{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
لما نزل قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به ، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي : أمرا تسعه طاقتها ، ولا يكلفها ويشق عليها ، كما قال تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس ، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان ، وحمية عن الضرر ، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا ، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل ، إما بإسقاطه عن المكلف ، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم ، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير ، وعليها ما اكتسبت من الشر ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره ، وفي الإتيان ب " كسب " في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى ب " اكتسب " في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه ، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله ، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان ، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا ، أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال : قد فعلت . إجابة لهذا الدعاء ، فقال { ربَّنا لا تؤاخذْنا إن نَّسينا أو أخطأنا } والفرق بينهما : أن النسيان : ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا ، والخطأ : أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله : فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا ، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب ، أو نجس ، أو قد نسي نجاسة على بدنه ، أو تكلم في الصلاة ناسيا ، أو فعل مفطرا ناسيا ، أو فعل محظورا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا ، فإنه معفو عنه ، وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا ، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم ، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف ، وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر . { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } أي : تكاليف مشقة { كما حملته على الذين من قبلنا } وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وقد فعل وله الحمد { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور ، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور { أنت مولانا } أي : ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات ، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ، وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها ، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين ، الذين كفروا بك وبرسلك ، وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك ، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان ، بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر ، والحمد لله رب العالمين . تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله على محمد وسلم .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم عن جابر قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } قال جبريل : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تُعْطه .
فسأل : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } إلى آخر الآية
وقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي : لا يكلف أحدًا فوق طاقته ، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ، في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه } أي : هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك{[4712]} الشخص دفعه ، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها ، فهذا لا يكلف به الإنسان ، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان .
وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أي : من خير ، { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } أي : من شر ، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف ، ثم قال{[4713]} تعالى مرشدًا عباده إلى سؤاله ، وقد تكفل لهم بالإجابة ، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ [ نَسِينَا ]{[4714]} } أي : إن تركنا فرضًا على جهة النسيان ، أو فعلنا حرامًا كذلك ، { أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : الصوابَ في العمل ، جهلا منا بوجهه الشرعي .
وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة : " قال الله : نعم " ولحديث{[4715]} ابن عباس قال الله : " قد فعلت " .
وروى ابن ماجة في سننه ، وابن حبان في صحيحه{[4716]} من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، عن عطاء - قال ابن ماجة في روايته : عن ابن عباس . وقال الطبراني وابن حبان : عن عطاء ، عن عبيد بن عُمير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع{[4717]} عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " . وقد روي من طُرُق أخَرَ وأعله{[4718]} أحمد وأبو حاتم{[4719]} والله أعلم . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ ، والنسيان ، والاستكراه " قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }{[4720]} .
وقوله : { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } أي : لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها ، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به ، من الدين الحنيف السهل السمح .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : نعم " .
وعن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : قد فعلت " . وجاء الحديث من طرق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بعثت بالحَنيفيَّة السمحة " {[4721]} .
وقوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي : من التكليف والمصائب والبلاء ، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به .
وقد قال مكحول في قوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : الغرْبة والغلمة ، رواه{[4722]} ابن أبي حاتم ، " قال الله : نعم " وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .
وقوله : { وَاعْفُ عَنَّا } أي : فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ، { وَاغْفِرْ لَنَا } أي : فيما بيننا وبين عبادك ، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة ، { وَارْحَمْنَا } أي : فيما يُسْتَقبل ، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره . وقد تقدم في الحديث أن الله قال : نعم . وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .
وقوله : { أَنْتَ مَوْلانَا } أي : أنت ولينا وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وأنت المستعان ، وعليك التّكلان ، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك{[4723]} { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : الذين جحدوا دينك ، وأنكروا وحدانيتك ، ورسالة نبيك ، وعبدوا غيرك ، وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم ، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة ، قال الله : نعم . وفي الحديث الذي رواه مسلم ، عن ابن عباس : " قال الله : قد فعلت " .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، أن معاذًا ، رضي الله عنه ، كان إذا فرغ من هذه السورة{[4724]} { فانصرنا على القوم الكافرين } قال : آمين{[4725]} .
ورواه وَكِيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن معاذ بن جبل : أنه كان إذا ختم البقرة قال : آمين{[4726]} .