تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (57)

{ 57 - 58 } { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }

لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، والصلاة والسلام عليه ، نهى عن أذيته ، وتوعد عليها فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهذا يشمل كل أذية ، قولية أو فعلية ، من سب وشتم ، أو تنقص له ، أو لدينه ، أو ما يعود إليه بالأذى . { لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا } أي : أبعدهم وطردهم ، ومن لعنهم [ في الدنيا ]{[722]}  أنه يحتم{[723]}  قتل من شتم الرسول ، وآذاه .

{ وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } جزاء له على أذاه ، أن يؤذى بالعذاب الأليم ، فأذية الرسول ، ليست كأذية غيره ، لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يؤمن العبد باللّه ، حتى يؤمن برسوله صلى اللّه عليه وسلم . وله من التعظيم ، الذي هو من لوازم الإيمان ، ما يقتضي ذلك ، أن لا يكون مثل غيره .


[722]:- زيادة من: ب.
[723]:- في ب: يتحتم.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (57)

فيه خمس مسائل :

الأولى- اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون ؟ فقال الجمهور من العلماء : معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه ، ووصفه بما لا يليق به ، كقول اليهود لعنهم الله : وقالت اليهود يد الله مغلولة . والنصارى : المسيح ابن الله . والمشركون : الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه . وفي صحيح البخاري قال الله تعالى : ( كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك . . . ) الحديث . وقد تقدم في سورة " مريم " {[12909]} وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال الله تبارك وتعالى : ( يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما ) . هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية . وقد جاء مرفوعا عنه ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار ) أخرجه أيضا مسلم . وقال عكرمة : معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله المصورين ) .

قلت : وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرها ؛ إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى . وقد تقدم هذا في سورة " النمل " {[12910]} والحمد لله .

وقالت فرقة : ذلك على حذف مضاف ، تقديره : يؤذون أولياء الله . وأما أذية رسوله صلى الله عليه وسلم فهي كل ما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد ، ومن الأفعال أيضا . أما قولهم : " فساحر شاعر كاهن مجنون . وأما فعلهم : فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد ، وبمكة إلقاء السلى على ظهره وهو ساجد " إلى غير ذلك . وقال ابن عباس : نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت حيي . وأطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات ؛ لأن إيذاء الله ورسول لا يكون إلا بغير حق أبدا . وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه . . ومنه . .

الثانية- قال علماؤنا : والطعن في تأمير أسامة بن زيد أذية له عليه السلام . وروى الصحيح عن ابن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته ، فقام رسول الله صلى فقال : ( إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل ، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إلي ، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده ) . وهذا البعث - والله أعلم - هو الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة وأمره عليهم وأمره أن يغزوا " أبنى " وهي القرية التي عند مؤتة ، الموضع الذي قتل فيه زيد أبوه جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة . فأمره أن يأخذ بثأر أبيه فطعن من في قلبه ريب في إمرته ؛ من حيث إنه كان من الموالي ، ومن حيث إنه كان صغير السن ؛ لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة ، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وقد برز هذا البعث عن المدينة ولم ينفصل بعد عنها ، فنفذه أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم .

الثالثة- في هذا الحديث أوضح دليل على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى . وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء ، فكان يؤمهم وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش . وروى الصحيح عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان ، وكان عمر يستعمله على مكة فقال : من استعملت على هذا الوادي ؟ قال : ابن أبزى . قال : ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا . قال : فاستخلفت عليهم مولى ! قال : إنه لقارئ لكتاب الله وإنه لعالم بالفرائض - قال - أما إن نبيكم قد قال : ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) .

الرابعة- كان أسامة رضي الله عنه الحب ابن الحب وبذلك كان يدعى ، وكان أسود شديد السواد ، وكان زيد أبوه أبيض من القطن . هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح . وقال غير أحمد : كان زيد أزهر اللون وكان أسامة شديد الأدمة . ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن أسامة وهو صغير ويمسح مخاطه ، وينقي أنفه ويقول : ( لو كان أسامة جارية لزيناه وجهزناه وحببناه إلى الأزواج ) . وقد ذكر أن سبب ارتداد العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه لما كان عليه السلام في حجة الوداع بجبل عرفة عشية عرفة عند النفر ، احتبس النبي صلى الله عليه وسلم قليلا بسبب أسامة إلى أن أتاه ، فقالوا : ما احتبس إلا لأجل هذا ! تحقيرا له . فكان قولهم هذا سبب ارتدادهم . ذكره البخاري في التاريخ بمعناه . والله أعلم .

الخامسة- كان عمر رضي الله عنه يفرض لأسامة في العطاء خمسة آلاف ، ولابنه عبد الله ألفين ، فقال له عبد الله : فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد ! فقال : إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ، وأباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ، ففضل رضي الله عنه محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه . وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض من أبغض . وقد قابل مروان هذا الحب بنقيضه ، وذلك أنه مر بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مروان : إنما أردت أن نرى مكانك ، فقد رأينا مكانك ، فعل الله بك ! وقال{[12911]} قولا قبيحا . فقال له أسامة : إنك آذيتني ، وإنك فاحش متفحش ، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله تعالى يبغض الفاحش المتفحش ) . فانظر ما بين الفعلين وقس ما بين الرجلين ، فقد أذى بنو أمية النبي صلى الله عليه وسلم في أحبابه ، وناقضوه في محابه .

قوله تعالى : " لعنهم الله " معناه أبعدوا من كل خير . واللعن في اللغة : الإبعاد ، ومنه اللعان . " وأعد لهم عذابا مهينا " تقدم معناه في غير موضع . والحمد لله رب العالمين .


[12909]:راجع ج 11 ص 159.
[12910]:راجع ج 13 ص 221.
[12911]:في الأصول: "وفعل قولا...".
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (57)

ولما نهى سبحانه عن أذاه صلى الله عليه وسلم ، وحض على إدخال السرور عليه ، توعد على أذاه ، فقال على طريق الاستئناف أو التعليل ، إشارة إلى أن التهاون بشيء من الصلاة و{[56054]} السلام من الأذى ، وأكد ذلك{[56055]} إظهاراً لأنه مما يحق له أن يؤكد ، وأن يكون لكل من يتكلم به غاية الرغبة في تقريره : { إن الذين يؤذون } أي يفعلون فعل المؤذي بارتكاب ما يدل على التهاون من كل ما يخالف { الله } أي{[56056]} الذي لا أعظم منه ولا نعمة عندهم إلا من فضله { ورسوله } أي الذي استحق عليهم بما يخبرهم{[56057]} به عن الله مما ينقذهم به من شقاوة الدارين ويوجب لهم سعادتهما ما{[56058]} لا يقدرون على القيام بشكره بأي أذى كان حتى في التقصير بالصلاة عليه باللسان { لعنهم } أي أبعدهم وطردهم وأبغضهم { الله } أي الذي لا عظيم غيره { في الدنيا } بالحمل على ما يوجب السخط { والآخرة } بإدخال دار الإهانة .

ولما كان الحامل على الأذى الاستهانة قال : { وأعد لهم عذاباً مهيناً * } .


[56054]:من ظ وم ومد، وفي الأصل "أو".
[56055]:سقط من ظ وم ومد.
[56056]:سقط من ظ.
[56057]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يجيرهم.
[56058]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مما.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (57)

قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } .

ذلك تهديد من الله ووعيد للمجرمين من الناس الذين يؤذون الله بالكفر به ووصفه بما لا يليق به ، كنسبة الشريك أو الولد أو الصاحبة إليه .

ومن إيذائه سبحانه ، مخالفة أوامره وارتكاب زواجره ونواهيه ، ومجانبة شرعه ومنهجه للبشرية . فإن مجانبة شرع الله والإصرار الغاشم على مخالفة الإسلام واجتناب تعاليمه وأحكامه وتصوراته واستبدال ذلك كله بغيره من ملل الكفر والجحود والإباحية والإلحاد – كل ذلك إيذاء لله سبحانه وإعلان صريح للحرب عليه . وهذه غاية الاجتراء الكنود والتوقّح البشع الذي يتلبس به عصاة البشرية وفسّاقها ، وهم يولون جامحين مدبرين عن دين الإسلام ثم يكيدون له بالغ الكيد ، ويمكرون به وبأهله في الليل والنهار غاية المكر .

وكذلك يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل وجوه الأذية من القول أو الفعل . فقد أذوه بالفعل ، إذ كسروا رباعيته وشجعوا وجهه في أحد ، وفي مكة ألقوا سلى الناقة على ظهره وهو ساجد .

وأما الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأقوال فذلك كثير ومذهل وشنيع والحديث عنه تفصيلا يطول . فلقد مَرَدَ الظالمون في بدايتهم الأولى على التقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زورا بأنه : ساحر ، كاهن ، كذاب ، وأنه مجنون . وهي افتراءات سقيمة ومكشوفة لفرط سذاجتها ووضوح كذبها فهي بذلك لا تستعصي على استخفاف المستخفين واستسخارهم .

لكن الظالمين في الأزمنة المتعاقبة قد انتحوا مناحي أشد براعة في الخداع والتخريص ، إذ غالوا في الطعن في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرته العطرة الفضلى . فقد افتروا عليه بمختلف المطاعن المكذوبة والأباطيل المقبوحة ما يكشف عن مدى الكراهية المركومة التي تستقرّ في قلوب الظالمين في كل زمان .

لقد افترى الأفاكون والدجاجلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطنعوا من الأكاذيب والشبهات والترهات ما يشير إلى أنهم موغلون في الضلالة والجهالة . وأنهم مستغرقون في الاضطغان وهوان العقول . وهم ما فتئوا سادرين في ضلالهم وغيهم طيلة حياتهم حتى يموتوا بغيظهم من غير أن ينالوا من شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سمو منزلته أي منال . ولا تزداد ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرط الكيد من الظالمين الحاقدين وافترائهم عليه إلا رسوخا في أعماق الزمن ، واستقرارا في قلوب المسلمين حيثما كانوا .

وهؤلاء الذين يؤذون الله ورسوله قد { لعنهم الله في الدنيا والآخرة } اللعن ، معناه الطرد والإبعاد من الخير{[3773]} . لقد أبعد الله هؤلاء الظالمين الخاسرين من رحمته ، وحجب عنهم كل ظواهر الخير والفضل ليكونوا مع التاعسين الأشقياء في الدنيا والآخرة .

قوله : { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } إنهم صائرون إلى ما أعده الله لهم من العذاب الوجيع في النار وبئس القرار{[3774]} .


[3773]:أساس البلاغة ص 567
[3774]:تفسير ابن كثير ج 3 ص 517 وتفسير القرطبي ج 14 ص 237-238