{ 35 } { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا }
أي : { و } اذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الحالة الجميلة ، إذ قَال : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ } أي : الحرم { آمِنًا } فاستجاب الله دعاءه شرعا وقدرا ، فحرمه الله في الشرع ويسر من أسباب حرمته قدرا ما هو معلوم ، حتى إنه لم يرده ظالم بسوء إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم .
ولما دعا له بالأمن دعا له ولبنيه بالأمن فقال : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } أي : اجعلني وإياهم جانبا بعيدا عن عبادتها والإلمام بها ، ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه بكثرة من افتتن وابتلي بعبادتها فقال : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد ءامنا} يعني مكة، فكان أمنا لهم في الجاهلية، {واجنبني وبني}، يعني وولدي، {أن نعبد الأصنام}، وقد علم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: و اذكر يا محمد "إذْ قالَ إبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنا "يعني الحَرم، بلدا آمنا أهله وسكانه.
"وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ"... ومعنى ذلك: أبعدْني وبنيّ من عبادة الأصنام، والأصنام: جمع صنم، والصنم: هو التمثال المصوّر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا} أي مأمنا، سمي آمنا لما يأمن الخلق فيه... قوله: {اجعل هذا البلد آمنا}... أخبر أنه جعل تلك البقعة مأمنا للخلق، يأمنون فيها. ثم يحتمل وجهين.
أحدهما: جعله آمنا بحق الابتلاء والامتحان، ألزم الخلق حفظ تلك البقعة عن سفك الدماء فيها وهتك الحرم وغيرها من المعاصي، وإن كانوا ضيعوا ذلك، وعملوا فيها ما لا يصلح كالمساجد التي بنيت للعبادة وإقامة الخيرات، ألزم على أهلها وعلى جميع الخلائق حفظها عن إدخال ما لا يصلح ولا يحل، ثم إن الناس قد ضيعوا ذلك، وعملوا فيها ما لا يليق بها ولا يصلح، فعلى ذلك الحرم الذي أخبر أنه جعله مأمنا.
والثاني: جعله مأمنا بالخلقة من ذا الوجه، ولا يجوز أن يقال: كيف سفك فيه الدماء؟ وهتك فيه الحرم؟ وهو بالخلقة جعله مأمنا. قيل: يجوز هذا بحق العقوبة، وإن كان أمنا. ألا ترى أنه قال: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} الآية (النساء: 160) الطيبات بالخلقة الحلال، لكنه حرم عليهم ذلك بالظلم الذي كان منهم بحق العقوبة والانتقام. فعلى ذلك الحرم، جعله مأمنا بالخلقة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" واجنبني "أي واصرفني "وبني أن نعبد الأصنام "أي جنبنا عبادة الأصنام بلطف من ألطافك الذي نختار عنده الامتناع من عبادتها. ودعاء الأنبياء لا يكون إلا مستجابا، فعلى هذا يكون سؤاله أن يجنب نبيه عبادة الأصنام مخصوصا بمن علم الله من حاله أن يكون مؤمنا، لا يعبد إلا الله، ويكون الله تعالى أذن له في الدعاء لهم، فيجيب الله تعالى ذلك لهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كما سأل أن يجعل مكةً بلداً آمناً، طلب أن يجعل قلبَه محلاً آمناً؛ أي لا يكون فيه شيءٌ إلا بالله. {وَاجْنُبْنِي وَبَنِىَّ أَن نعْبُدَ الأَصْنَامَ}... والصنم ما يعبد من دونه... فصنمُ كل أحدٍ ما يشغله عن الله تعالى من مالٍ ووَلَدٍ وجاهٍ...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
إن قال قائل: قد كان إبراهيم معصوما عن عبادة الأصنام، فكيف يستقيم سؤاله لنفسه، وقد عبد كثير من بنيه الأصنام، فأين الإجابة؟ الجواب: أما في حق إبراهيم، فالدعاء لزيادة العصمة والتثبيت، وأما في حق البنين فيقال: إن الدعاء لبنيه من الصلب، ولم يعبد أحد منهم الصنم، وقيل: إن دعاءه لمن كان مؤمنا من بنيه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: أي فرق بين قوله: {اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] وبين قوله: {اجعل هذا البلد ءَامِنًا}؟ قلت: قد سأل في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمناً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته، فكيف يخاف أن يعبد صنماً؟! لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف وطلب الخاتمة. و {الأصنام} هي المنحوتة على خلقة البشر، وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهي أوثان، قاله الطبري عن مجاهد...
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه، وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى البتة، حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{واجنُبني وبني} بعدني وإياهم، {أن نعبد الأصنام} واجعلنا منها في جانب... وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم، وهو بظاهره، لا يتناول أحفاده وجميع ذريته...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ} ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضى المأمور به من القول لكافر النعمة وشاكرها وسبب ذلك والدليل عليه، وبان أنه خالق الموجودات كلها وربها، فلا يصح أصلاً أن يكون شيء منها شريكاً. أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يذكرهم بأيام الله عند أبيهم إبراهيم عليه السلام للدلالة على تبديلهم النعمة ظلماً منهم وكفراً، في أسلوب دال على البعث، مشير إلى وجوب براءتهم من الأصنام حيث كان محط حالهم فيها تقليد الآباء وهو أعظم آبائهم، وإلى ما سنه لهم من إقامتهم الصلاة وشكرهم لنعمه بالإنفاق وغيره، فقال ناعياً عليهم -مع المخالفة لصريح العقل وقاطع النقل عقوق أبيهم الأعظم، عطفاً على {قل لعبادي الذين آمنوا} أو على {وإذ قال موسى لقومه}: {وإذ} أي واذكر لهم مذكراً بأيام الله خبر إبراهيم إذ {قال إبراهيم رب} أي أيها المحسن إليّ بإجابة دعائي في جعل القفر الذي وضعت به ولدي بلداً عظيماً. ولما كان السياق لإخراج الرسل من محالهم، وكان ذلك مفهماً لأن المحل الذي يقع الإخراج منه بلد يسكن فيه، واتبعه سبحانه بأن المتعرضين بدلوا نعمة الله- بما أسكن فيه من الأمن بعد جعله له بلداً -بما أحدثوا فيه من الإخافة لخير أهله، ومن الإنذار لمن أنعم عليهم بكل ما فيه من الخير، كان الأنسب تعريفه فقال: {اجعل هذا البلد} أي الذي يريدون إخراج الرسول منه {آمناً} أي ذا أمن بأمان أهله، وكأن هذا الدعاء صدر منه بعد أن سكن الناس مكة وصارت مدينة، والذي في البقرة كان حيث وضع ابنه بها مع أمه وهي خالية عن ساكن، فدعا أن يجعلها الله بلداً، وأن يجعلها بعد ذلك موصوفة بالأمن، وهو سكون النفس إلى زوال الضر. ولما دعا بالأمن من فساد الأموال والأبدان، أتبعه الدعاء بالأمن من فساد الأديان، فقال: {واجنبني} أي اصرفني {وبني} أي لصلبي، وأسقط البنات إشارة إلى الاستقلال، وإنما هن تابعات دائماً {أن نعبد} أي عبادة مستمرة تكون موجبة للنار {الأصنام} أي اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها...
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي 911 هـ :
[آمنا] ذا أمن وقد أجاب الله دعاءه فجعله حرما لا يسفك فيه دم إنسان ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
دعا إبراهيم ربه أن يجعله آمنا، أي: ذا أمن، وقدّم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده، لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن السياق يصور إبراهيم -عليه السلام- إلى جوار بيت الله الذي بناه في البلد الذي آل إلى قريش، فإذا بها تكفر فيه بالله، مرتكنة إلى البيت الذي بناه بانيه لعبادة الله! فيصوره في هذا المشهد الضارع الخاشع الذاكر الشاكر، ليرد الجاحدين إلى الاعتراف، ويرد الكافرين إلى الشكر، ويرد الغافلين إلى الذكر، ويرد الشاردين من أبنائه إلى سيرة أبيهم لعلهم يقتدون بها ويهتدون. ويبدأ إبراهيم دعاءه: (رب اجعل هذا البلد آمنا).. فنعمة الأمن نعمة ماسة بالإنسان، عظيمة الوقع في حسه، متعلقة بحرصه على نفسه. والسياق يذكرها هنا ليذكر بها سكان ذلك البلد، الذين يستطيلون بالنعمة ولا يشكرونها وقد استجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم فجعل البلد آمنا، ولكنهم هم سلكوا غير طريق إبراهيم، فكفروا النعمة، وجعلوا لله أندادا، وصدوا عن سبيل الله. ولقد كانت دعوة أبيهم التالية لدعوة الأمن: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام).. ويبدو في دعوة إبراهيم الثانية تسليم إبراهيم المطلق إلى ربه، والتجاؤه إليه في أخص مشاعر قلبه. فهو يدعوه أن يجنبه عبادة الأصنام هو وبنيه، يستعينه بهذا الدعاء ويستهديه. ثم ليبرز أن هذه نعمة أخرى من نعم الله. وإنها لنعمة أن يخرج القلب من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده. فيخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود، إلى المعرفة والطمأنينة والاستقرار والهدوء. ويخرج من الدينونة المذلة لشتى الأرباب، إلى الدينونة الكريمة العزيزة لرب العباد.. إنها لنعمة يدعو إبراهيم ربه ليحفظها عليه، فيجنبه هو وبنيه أن يعبد الأصنام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} [إبراهيم: 28] فإنهم كما بدّلوا نعمة الله كفراً أهملوا الشكر على ما بوأهم الله من النعم بإجابة دعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام، وبدلوا اقتداءهم بسلفهم الصالح اقتداءً بأسلافهم من أهل الضلالة، وبدلوا دُعاء سلفهم الصالح لهم بالإنعام عليهم كفراً بمفيض تلك النّعَم. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {الله الذي خلق السموات والأرض} بأن انتقل من ذكر النعم العامة للناس التي يدخل تحت مِنتها أهل مكة بحكم العموم إلى ذكر النعم التي خص الله بها أهل مكة. وغير الأسلوب في الامتنان بها إلى أسلوب الحكاية عن إبراهيم لإدماج التنويه بإبراهيم عليه السلام والتعريض بذريته من المشركين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
مناجاة إبراهيم ربه بعد بناء البيت وفي أجواء الإيمان، مع النداء الإلهيّ الذي يدعو فيه عباده للعودة إليه والالتزام بأوامره ونواهيه على الخط المستقيم، الذي يمثله خط الرسالات الذي يبدأ من الله ويسير معه وينتهي إليه، في هذه الأجواء النابضة بالروح الخاشع أمام الله والمتحرك في سبيله، نلتقي بإبراهيم النبي الذي انفتح على الله بكل روحه وعقله وحياته، في موقع المشاعر الذاتية، وفي ملتقى المسؤوليات الكبيرة في الحياة. إنه الإنسان النموذج، الذي يرجع إلى الله في كل صغيرة وكبيرة، ويبتهل إليه لمواجهة صعوبات الحياة، ومشاكل العمل، واهتزاز الخطى في الطريق، وهو لا يحمل همّاً للذات، بل كل همّه الرسالة، ولا يتعقّد من سيطرة الهموم المتنوعة عليه، بل ينفتح على الله في همومه، ليخفف منها ويعود حُرّاً طليقاً بعيداً عن كل الأغلال النفسية التي تقيّد حرية انطلاق الروح في رحاب الله. إنها قصة السائرين مع الرسالة، فلا مشكلة لهم مع الناس إلا من خلال حركة الرسالة في الحياة، وهذا ما تمثله قصة إبراهيم على أكثر من صعيد. دعاء إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}، وذلك بعد أن وضع الحجر الأساس لبناء هذا البلد، وهو مكة، وأقام فيه البيت الحرام، ليكون المنطلق للمجتمع الجديد الذي يلتقي به من قاعدة الإيمان بالله، وتوحيد العقيدة والعبادة له. ولم يفكر في البداية إلا في الطابع الروحي الذي يريد أن يصبغ هذا البلد، ويميّزه عن بقية البلدان، فقد أراده أن يكون بلد سلام يشعر فيه الناس، مع كل خلافاتهم ونزاعاتهم، بالأمان بين يدي الله، فلا يعتدي إنسان على آخر، بل يعيش تجاهه أحاسيس السلام الروحي القادم من الله، من خلال الممارسة بإشاعة جو السلام وتشريع تحريم القتال فيه. وإذا كان السلام هو طابع هذا البلد الذي أراده إبراهيم له، فلا بد لهذا السلام من أن يرتكز على قاعدةٍ في الروح وفي الفكر، وأيّ قاعدة أعظم تأثيراً في النفس، وأكثر قوّةً على الثبات، من توحيد الله ورفض عبادة غيره، لأنها القاعدة التي تخطّط للإنسان المنهج الذي تنطلق منه كل مشاريعه العامة والخاصة، في علاقاته بالحياة وبالآخرين، حيث يتأكد شعوره بالتقوى في كل شيءٍ، في أجواء العقيدة الرافضة لشرك الفكر والانتماء، وفي أجواء العمل الرافض لشرك العبادة، وهذا ما عبّر عنه إبراهيم (ع) في ما حكاه الله عنه بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}، حيث تمثل عبادة الأصنام استجابة لتسويلات الشيطان وما يثيره في مكامن الذات ومشاعرها الحميمة، من دافع للانسجام مع الجو العام الذي يسيطر عليه الشرك، بطريقة تجعل الأجواء الخارجية البعيدة عن الحق مسيطرة على الآفاق الداخلية للذات، فتنحرف عن الخط المستقيم، طلباً لرضى أو تأييد هذا الفريق أو ذاك، وهذا الشخص أو ذاك، لأنهم يملكون السلطة والموقع الاجتماعي المتقدم الذي تضعف مقدرة الذات على الرفض أمامه إلا إذا توفر لها تأييد الله ورعايته له، وهو أمر يتحقق بالابتهال إليه أن يمنح الإنسان القوّة في الموقف الرافض الحاسم، كما يمنح بنيه في الحاضر والمستقبل مثل هذه القوّة في مواجهة كل شركٍ في العقيدة أو في العبادة، من دون فرق بين الأصنام البشرية أو الحجرية أو الخشبية، أو غير ذلك مما اعتاد الناس على عبادته والارتباط به على كل مستوى من مستويات العلاقة النفسية والعملية...