تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ} (58)

أي : وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة ، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة .

{ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ْ } عهدهم ، أي : ارمه عليهم ، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم . { عَلَى سَوَاءٍ ْ } أي : حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك ، ولا يحل لك أن تغدرهم ، أو تسعى في شيء مما منعه موجب العهد ، حتى تخبرهم بذلك .

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ْ } بل يبغضهم أشد البغض ، فلا بد من أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة .

ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة{[352]}  منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ، لأنه لم يخف منهم ، بل علم ذلك ، ولعدم الفائدة ولقوله : { عَلَى سَوَاءٍ ْ } وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم .

ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة ، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك ، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم ، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته .


[352]:- في ب: المحقة.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ} (58)

يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه{[13095]} { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ } قد عاهدتهم { خِيَانَةً } أي : نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود ، { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ } أي : عهدهم { عَلَى سَوَاءٍ } أي : أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم ، وهم حرب لك ، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء ، أي : تستوي أنت وهم في ذلك ، قال الراجز : فَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدر [ الأعْداء ]{[13096]} *** حتى يجيبوك إلى السواء{[13097]}

وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله : { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي : على مهل ، { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } أي : حتى ولو في حق الكفارين ، لا يحبها أيضًا .

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة{[13098]} عن أبي الفيض ، عن سليم بن عامر ، قال : كان معاوية يسير في أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنو منهم ، فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر [ الله أكبر ]{[13099]} وفاء لا غدرا ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلَّنَّ عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء " قال : فبلغ ذلك معاوية ، فرجع ، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة ، رضي الله عنه .

وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة وأخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة ، به{[13100]} وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري عن سلمان - يعني الفارسي - رضي الله عنه : أنه انتهى إلى حصن - أو : مدينة - فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله{[13101]} صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منهم{[13102]} فهداني الله عز وجل للإسلام ، فإذا أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } يفعل بهم ذلك ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله{[13103]}


[13095]:في أ: "صلى الله عليه وسلم".
[13096]:زيادة من د، م، أ، والطبري.
[13097]:الرجز في تفسير الطبري (14/27).
[13098]:في ك: "سعيد".
[13099]:زيادة من د، ك، م، والمسند.
[13100]:مسند أحمد (4/111) ومسند الطيالسي برقم (1155) وسنن أبي داود برقم (2759) وسنن الترمذي برقم (1580) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8732).
[13101]:في د، ك: "النبي".
[13102]:في د، ك، م: "منكم".
[13103]:المسند (5/440) ورواه الترمذي في السنن برقم (1548) من طريق أبي عوانة، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري به نحوه، وقال: "حديث سلمان حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عطاء بن السائب، وسمعت محمدا يقول: أبو البختري لم يدرك سلمان؛ لأنه لم يدرك عليا، وسلمان مات قبل علي".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ} (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىَ سَوَآءٍ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الخَائِنِينَ } .

يقول تعالى ذكره : وإمّا تخافنّ يا محمد من عدوّ لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك ، وذلك هو الخيانة والغدر . فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ يقول : فناجزهم بالحرب ، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب ، فيأخذوا للحرب آلتها ، وتبرأ من الغدر . إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الخائِنِينَ الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به ، فيحاربه قبل إعلامه إياه أنه له حرب وأنه قد فاسخه العقد .

فإن قال قائل : وكيف يجوز نقض العهد بخوف الخيانة والخوف ظنّ لا يقين ؟ قيل : إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبتَ ، وإنما معناه : إذا ظهرت آثار الخيانة من عدوّك وخفت وقوعهم بك ، فألق إليهم مقاليد السلم وآذنهم بالحرب . وذلك كالذين كان من بني قريظة ، إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معه بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة ، ولن يقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك موجبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم ، فكذلك حكم كل قوم أهل موادعة للمؤمنين ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها ، فحُقّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب .

ومعنى قوله : عَلى سَوَاءٍ : أي حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سلم . وقيل : نزلت الاَية في قريظة . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ قال قريظة .

وقد قال بعضهم : السواء في هذا الموضع : المَهَل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : إنه مما تبين لنا أن قوله : فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ أنه على مهل . كما حدثنا بكير عن مقاتل بن حيان في قول الله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ .

وأما أهل العلم بكلام العرب ، فإنهم في معناه مختلفون ، فكان بعضهم يقول : معناه : فانبذ إليهم على عَدْل يعني حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكم لبعض من المحاربة . واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز :

وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدّرِ الأعْدَاء ***حتى يُجِيبُوكَ إلى السّوَاءِ

يعني إلى العدل . وكان آخرون يقولون : معناه الوسط ، من قول حسان :

يا وَيْحَ أنْصَارِ الرّسُولِ وَرَهْطِهِ ***بَعْدَ المُغَيّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ

بمعنى في وسط اللحد . وكذلك هذه المعاني متقاربة ، لأن العدل وسط لا يعلو فوق الحقّ ولا يقصر عنه ، وكذلك الوسط عدل ، واستواء الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعض المهادنة عدل من الفعل ووسط . وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه المهل ، فما لا أعلم له وجها في كلام العرب .