{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا } النفقات الواجبة والمستحبة { لَمْ يُسْرِفُوا } بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا في قسم التبذير وإهمال الحقوق الواجبة ، { وَلَمْ يَقْتُرُوا } فيدخلوا في باب البخل والشح { وَكَانَ } إنفاقهم { بَيْنَ ذَلِكَ } بين الإسراف والتقتير { قَوَامًا } يبذلون في الواجبات من الزكوات والكفارات والنفقات الواجبة ، وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا ضرار وهذا من عدلهم واقتصادهم .
وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } أي : ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم ، بل عَدْلا خيارًا ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا ، { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، كَمَا قَالَ : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [ الإسراء : 29 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام{[21594]} بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن ضَمْرَة ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من فقه الرجل رفقه في معيشته " . ولم يخرجوه{[21595]} .
وقال [ الإمام ]{[21596]} أحمد أيضًا : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا سُكَين{[21597]} بن عبد العزيز العَبْدي ، حدثنا إبراهيم الهَجَري عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما عال من اقتصد " . ولم يخرجوه{[21598]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون{[21599]} حدثنا سعيد{[21600]} بن حكيم ، عن مسلم بن حبيب ، عن بلال - يعني العبسي - عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أحسن القصد في الغنى ، وأحسن القصد في الفقر ، وأحسن القصد في العبادة " ثم قال : لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه{[21601]} .
وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف .
وقال غيره : السرف النفقة في معصية الله .
وقال الحسن البصري : ليس النفقة في سبيل الله سرفا [ والله أعلم ]{[21602]} .
{ والذين إذا انفقوا لم يسرفوا } لم يجاوزا حد الكرم . { ولم يقتروا } ولم يضيقوا تضييق الشحيح . وقيل الإسراف هو الإنفاق في المحارم والتقتير منع الواجب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر والكوفيون بضم الياء وكسر التاء من أقتر ، وقرئ بالتشديد والكل واحد . { وكان بين ذلك قواما } وسطا عدلا سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما ، وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خير ثان أو حال مؤكدة ، ويجوز أن يكون الخبر بين ذلك لغوا ، وقيل إنه اسم{ كان } لكنه مبني لإضافته إلى غير متمكن وهو ضعيف لأنه بمعنى القوام فيكون كالإخبار بالشيء عن نفسه .
اختلف المفسرون في هذه الآية في الإنفاق ، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة ، وإن أسرف ، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه ، وأن المقتر هو الذي يمنع حقاً عليه ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، وقال عون بن عبد الله بن عتبة «الإسراف » أن تنفق مال غيرك . ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية ، وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر ، والوجه أن يقال أن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره ، وكذلك التعدي على مال الغير ، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك ، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات ، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقاً آخر أو عيالاً ونحو هذا وأن لا يضيق أيضاً ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح ، والحسن في ذلك هو القوام ، أي المعتدل ، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال ، وخير الأمور أوسطها ، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ومنع غيره من ذلك ، ونعم ما قال إبراهيم النخعي وهو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف ، وقال يزيد بن حبيب هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للذة ، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك ؟ فقال له عمر الحسنة بين السيئتين ، ثم تلا الآية ، وقال عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفاً ألا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله ، وفي سنن ابن ماجه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته ) ، وقال الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم{[8877]}
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يُقتِروا » بضم الياء وكسر التاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد وحفص عن عاصم{[8878]} «يَقتِروا » بفتح الياء وكسر التاء ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الياء ، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة وعاصم بخلاف ، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح التاء{[8879]} ، وقرأ أبو عمرو «والناس قَواماً » بفتح القاف ، أي معتدلاً{[8880]} ، وقرأ حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف أي مبلغاً وسداداً وملاك حال ، و { قواماً } خبر { كان } واسمها مقدر أي الإنفاق ، وجوز الفراء أن يكون اسمها قوله { بين ذلك } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.