تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ قَالَ } الله مجيبا لدعوة موسى : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } أي : إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم ، مدة أربعين سنة ، وتلك المدة أيضا يتيهون في الأرض ، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين ، وهذه عقوبة دنيوية ، لعل الله تعالى كفر بها عنهم ، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها ، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة ، أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر .

ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات ، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها ، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها ، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء ، وعدم الاستعباد ، والذل المانع من السعادة .

ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق ، خصوصا قومه ، وأنه ربما رق لهم ، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة ، أو الدعاء لهم بزوالها ، مع أن الله قد حتمها ، قال : { فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : لا تأسف عليهم ولا تحزن ، فإنهم قد فسقوا ، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلما منا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

وقوله تعالى : { [ قَالَ ]{[9566]} فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ [ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ]{[9567]} } لما دعا عليهم موسى ، عليه السلام ، حين نكَلُوا عن الجهاد حكم الله عليهم بتحريم دخولها قدرًا مدة أربعين سنة ، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه ، وفيه كانت أمور عجيبة ، وخوارق كثيرة ، من تظليلهم بالغَمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل{[9568]} معهم على دابة ، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة{[9569]} عينا تجري لكل شعب عين ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران . وهناك أنزلت التوراة ، وشرعت لهم الأحكام ، وعملت قبة العهد ، ويقال لها : قبة الزمان .

قال يزيد بن هارون ، عن أصبغ بن زيد{[9570]} عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله : { فَإِنَّهَا{[9571]} مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ } الآية . قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة ، يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا قطعة من حديث " الفتون " ، ثم كانت وفاة هارون ، عليه السلام ، ثم بعده بمدة ثلاثة سنين مات موسى الكليم ، عليه السلام ، وأقام الله فيهم " يوشع بن نون " عليه السلام ، نبيا خليفة عن موسى بن عمران ، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة ، ويقال : إنه لم يبق منهم أحد سوى " يوشع " و " كالب " ، ومن هاهنا قال بعض المفسرين في قوله : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } هذا وقف تام ، وقوله : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } منصوب بقوله : { يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ } فلما انقضت المدة خرج بهم " يوشع بن نون " عليه السلام ، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني ، فقصد{[9572]} بهم بيت المقدس فحاصرها ، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر ، فلما تَضَيَّفَتِ الشمس للغروب ، وخَشي دخول السبت عليهم قال{[9573]} " إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها عليَّ " ، فحبسها الله تعالى حتى فتحها ، وأمر الله " يوشع بن نون " أن يأمر بني إسرائيل ، حين يدخلون بيت المقدس ، أن يدخلوا بابها سُجّدا ، وهم يقولون : حطّة ، أي : حط عنا ذنوبنا ، فبدلوا ما أمروا به ، فدخلوا{[9574]} يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حَبَّة في شَعْرة ، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنِيُّ ، حدثنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ } قال : فتاهوا أربعين سنة ، فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة ، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم " يوشع بن نون " ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى ، وهو الذي افتتحها ، وهو الذي قيل له : " اليوم يوم الجمعة " فهَمُّوا بافتتاحها ، ودنت{[9575]} الشمس للغروب ، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا ، فنادى الشمس : " إني مأمور وإنك مأمورة " فوقفت حتى افتتحها ، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط ، فقربوه إلى النار فلم تأت فقال : فيكم الغلول ، فدعا رءوس الأسباط ، وهم اثنا عشر رجلا فبايعهم ، والتصقت يد رجل منهم بيده ، فقال : الغلول عندك ، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب ، لها عينان من ياقوت ، وأسنان من لؤلؤ ، فوضعه مع القربان ، فأتت النار فأكلتها .

وهذا السياق له شاهد في الصحيح . وقد اختار ابن جرير أن قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } هو العامل في " أربعين سنة " ، وأنهم مَكَثوا لا يدخلونها أربعين سنة ، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد . قال : ثم خرجوا مع موسى ، عليه السلام ، ففتح بهم بيت المقدس . ثم احتج على ذلك قال : بإجماع علماء أخبار الأولين أن{[9576]} عوج بن عنق " قتله موسى ، عليه السلام ، قال : فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق ، فدل على أنه كان بعد التيه . قال : وأجمعوا على أن " بلعام بن باعورا " أعان الجبارين بالدعاء على موسى ، قال : وما ذاك إلا بعد التيه ؛ لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه هذا استدلاله ، ثم قال :

حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عطية ، حدثنا قَيْس ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ، ووثبته عشرة أذرع ، وطوله عشرة أذرع ، فوثب فأصاب كعب " عوج " فقتله ، فكان جسرًا لأهل النيل سنة . {[9577]}

وروي أيضا عن محمد بن بَشّار ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نَوْف البِكالي قال : كان سرير " عوج " ثمانمائة{[9578]} ذراع ، وكان طول موسى عشرة أذرع ، وعصاه عشرة أذرع ، ووثب في السماء عشرة أذرع ، فضرب " عوجا " فأصاب كعبه ، فسقط ميتا ، وكان جسْرًا للناس يمرون عليه . {[9579]}

وقوله تعالى : { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } تسلية لموسى ، عليه السلام ، عنهم ، أي : لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما{[9580]} حكمت عليهم ، به فإنهم يستحقون ذلك .

وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما ، فيما{[9581]} أمرهم{[9582]} به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ، ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ، هذا ؛ وقد شاهدوا ما أحل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم ، وهم ينظرون لتَقَرَّ به أعينهم وما بالعهد من قدم ، ثم ينكلون عن مقاتلة{[9583]} أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدّة أهلها وعُدَدهم ، فظهرت{[9584]} قبائح صنيعهم للخاص والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل ، هذا وهم في{[9585]} جهلهم يعمهون ، وفي غَيِّهم يترددون ، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه ، ويقولون مع ذلك : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود ، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود ، ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود ، وقد فعل وله الحمد من{[9586]} جميع الوجود .


[9566]:زيادة من أ.
[9567]:زيادة من ر، وفي هـ: "الآية".
[9568]:في ر: "تحتمل".
[9569]:في ر، أ: "اثنا عشر".
[9570]:في ر، أ: "يزيد".
[9571]:في ر، هـ: "إنها"، والصواب ما أثبتناه.
[9572]:في أ: "يقصد".
[9573]:في أ: "فقال".
[9574]:في أ: "ودخلوا".
[9575]:في أ: "وقربت".
[9576]:في ر: "وأن".
[9577]:في أ: "سنين".
[9578]:في ر، أ: "ثلثمائة".
[9579]:حديث عوج بن عنق حديث طويل باطل، ولا يصح ما ذكر عن أوصافه، وقد تكلم عليه الإمام ابن القيم - رحمه الله - في المنار المنيف (ص76) بما يكفي.
[9580]:في أ: "فيما".
[9581]:في ر: "في الذي".
[9582]:في أ: "أمرهما".
[9583]:في أ: "معاملة".
[9584]:في ر: "وظهرت".
[9585]:في أ: "من".
[9586]:في أ: "في".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قَالَ فَإِنّهَا مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } . .

اختلف أهل التأويل في الناصب للأربعين ، فقال بعضهم : الناصب له قوله : مُحَرّمَةٌ وإنما حرّم الله جلّ وعزّ على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حرب الجبارين ، دخولَ مدينتهم أربعين سنة ، ثم فتحها عليهم ، وأسكنوها ، وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم ، بعد أن قضيت الأربعون سنة ، وخرجوا من التيه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما قال لهم القوم ما قالوا ودعا موسى عليهم ، أوحى الله إلى موسى : إنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ على القَوْمِ الفاسِقِينَ وهو يومئذ فيما ذكر ستمائة ألف مقاتل فجعلهم فاسقين بما عصوا ، فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستة ، أو دون ذلك ، يسيرون كلّ يوم جادّين لكي يخرجوا منها ، حتى يمسوا وينزلوا ، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا . وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم ، فأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم ، ينشأ الناشيء فتكون معه على هيئته . وسأل موسى ربه أن يسقيهم ، فأتى بحجر الطور ، وهو حجر أبيض ، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عينا لكلّ سبط منهم عين ، قد علم كلّ أناس مَشْربهم . حتى إذا خلت أربعون سنة ، وكانت عذابا بما اعتدوا وعصوا ، أوحى إلى موسى أن مرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة ، فإن الله قد كفاهم عدوّهم ، وقل لهم إذا أتوا المسجد أن يأتوا الباب ويسجدوا إذا دخلوا ، ويقولوا حطة . وإنما قولهم حطة ، أن يَحُطّ عنهم خطاياهم . فأبى عامة القوم ، وعصوا ، وسجدوا على خدّهم ، وقاوا حنطة ، فقال الله جلّ ثناؤه : فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ . . . إلى : بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ .

وقال آخرون : بل الناصب للأربعين : يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ . قالوا : ومعنى الكلام : قال : فإنها محرّمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة . قالوا : ولم يدخل مدينة الجبارين أحد ممن قال : إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا ما دَامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ، وذلك أن الله عزّ ذكره حرّمها عليهم . قالوا : وإنما دخلها من أولئك القوم : يوشع وكلاب اللذان قالا لهم : ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فإذَا دَخَلْتُمُوهُ فإنّكُمْ غالِبُونَ وأولاد الذين حرّم الله عليهم دخولها ، فتيّهم الله فلم يدخلها منهم أحد . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا أبو هلال ، عن قتادة في قول الله : إنهَها مُحَرّمَةٌ عَليهِمْ قال : أبدا .

حدثنا ابن بشار قال : سليمان بن حرب قال : حدثنا أبو هلال ، عن قتادة في قول الله : يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ قال : أربعين سنة .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا هارون النحوي ، قال : ثني الزبير بن الخرّيت ، عن عكرمة في قوله : فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ قال : التحريم لا منتهى له .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : غضب موسى على قومه ، فدعا عليهم ، فقال : ربّ إنّى لا أمْلِكُ إلاّ نَفْسِي وأخِي . . . الاَية ، فقال الله جلّ وعزّ : فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فلما ضرب عليهم التيه ، ندم موسى ، وأتاه قومه الذين كانوا يطيعونه ، فقال له : ما صنعت بنا يا موسى ؟ فمكثوا في التيه فلما خرجوا من التيه ، رفع المنّ والسلوى ، وأكلوا من البقول . والتقى موسى وعوج ، فوثب موسى في السماء عشرة أذرع ، وكانت عصاه عشرة أذرع ، وكان طوله عشرة أذرع ، فأصاب كعب عوج فقتله . ولم يبق ( أحد ) ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات ، ولم يشهد الفتح . ثم إن الله لما انقضت الأربعون سنة بعث يوشع بن نون نبيا ، فأخبرهم أنه نبيّ ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدّقوه ، فهزم الجبارين ، واقتحموا عليهم يقاتلونهم ، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها .

حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما دعا موسى ، قال الله : فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ قال : فدخلوا التيه ، فكلّ من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنة مات في التيه . قال : فمات موسى في التيه ، ومات هارون قبله . قال : فلبثوا في تيههم أربعين سنة ، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين ، فافتتح يوشع المدينة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً حرمت عليهم ( القرى ) ، وكانوا لا يهبطون قرية ، ولا يقدرون على ذلك ، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة . وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في الأربعين سنة ، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل ، قال : لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت ، من معصيتهم نبيهم ، وهمّهم بكالب ويوشع ، إذ أمراهم بدخول مدينة الجبارين ، وقالا لهم ما قالا ، ظهرت عظمة الله بالغمام على نار فيه الرمز على كلّ بني إسرائيل ، فقال جلّ ثناؤه لموسى : إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدّقون بالاَيات كلها التي وضعت بينهم ؟ أضربهم بالموت فأهلكهم ، وأجعل لك شعبا أشدّ منهم . فقال موسى يسمع أهل المِصر الذين أخرجت هذا الشعب بقوّتك من بينهم ، ويقول ساكنو هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب ، فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد ، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك : إنما قتل هذا الشعب من أجل لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم ، فقتلهم في البرية ، ولكن لترتفع أياديك ، ويعظم جزاؤك يا ربّ كما كنت تكلمت وقلت لهم ، فإنه طويل صبرك ، كثيرة نعمك ، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق ، وإنك تحفظ الاَباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أجيال وأربعة ، فاغفر أي ربّ آثام هذا الشعب ، بكثرة نعمك ، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الاَن فقال الله جلّ ثناؤه لموسى صلى الله عليه وسلم : قد غفرت لهم بكلمتك ، ولكن قد أنى لي أنا الله ، وقد ملأَتِ الأرضَ محمدتي كلّها ، ألاّ يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفاز ، سَأَلوني عشر مرات ولم يطيعوني ، لا يرون الأرض التي خَلَقْتُ لاَبائهم ، ولا يراها من أغضبني فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي ، فإني مدخله الأرض التي دخلها ، ويراها خَلَفُه . وكان العماليق والكنعانيون جلوسا في الجبال ، ثم غدوا فارتحلوا في القفاز في طريق يحرسون ، وكلم الله عزّ وجلّ موسى وهارون ، وقال لهما : إلى متى توسوس عليّ هذه الجماعة جماعة السوء ؟ قد سمعت وسوسة بني إسرائيل . وقال : لأفعلنّ بكم كما قلت لكم ، ولَتُلْقَيَنّ جيفكم في هذه القفار ، وحسابكم من بني عشرين سنة فما فوق ذلك من أجل أنكم وسوستم عليّ ، فلا تدخلوا الأرض التي دفعت إليها ، ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون ، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة . وأما بنوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشرّ ، فإنهم يدخلون الأرض ، وإني بهم عارف لهم الأرض التي أردت لهم وتسقط جيفكم في هذه القفار ، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيام التي جسستم الأرض أربعين يوما مكان كلّ يوم سنة وتُقتلون بخطاياكم أربعين سنة ، وتعلمون أنكم وسوستم : قد أنى لي أنا الله فاعل بهذه الجماعة ، جماعة بني إسرائيل ، الذين وُعِدوا بأن يُتيّهوا في القفار ، فيها يموتون فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم يتجسسون الأرض ، ثم حرّشوا الجماعة ، فأفشوا فيهم خبر الشرّ ، فماتوا كلهم بغتة ، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض . فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كله لبني إسرائيل ، حزن الشعب حزنا شديدا ، وغدوا فارتفعوا على رأس الجبل ، وقالوا : نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه من أجل أنا قد أخطأنا . فقال لهم موسى : لم تَعْتَدُون في كلام الله من أجل ذلك ، لا يصلح لكم عمل ، ولا تصعدوا من أجل أن الله ليس معكم ، فالاَن تنكسرون من قدام أعدائكم من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم ، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله فلم يكن الله معكم فأخذوا يرقون في الجبل ، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جلّ ذكره وموسى من المحلة يعني من الحكمة ، حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط ، فحرّقوهم وطردوهم وقتلوهم . فتيّهم الله عزّ ذكره في التيه أربعين سنة بالمعصية ، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك . قال : فلما شبّ النواشيء من ذراريهم ، وهلك آباؤهم ، وانقضت الأربعون سنة التي تتيهوا فيها وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، وكان فيما يزعمون على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون ، وكان لهما صهرا قدم يوشع بن نون إلى أريحاء في بني إسرائيل ، فدخلها بهم ، وقتل الجبابرة الذين كانوا فيها ، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل ، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم ، ثم قبضه الله إليه لا يعلم قبره أحد من الخلائق .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : إن الأربعين منصوبة بالتحريم ، وإن قوله : مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً معنيّ به جميع قوم موسى لا بعض دون بعض منهم لأن الله عزّ ذكره عمّ بذلك القوم ، ولم يخصصص منهم بعضا دون بعض . وقد وفى الله بما وعدهم به من العقوبة ، فتيههم أربعين سنة ، وحرّم على جميعهم في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين دخول الأرض المقدسة ، فلم يدخلها منهم أحد ، لا صغير ولا كبير ولا صالح ولا طالح ، حتى انقضت السنون التي حرّم الله عزّ وجلّ عليهم فيها دخولها . ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخولها مع نبيّ الله موسى ، والرجلين اللذين أنعم الله عليهما . وافتتح قرية الجبارين إن شاء الله نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم وعلى مقدمته يوشع ، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوّلين أن عوج بن عنق قتله موسى صلى الله عليه وسلم ، فلو كان قتله إياه قبل مصيره في التيه وهو من أعظم الجبارين خلقا لم تكن بنو إسرائيل تجزع من الجبارين الجزع الذي ظهر منها ، ولكن ذلك كان إن شاء الله بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها وأبت الدخول على الجبارين مدينتهم . وبعد : فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بعلم بن باعوراء كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى ومحال أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم ، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبا ، فأما ولا طالب فلا وجه للحاجة إليها .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف ، قال : كان سرير عوج ثمانمائة ذراع ، وكان طول موسى عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع ووثب في السماء عشرة أذرع ، فضرب عوجا فأصاب كعبه ، فسقط ميتا ، فكان جسرا للناس يمرّون عليه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ووثبته عشرة أذرع وطوله عشرة أذرع ، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله ، فكان جسرا لأهل النيل سنة .

ومعنى : يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ : يحارون فيها ويضلون ، ومن ذلك قيل للرجل الضالّ عن سبيل الحقّ تائه . وكان تيههم ذلك أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كلّ سنة يوم جادّين في قدر سته فراسخ للخروج منه ، فيمسون في الموضع الذي ابتدءوا السير منه .

حدثني بذلك المثنى ، قال : ثنا ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة ، يُصْبحون حيث أمسوا ، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم .

القول في تأويل قوله : فَلا تَأْسَ على القَوْمِ الفاسِقِينَ .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : فَلاَ تَأْسَ : فلا تحزن ، يقال منه : أَسِيَ فلان على كذا يَأْسَى أَسًى ، وقد أسيت من كذا : أي حزنت ، ومنه قول امرىء القيس :

وُقُوفا بِها صَحْبِي عليّ مَطِيّهُمْ ***يقُولُونَ لا تَهْلِكْ أسًى وتَجَمّلِ

يعني : لا تهلك حزنا .

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَلا تَأْسَ يقول : فلا تحزن .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَلا تَأْسَ على القَوْمِ الفاسِقينَ قال : لما ضرب عليهم التيه ، ندم موسى صلى الله عليه وسلم . فلما ندم أوحى الله إليه : فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الفاسِقِينَ : لا تحزن على القوم الذين سميتهُم فاسقين .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ قال فإنها } فإن الأرض المقدسة . { محرمة عليهم } لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم . { أربعين سنة يتيهون في الأرض } عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم مؤقتا غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله { التي كتب الله لكم } ، ويؤيد ذلك ما روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام سار بعده بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحاء ، وأقام بها ما شاء الله ثم قبض وقيل : إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله سبحانه وتعالى أمره بقتال الجبابرة ، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة وصار الشام كله لبني إسرائيل ، وإما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقا فيكون التحريم مطلقا ، وقد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه ، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم . روي : أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء ، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم ، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملونه ، والأكثر على أن موسى وهارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحا لهما وزيادة في درجتهما ، وعقوبة لهم ، وأنهما ماتا فيه مات هارون ، وموسى بعده بسنة . ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر ومات النقباء فيه بغتة غير كالب ويوشع . { فلا تأس على القوم الفاسقين } خاطب به موسى عليه الصلاة والسلام لما ندم على الدعاء عليهم وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ قال فإنها محرمة } المعنى قال الله ، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازاً لدلالة معنى الكلام على المراد ، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة { أربعين سنة } وتركهم خلالها { يتيهون في الأرض } أي في أرض تلك النازلة ، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلاً في عرض ستة فراسخ ، وهو ما بين مصر والشام ، ويروى أنه اتفق أن مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبداً ، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث ، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف في هاذا ، وروي أن «موسى » عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام ، وقيل بستة أشهر ونصف ، وأن يوشع نبيء بعد كمال «الأربعين سنة » وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة ، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين{[4506]} ، وروي أن «موسى » عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته ، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق ، يقال كان في طول «موسى » عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع ، وترامى من الأرض في السماء عشرة أذرع ، وحينئذ لحق كعَب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعاً ، ويروى أن عوجاً اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهداً بحجر الماس فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج ، وضربه «موسى » فمات ، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع ، وحكي عن ابن عباس أنه قال : لما خر كان جسراً على النيل سنة .

قال القاضي أبو محمد : والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم ، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى » وهارون لم يكونا في التيه ، والعامل في { أربعين } يحتمل أن يكون { محرمة } ، أي حرمت عليهم { أربعين سنة ويتيهون في الأرض } هذه المدة ثم تفتح عليهم ، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات . وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل { محرمة } ، وذلك منه تحامل ، ويحتمل أن يكون العامل { يتيهون } مضمراً يدل عليه { يتيهون } المتأخر ، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن المخاطبين لا يدخلونها أبداً ، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة » يموت فيها من مات .

قال القاضي أبو محمد : كأنه لم يعش المكلفون ، أشار إلى ذلك الزجاج ، والتيه : الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم{[4507]} ، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير ، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل ، وقال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا ، وذلك في مقدار ستة فراسخ .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي ، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة » . فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص ، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع ، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر . والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى ، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك مما روي من ملابسهم ، وقد مضى ذلك في سورة البقرة . وقوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } معناه فلا تحزن يقال أسى : الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرىء القيس :

وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم . . . يقولون لا تهلك أسى وتجمل

ومنه قول متمم بن نويرة :

فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى . . . دعوني فهذا كله قبر مالك

والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام ، قال ابن عباس ندم «موسى » على دعائه على قومه وحزن عليهم ، فقال له الله : { فلا تأس على القوم الفاسقين } وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد صلى الله عليه وسلم ويراد ب { الفاسقين } معاصروه ، أي هذه أفعال اسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك ، وردهم عليك ، فإنه سجية خبيثة موروثة عندهم .


[4506]:- أشار إلى قصة وقوف الشمس ليوشع أبو تمام في قوله: فردت علينا الشمس والليل راغـم بشمس بدت من جانب الخدر تطلع نضا ضوؤها صبغ الدّجنّة وانطوى لبهجتها ثوب السماء المُجـــزع فوالله ما أدري أأحلام نائــــم ألمّت بنا أم كان في الركب يوشع؟ وأشار شوقي أيضا إليها بقوله: قفي يا أخت يوشع خبرينــا أحاديث القرون الغابرينــــا
[4507]:- أصل التيه في اللغة: الحيرة، يقال منه: تاه يتيه تيها وتوها إذا تحيّر، والأرض التّيهاء: التي لا يُهتدى فيها، ومنه قول القائل: بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فرخا بيوضها