تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

أي : ولا تأخذوا أموالكم أي : أموال غيركم ، أضافها إليهم ، لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ويحترم ماله كما يحترم ماله ، ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة .

ولما كان أكلها نوعين : نوعا بحق ، ونوعا بباطل ، وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل ، قيده تعالى بذلك ، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية ، أو نحو ذلك ، ويدخل فيه أيضا ، أخذها على وجه المعاوضة ، بمعاوضة محرمة ، كعقود الربا ، والقمار كلها ، فإنها من أكل المال بالباطل ، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح ، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة ، ونحوها ، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم ، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه ، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى ، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات ، والأوقاف ، والوصايا ، لمن ليس له حق منها ، أو فوق حقه .

فكل هذا ونحوه ، من أكل المال بالباطل ، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه ، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع ، وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة ، غلبت حجة المحق ، وحكم له الحاكم بذلك ، فإن حكم الحاكم ، لا يبيح محرما ، ولا يحلل حراما ، إنما يحكم على نحو مما يسمع ، وإلا فحقائق الأمور باقية ، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ، ولا شبهة ، ولا استراحة .

فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة ، وحكم له بذلك ، فإنه لا يحل له ، ويكون آكلا لمال غيره ، بالباطل والإثم ، وهو عالم بذلك . فيكون أبلغ في عقوبته ، وأشد في نكاله .

وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه ، لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى : { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

قال علي ابن أبي طلحة ، وعن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه فيه بَيِّنة ، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل حرامٍ .

وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتَادة ، والسدّي ، ومقاتل بن حَيّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تُخَاصمْ وأنت تعلمُ أنَّك ظالم . وقد ورد{[3367]} في الصحيحين عن أم سلمة : أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إنما أنا بَشَر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من نار ، فَلْيَحْملْهَا ، أو ليذَرْها " {[3368]} . فدلت هذه الآية الكريمة ، وهذا الحديث على أنّ حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يُحلّ في نفس الأمر حرامًا هو حرام ، ولا يحرم حلالا هو حلال ، وإنما هو يلزم{[3369]} في الظاهر ، فإن طابق في{[3370]} نفس الأمر فذاك ، وإلا فللحاكم أجرُه وعلى المحتال وزْره ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا } [ أي : طائفة ]{[3371]} { مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجون في كلامكم .

قال قتادة : اعلم - يا ابن آدم - أن قضاء القاضي لا يُحِل لك حرامًا ، ولا يُحقُّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى {[3372]} ويشهد به الشهود ، والقاضي بَشَر يخطئ ويصيب ، واعلموا أنّ من قُضي له بباطل أنّ خصومته لم تَنْقَض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق بأجودَ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا .

وقال أبو حنيفة : حكم الحاكم بطلاق الزوجة إذا شهد عنده شاهدا زور في نفس الأمر ، ولكنهما عدلان عنده يحلها للأزواج حتى للشاهدين ويحرمها على زوجها الذي حكم بطلاقها منه ، وقالوا : هذا كلعان المرأة ، إنه يبينها من زوجها ويحرمها عليه ، وإن كانت كاذبة في نفس الأمر ، ولو علم الحاكم بكذبها لحدها ولما حرمها وهذا أولى .

مسألة : قال القرطبي : أجمع أهل السنة على أن من أكل مالا حرامًا ولو ما يصدق عليه اسم المال أنه يفسق ، وقال بشر بن المعتمر في طائفة من المعتزلة : لا يفسق إلا بأكل مائتي درهم فما زاد ، ولا يفسق بما دون ذلك ، وقال الجبائي : يفسق بأكل درهم فما فوقه إلا بما دونه .


[3367]:في جـ: "وقد روي".
[3368]:صحيح البخاري برقم (2458، 6967) وصحيح مسلم برقم (1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها
[3369]:في جـ: "هو ملزم".
[3370]:في جـ: "ما في".
[3371]:زيادة من جـ، أ.
[3372]:في جـ: "على نحو ما ترى".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مّنْ أَمْوَالِ النّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

يعني تعالى ذكره بذلك : ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل . فجعل تعالى ذكره بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالاَكل مال نفسه بالباطل ، ونظير ذلك قوله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ }وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } بمعنى : لا يلمز بعضكم بعضا ، ولا يقتل بعضكم بعضا لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة ، فقاتل أخيه كقاتل نفسه ، ولامزه كلامز نفسه ، وكذلك تفعل العرب تكني عن أنفسها بأخواتها ، وعن أخواتها بأنفسها ، فتقول : أخي وأخوك أينا أبطش ، تعني أنا وأنت نصطرع فننظر أينا أشد ، فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه ، لأن أخا الرجل عندها كنفسه ومن ذلك قول الشاعر :

أخي وأخُوكَ بِبَطْن النّسَيْر ِلَيْسَ لنَا مِنْ مَعَدّ عَرِيْب

فتأويل الكلام : ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل ، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه .

وأما قوله : { وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّام } فإنه يعني : وتخاصموا بها ، يعني بأموالكم إلى الحكام لتأكلوا فريقا ، طائفة من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون .

ويعني بقوله : بالإثْم بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم ، وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي وأنتم تتعمدون أكل ذلك بالإثم على قصد منكم إلى ما حرم الله عليكم منه ، ومعرفة بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ ، } فهذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال فيخاصمهم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل حراما .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ قال : لا تخاصم وأنت ظالم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ }وكان يقال : من مشى مع خصمه وهو له ظالم فهو آثم حتى يرجع إلى الحقّ . واعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحلّ لك حراما ولا يحقّ لك باطلاً ، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطىء ويصيب . واعلموا أنه من قد قضي له بالباطل ، فإن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق ، ويأخذ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ } قال : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم ، فإن قضاءه لا يحل لك شيئا كان حراما عليك .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ لتِأكُلُوا فَريقا مِنْ أمْوَالِ النّاسِ بالإثْمِ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ }أما الباطل ، يقول : يظلم الرجل منكم صاحبه ، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم ، فذلك قوله : وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني خالد الواسطي ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة قوله : وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ قال : هو الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها دراهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ يقول : يكون أجدل منه وأعرف بالحجة ، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل . وقرأ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا َلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } قال : هذا القمار الذي كان يعمل به أهل الجاهلية .

وأصل الإدلاء : إرسال الرجل الدلو في سبب متعلقا به في البئر ، فقيل للمحتجّ بدعواه أدلى بحجة كيت وكيت إذا كان حجته التي يحتجّ بها سببا له هو به متعلق في خصومته ، كتعلق المستقي من بئر بدلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة ، يقال فيها جميعا ، أعني من الاحتجاج ، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب : أدلى فلان بحجته فهو يدلي بها إدلاء ، وأدلى دلوه في البئر فهو يدليها إدلاء .

فأما قوله : { وَتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ } فإن فيه وجهين من الإعراب ، أحدهما : أن يكون قوله : وَتُدْلُوا جزما عطفا على قوله : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ } أي ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبيّ بتكرير حرف النهي ، ولا تدلوا بها إلى الحكام . والاَخر منهما النصب على الظرف ، فيكون معناه حينئذ : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام ، كما قال الشاعر :

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتِيَ مِثْلَهُ *** عارٌ عَلَيْكُ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

يعني : لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله ، وهو أن يكون في موضع جزم على ما ذكر في قراءة أبيّ أحسن منه أن يكون نصبا .