تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

ثم قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }

ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها ، فإنه تعالى ، لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة ، وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين ، المزيلة لكل شك ، ذكر هنا أن { مِنَ النَّاسِ } مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي : نظراء ومثلاء ، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة ، والتعظيم والطاعة .

ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة ، وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله ، مشاق له ، أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته ، فليس له أدنى عذر في ذلك ، بل قد حقت عليه كلمة العذاب .

وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله ، لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير ، وإنما يسوونهم به في العبادة ، فيعبدونهم ، ليقربوهم إليه ، وفي قوله : { اتخذوا } دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له ، تسمية مجردة ، ولفظا فارغا من المعنى ، كما قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ }

{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق ، وغيره مخلوق ، والرب الرازق ومن عداه مرزوق ، والله هو الغني وأنتم الفقراء ، وهو الكامل من كل الوجوه ، والعبيد ناقصون من جميع الوجوه ، والله هو النافع الضار ، والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء ، فعلم علما يقينا ، بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا ، سواء كان ملكا أو نبيا ، أو صالحا ، صنما ، أو غير ذلك ، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة ، والذل التام ، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أي : من أهل الأنداد لأندادهم ، لأنهم أخلصوا محبتهم له ، وهؤلاء أشركوا بها ، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة ، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه ، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا ، ومحبته عين شقاء العبد وفساده ، وتشتت أمره .

فلهذا توعدهم الله بقوله : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله ، وسعيهم فيما يضرهم .

{ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } أي : يوم القيامة عيانا بأبصارهم ، { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي : لعلموا علما جازما ، أن القوة والقدرة لله كلها ، وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء ، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها ، لا كما اشتبه عليهم في الدنيا ، وظنوا أن لها من الأمر شيئا ، وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه ، فخاب ظنهم ، وبطل سعيهم ، وحق عليهم شدة العذاب ، ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا ، ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع ، بل يحصل لهم الضرر منها ، من حيث ظنوا نفعها .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة ، حيث جعلوا [ له ]{[3037]} أندادًا ، أي : أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله إلا هو ، ولا ضد له ولا ندَّ له ، ولا شريك معه . وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندًا وهو خلَقَك " {[3038]} .

وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ولحبهم لله وتمام معرفتهم به ، وتوقيرهم وتوحيدهم له ، لا يشركون به شيئًا ، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه . ثم تَوَعَّدَ تعالى المشركين به ، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } .

قال بعضهم : تقدير الكلام : لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعًا ، أي : إن الحكم له{[3039]} وحده لا شريك له ، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه { وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } كما قال : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [ الفجر : 25 ، 26 ] يقول : لو علموا ما يعاينونه{[3040]} هنالك ، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم ، لانتهوا عما هم فيه من الضلال .


[3037]:زيادة من جـ.
[3038]:صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).
[3039]:في جـ، ط: "إن الحكم لله".
[3040]:في جـ: "ما يعاينوه".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا } من الأصنام . وقيل من الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم لقوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } ولعل المراد أعم منهما وهو ما يشغله عن الله { يحبونهم } يعظمونهم ويطيعونهم { كحب الله } كتعظيمه والميل إلى طاعته ، أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة ، والمحبة : ميل القلب من الحب ، استعير لحبة القلب ، ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها ، ومحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل مراضيه ، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة ، وصونه عن المعاصي . { والذين آمنوا أشد حبا لله } لأنه لا تنقطع محبتهم لله تعالى ، بخلاف محبة الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب ، ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله تعالى عند الشدائد ، ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره .

{ ولو يرى الذين ظلموا } ولو يعلم هؤلاء الذين ظلموا باتخاذ الأنداد { إذ يرون العذاب } إذ عاينوه يوم القيامة . وأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحققه كقوله تعالى : { ونادى أصحاب الجنة } .

{ أن القوة لله جميعا } ساد مسد مفعولي { يرى } ، وجواب { لو } محذوف . أي لو يعلمون أن القوة لله جميعا إذا عاينوا العذاب لندموا أشد الندم . وقيل هو متعلق الجواب والمفعولان محذوفان ، والتقدير : ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع ، لعلموا أن القوة لله كلها لا ينفع ولا يضر غيره . وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب : { ولو ترى } على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما ، وابن عامر : { إذ يرون } على البناء للمفعول ، ويعقوب { إن } بالكسر وكذا { وإن الله شديد العذاب } على الاستئناف ، أو إضمار القول .