحيده جاحدا...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

خاطب الله تعالى بهذه الآية قوما جعلوا القيام بسقي الحجيج وعمارة المسجد الحرام من الكفار مع مقامهم على الكفر مساويا أو أفضل من إيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، فأخبر تعالى أنهما لا يستويان عند الله في الفضل لأن الذي آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله أفضل ممن يسقي الحجيج ولم يفعل ذلك.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوي بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر. وروي أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{والله لا يهدي القوم الظالمين} فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر وكانوا ظالمين، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه. وأيضا ظلموا المسجد الحرام، فإنه تعالى خلقه ليكون موضعا لعبادة الله تعالى، فجعلوه موضعا لعبادة الأوثان، فكان هذا ظلما.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما بين سبحانه الصالح لذلك من غيره، أنكر على من لم يفرق بين الصنفين فقال: {أجعلتم سقاية الحاج} أي مجردة عن الإيمان {وعمارة المسجد الحرام} أي كذلك كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد، وأهل السقاية والعمارة من غير إيمان في موالاتهم والكف عن معاداتهم {كمن آمن بالله} أي الحامل اعتقاد كماله على كل كمال {واليوم الآخر} أي الحاث خوفه على كل خير {وجاهد في سبيل الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء ولما كان كأنه قيل: كنا نظن ذلك فما حالهم؟قال: {لا يستوون عند الله} أي الذي له الكمال كله لأن المشركين ظلموا بترك الإيمان {والله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم الظالمين} أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها، والكفر أعظم الظلم، فلا توجبوا لهم الهداية ولا المساواة بالمهتدين وإن باشروا جميع أفعال المهتدين ما عدا الإيمان، ومن فعل ذلك منكم كان ظالماً وخيف عليه سلب موجب الهداية.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

والاستفهام في {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} للإنكار {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي: لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله، ودلّ سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة، التي يدّعيها المشركون، أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

...هذه الآيات تكملة لموضوع الآيتين اللتين قبلها في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام بنوعيها للمسلمين دون المشركين، وكون إيمانهم وإسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارته وسقاية الحاج فيه، وإن قام بهما المسلمون أنفسهم خلافا لما توهم بعضهم في الأعمال التي بعد الإسلام، فقد روى مسلم وأبو داود وابن حبان وبعض رواة التفسير المأثور من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وذلك يوم الجمعة ـ ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. [فدخل بعد الصلاة فاستفتاه]، فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج} ـ إلى قوله ـ لا يهدي القوم الظالمين}.

وروى الفريابي عن ابن سيرين قال: قدم علي بن أبي طالب مكة فقال للعباس: أي عم ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أعمر المسجد وأحجب البيت، فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج} الآية. وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني (أي الأسير) فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج}. وروى أبو جعفر بن جرير عن كعب القرظي قال: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء بت فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بت في المسجد، فقال علي رضي الله عنه: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد. فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج} الآية كلها. فهذه الروايات في أسباب النزول وقائع في تفسير الآيات، وإن لم تكن أسبابا.

والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجاجه ـ من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة ـ وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة، وهي أشق العبادات النفسية البدنية المالية، والآيات تتضمن الرد عليها كلها.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

فالجهاد والإيمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة، لأن الإيمان أصل الدين، وبه تقبل الأعمال، وتزكو الخصال. وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين، الذي به يحفظ الدين الإسلامي ويتسع، وينصر الحق ويخذل الباطل. وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، فهي وإن كانت أعمالا صالحة، فهي متوقفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح ما: الذين وصفهم الظلم، الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير، بل لا يليق بهم إلا الشر. في الإيمان والجهاد، فلذلك قال: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت الله؛ وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبينها الله للمسلمين والمشركين، فما يجوز أن يسوى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية، وعقيدتهم ليست خالصة لله، ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد، لا يجوز أن يسوى هؤلاء -لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج- بالذين آمنوا إيمانا صحيحا وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته وميزان الله هو الميزان وتقديره هو التقدير.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ظاهر هذه الآية يقتضي أنّها خطاب لقوم سَوَّوا بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، وبين الجهاد والهجرة، في أنّ كلّ ذلك من عمل البرّ، فتؤذن بأنّها خطاب لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد، بعلّة اجتزائهم بالسقاية والعمارة. ومناسبتها للآيات التي قبلها: أنّه لمّا وقع الكلام على أنّ المؤمنين هم الأحقّاء بعمارة المسجد الحرام من المشركين دلّ ذلك الكلام على أنّ المسجد الحرام لا يحقّ لغير المسلم أن يباشر فيه عملاً من الأعمال الخاصّة به، فكان ذلك مثار ظنّ بأنّ القيام بشعائر المسجد الحرام مساوٍ للقيام بأفضل أعمال الإسلام.

... والاستفهام للإنكار.

و (السقاية) صيغة للصناعة، أي صناعة السقي، وهي السقي من ماء زمزم، ولذلك أضيفت السقاية إلى الحاج.

وكذلك (العمارة) صناعة التعمير، أي القيام على تعمير شيء، بالإصلاح والحراسة ونحو ذلك، وهي، هنا: غير ما في قوله: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} [التوبة: 17] وقوله: {إنما يعمر مساجد الله} [التوبة: 18] وأضيفت إلى المسجد الحرام لأنّها عمل في ذات المسجد.

وتعريف الحاج تعريف الجنس.

وقد كانت سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام من أعظم مناصب قريش في الجاهلية، والمناصب عشرة، وتسمّى المآثر فكانت السقاية لبني هاشم بن عبد مناف بن قصي وجاء الإسلام وهي للعباس بن عبد المطلب، وكانت عمارة المسجد، وهي السدانة، وتسمّى الحجابة، لبني عبد الدار بن قصي وجاء الإسلام وهي لعثمان بن طلحة...

وجملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} تذييل لجملة {أجعلتم سقاية الحاج...}، وموقعهُ هنا خفي إن كانت السورة قد نزلت بعد غزوة تبوك، وكانت هذه الآية ممّا نزل مع السورة ولم تنْزل قبلها، على ما رجحناه من رواية النعمان بن بشير في سبب نزولها، فإنّه لم يبق يومئذٍ من يجعل سقاية الحاجّ وعمارة البيت تساويان الإيمان والجهاد، حتى يُرَد عليه بما يدلّ على عدم اهتدائه. وقد تقدّم ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب نزولها وهو يزيد موقعها خفاء.

فالوجه عندي في موقع جملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} أنّ موقعها الاعتراض بين جملة {أجعلتم سقاية الحاج} وجملة {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا} [التوبة: 20] إلخ.

والمقصود منها زيادة التنويه بشأن الإيمان، إعلاماً بأنّه دليل إلى الخيرات، وقائد إليها. فالذين آمنوا قد هداهم إيمانهم إلى فضيلة الجهاد، والذين كفروا لم ينفعهم ما كانوا فيه من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ، فلم يهدهم الله إلى الخير، وذلك برهان على أنّ الإيمان هو الأصل، وأنّ شُعَبَه المتولّدة منه أفضل الأعمال، وأنّ ما عداها من المكارم والخيرات في الدرجة الثانية في الفضل، لأنّها ليست من شعب الإيمان، وإن كان كلا الصفتين لا ينفع إلاّ إذا كان مع الإيمان، وخاصّة الجهاد.

وفيه إيماء إلى أنّه: لولا الجهاد لما كان أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام مؤمنين، فإنّ إيمانهم كان من آثار غزوة فتح مكة وجيش الفتح إذ آمن العباس بن عبد المطلب وهو صاحب السقاية، وآمن عثمان بن طَلحة وهو صاحب عمارة المسجد الحرام.

فأمّا ما رواه الطبري والواحدي عن ابن عباس: من أنّ نزول هذه الآية كان يوم بدر، بسبب المماراة التي وقعت بين علي بن أبي طالب والعباس، فموقع التذييل بقوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين} واضح: أي لا يهدي المشركين الذين يسقون الحاجّ ويعمرون المسجد الحرام، إذ لا يجدي ذلك مع الإشراك. فتبيّن أنّ ما توهّموه من المساواة بين تلك الأعمال وبين الجهاد، وتنازعهم في ذلك، خطأ من النظر، إذ لا تستقيم تسوية التابع بالمتبوع والفرعِ بالأصل، ولو كانت السقاية والعمارة مساويتين للجهاد لكان أصحابهما قد اهتدوا إلى نصر الإيمان، كما اهتدى إلى نصره المجاهدون، والمشاهدة دلّت على خلاف ذلك: فإنّ المجاهدين كانوا مهتدين ولم يكن أهل السقاية والعمارة بالمهتدين. فالهداية شاع إطلاقها مجازاً باستعارتها لمعنى الإرشاد على المطلوب، وهي بحسب هذا الإطلاق مراد بها مطلوب خاص وهو ما يطلبه مَن يعمل عملاً يتقرب به إلى الله، كما يقتضيه تعقيب ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد بهذه الجملة.

وكنّي بنفي الهداية عن نفي حصول الغرض من العمل.

والمعنى: والله لا يقبل من القوم المشركين أعمالهم.