فلم يزالوا بين صالح وطالح ومقتصد ، حتى خلف من بعدهم خلف . زاد شرهم وَرِثُوا بعدهم الْكِتَابُ وصار المرجع فيه إليهم ، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم ، وتبذل لهم الأموال ، ليفتوا ويحكموا ، بغير الحق ، وفشت فيهم الرشوة .
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة : سَيُغْفَرُ لَنَا وهذا قول خال من الحقيقة ، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة .
فلو كان ذلك لندموا على ما فعلوا ، وعزموا على أن لا يعودوا ، ولكنهم - إذا أتاهم عرض آخر ، ورشوة أخرى - يأخذوه .
فاشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، قال اللّه [ تعالى ] في الإنكار عليهم ، وبيان جراءتهم : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ فما بالهم يقولون عليه غير الحق اتباعا لأهوائهم ، وميلا مع مطامعهم .
و الحال أنهم قد دَرَسُوا مَا فِيهِ فليس عليهم فيه إشكال ، بل قد أَتَوْا أمرهم متعمدين ، وكانوا في أمرهم مستبصرين ، وهذا أعظم للذنب ، وأشد للوم ، وأشنع للعقوبة ، وهذا من نقص عقولهم ، وسفاهة رأيهم ، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، ولهذا قال : وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ما حرم اللّه عليهم ، من المآكل التي تصاب ، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنزل اللّه ، وغير ذلك من أنواع المحرمات .
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي : أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره ، وما ينبغي الإيثار عليه ، وما هو أولى بالسعي إليه ، والتقديم له على غيره . فخاصية العقل النظر للعواقب .
وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع ، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي ؟
ثم قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح ، خلف آخر لا خير فيهم ، وقد ورثوا دراسة [ هذا ]{[12288]} الكتاب وهو التوراة - وقال مجاهد : هم النصارى - وقد يكون أعم من ذلك ، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعَرَض الحياة الدنيا ، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة ، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } كما قال سعيد بن جبير : يعملون الذنب ، ثم يستغفرون الله منه ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .
وقول مجاهد في قوله : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه ، حلالا كان أو حرامًا ، ويتمنون المغفرة ، ويقولون : { سَيُغْفَرُ لَنَا } وإن يجدوا عَرَضًا مثله يأخذوه .
وقال قتادة في : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } أي : والله ، لخلف سوء ، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] ، قال { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } تمنوا على الله أماني ، وغرَّة يغترون بها ، { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } لا يشغلهم شيء عن شيء ، ولا ينهاهم شيء عن ذلك ، كلما هف لهم شيء من [ أمر ]{[12289]} الدنيا أكلوه ، ولا يبالون حلالا كان أو حرامًا .
وقال السُّدِّي [ في ]{[12290]} قوله : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } إلى قوله : { وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم ، وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشى ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ، فيقول : " سيغفر لي " ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع ، فإذا مات ، أو نزع ، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه ، فيرتشي . يقول : وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه .
قال الله تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا ، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ، ولا يكتمونه كقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [ آل عمران : 187 ]
وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ، ولا يتوبون منها .
وقوله تعالى : { وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه ، ويحذرهم من وبيل عقابه ، أي : وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم ، وترك هوى نفسه ، وأقبل على طاعة ربه .
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يقول : أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعَرَض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هََذَا الأدْنَىَ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَتّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم خلْف يعني خلف سَوْء ، يقول : حدث بعدهم وخلافهم ، وتبدّل منهم بدل سوء ، يقال منه : هو خَلَفُ صدق ، وخَلْفُ سَوْءٍ ، وأكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذمّ بتسكينها ، وقد تحرّك في الذمّ وتسكن في المدح ، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان :
لنا القَدَمُ الأُولى إليكَ وخَلْفُنا ***لاِءَوّلِنا في طاعَةِ اللّهِ تابِعُ
وأحسب أنه إذا وجه إلى الفساد مأخوذ من قولهم : خلف اللبن : إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد ، فكأنّ الرجل الفاسد مشبّه به ، وقد يجوز أن يكون منه قولهم : خَلَف فم الصائم : إذا تغيرت ريحه . وأما في تسكين اللام في الذمّ ، فقول لبيد :
ذَهَبَ الّذِينَ يُعاشُ فِي أكْنافِهِمْ ***وَبَقِيتُ فِي خَلْفِ كَجِلْدِ الأجْرَبِ
وقيل : إن الخلْف الذي ذكر الله في هذه الاَية أنهم خلَفوا من قبلهم هم النصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قال : النصارى .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى إنما وصف أنه خلَف القوم الذي قصّ قصصهم في الاَيات التي مضت خلف سوْء رديء ، ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه ، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى . وبعدُ ، فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل وما بعده كذلك ، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه ، إذ لم يكن في الاَية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم ، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به .
فتأويل الكلام إذن : فتبدّل من بعدهم بَدَلُ سوْء ، ورثوا كتاب الله : تعلموه ، وضيعوا العمل به فخالفوا حكمه ، يُرْشَوْنَ في حكم الله ، فيأخذون الرشوة فيه من عرض هذا العاجل الأدنى ، يعني بالأدنى : الأقرب من الاَجل الأبعد ، ويقولون إذا فعلوا ذلك : إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيا على الله الأباطيل ، كما قال جلّ ثناؤه فيهم : فَوَيْلٌ للّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ ثّم يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبونَ . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يقول : وإن شرع لهم ذنب حرام مثله من الرشوة بعد ذلك أخذوه واستحلوه ، ولم يرتدعوا عنه . يخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنوبهم ، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عنه عباراتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ . قال : يعملون الذنب ثم يستغفرون الله ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال : من الذنوب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا قال : يعملون بالذنوب . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ : قال : ذنب آخر يعملون به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : الذنوب . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال : الذنوب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلال أو حرام يشتهونه أخذوه ، ويبتغون المغفرة ، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : يتمنون المغفرة .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراما ، ويتمنون المغفرة ، وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ : أي والله لخلْف سَوْء ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورّثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ قال : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا تمنوا على الله أماني وغرّة يغترّون بها . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك ، كلما أشرف لهم شيء من الدنيا أكلوه لا يبالون حلالاً كان أو حراما .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : يأخذونه إن كان حلالاً وإن كان حراما . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه قال : إن جاءهم حلال أو حرام أخذوه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ . . . إلى قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم . وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استُقْضِي ارتشى ، فقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ؟ فيقول : سيغفر لي فيطعن عليه البقية الاَخرون من بني إسرائيل فيما صنع . فإذا مات أو نُزِع ، وجُعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي ، يقول : وإن يأت الاَخرين عرض الدنيا يأخذوه . وأما عَرَض الأدنى ، فعرض الدنيا من المال .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يقول : يأخذون ما أصابوا ، ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام ، ويقولون : سيغفر لنا .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : الكتاب الذي كتبوه ، ويقولون : سَيُغْفَرُ لَنا لا نشرك بالله شيئا . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يأتهم المحقّ برشوه ، فيخرجوا له كتاب الله ثم يحكموا له بالرشوة . وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له المثناة ، وهو الكتاب الذي كتبوه ، فحكموا له بما في المثناة بالرشوة ، فهو فيها محقّ ، وهو في التوراة ظالم ، فقال الله : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا عَلى اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسوا ما فِيهِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : يعملون الذنوب .
القول في تأويل قوله تعالى : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ .
يقول تعالى ذكره : ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم ، القائلين : سيغفر الله لنا فعلنا هذا ، إذا عوتبوا على ذلك ميثاقُ الكتاب ، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها . فقال جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين قصّ قصتهم في هذه الاَية موبخا لهم على خلافهم أمره ونقضهم عهده وميثاقه : ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة ، وأن لا يكذبوا عليه ؟ كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها .
وأما قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ فإنه معطوف على قوله : وَرِثُوا الكِتابَ ومعناه : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ، ودرسوا ما فيه . ويعني بقوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قرءوا ما فيه . يقول : ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه ، فضيعوه وتركوا العمل به ، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قال : علموه وعلموا ما في الكتاب الذي ذكر الله وقرأ : بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الكِتابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ .
والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ يقول جلّ ثناؤه : وما في الدار الاَخرة ، وهو ما في المعاد عند الله مما أعدّ لأوليائه والعاملين بما أنزل في كتابه المحافظين على حدوده ، خير للذين يتقون الله ويخافون عقابه ، فيراقبونه في أمره ونهيه ، ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم . أفَلا تَعْقِلونَ يقول : أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم ، ويقولون سيغفر لنا ، أن ما عند الله في الدار الاَخرة للمتقين العادلين بين الناس في أحكامهم ، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلاف أمر الله والقضاء بين الناس بالجوار ؟