24 - 27 } { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يأمر تعالى ، نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، أن يقول لمن أشرك باللّه ويسأله عن حجة شركه : { مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فإنهم لا بد أن يقروا أنه اللّه ، ولئن لم يقروا ف { قُلِ اللَّهُ } فإنك لا تجد من يدفع هذا القول ، فإذا تبين أن اللّه وحده الذي يرزقكم من السماوات والأرض ، وينزل [ لكم ] المطر ، وينبت لكم النبات ، ويفجر لكم الأنهار ، ويطلع لكم من ثمار الأشجار ، وجعل لكم الحيوانات جميعها ، لنفعكم ورزقكم ، فلم تعبدون معه من لا يرزقكم شيئا ، ولا يفيدكم نفعا ؟ .
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي : إحدى الطائفتين منا ومنكم ، على الهدى ، مستعلية عليه ، أو في ضلال مبين ، منغمرة فيه ، وهذا الكلام يقوله من تبين له الحق ، واتضح له الصواب ، وجزم بالحق الذي هو عليه ، وبطلان ما عليه خصمه .
أي : قد شرحنا من الأدلة الواضحة عندنا وعندكم ، ما به يعلم علما يقينا لا شك فيه ، من المحق منا ، ومن المبطل ، ومن المهتدي ومن الضال ؟ حتى إنه يصير التعيين بعد ذلك ، لا فائدة فيه ، فإنك{[736]} إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق ، لسائر المخلوقات المتصرف فيها ، بجميع أنواع التصرفات ، المسدي جميع النعم ، الذي رزقهم وأوصل إليهم كل نعمة ، ودفع عنهم كل نقمة ، الذي له الحمد كله ، والملك كله ، وكل أحد من الملائكة فما دونهم ، خاضعون لهيبته ، متذللون لعظمته ، وكل الشفعاء تخافه ، لا يشفع أحد منهم عنده إلا بإذنه العلي الكبير ، في ذاته ، وأوصافه ، وأفعاله ، الذي له كل كمال ، وكل جلال ، وكل جمال ، وكل حمد وثناء ومجد ، يدعو إلى التقرب لمن هذا شأنه ، وإخلاص العمل له ، وينهى عن عبادة من سواه ، وبين من يتقرب إلى أوثان ، وأصنام ، وقبور ، لا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تملك لأنفسها ، ولا لمن عبدها ، نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا ، بل هي جمادات ، لا تعقل ، ولا تسمع دعاء عابديها ، ولو سمعته ما استجابت لهم ، ويوم القيامة يكفرون بشركهم ، ويتبرأون منهم ، ويتلاعنون بينهم ، ليس لهم قسط من الملك ، ولا شركة فيه ، ولا إعانة فيه ، ولا لهم شفاعة يستقلون بها دون اللّه ، فهو يدعو مَنْ هذا وصفه ، ويتقرب إليه مهما أمكنه ، ويعادي من أخلص الدين للّه ، ويحاربه ، ويكذب رسل اللّه ، الذين جاءوا بالإخلاص للّه وحده ، تبين{[737]} لك أي الفريقين ، المهتدي من الضال ، والشقي من السعيد ؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك ذلك ، لأن وصف الحال ، أوضح من لسان المقال .
قوله تعالى : " قل من يرزقكم من السماوات والأرض " لما ذكر أن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة مما يقدر عليه الرب قرر ذلك فقال : قل يا محمد للمشركين " من يرزقكم من السموات والأرض " أي من يخلق لكم هذه الأرزاق الكائنة من السموات ، أي عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع . " والأرض " أي الخارجة من الأرض عن الماء والنبات أي لا يمكنهم أن يقولوا هذا فعل آلهتنا - فيقولون لا ندري ، فقل إن الله يفعل ذلك الذي يعلم ما في نفوسكم وإن قالوا : إن الله يرزقنا فقد تقررت الحجة بأنه الذي ينبغي أن يعبد . " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " هذا على وجه الإنصاف في الحجة ، كما يقول القائل : أحدنا كاذب ، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب . والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر واحد ، بل على أمرين متضادين ، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن والآخر ضال وهو أنتم ، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب ، والمعنى : أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض . " أو إياكم " معطوف على اسم " إن " ولو عطف على الموضع لكان " أو أنتم " ويكون " لعلى هدى " للأول لا غير وإذا قلت : " أو إياكم " كان للثاني أولى ، وحذفت من الأول أن يكون للأول ، وهو اختيار المبرد ، قال : ومعناه معنى قول المستبصر لصاحبه على صحة الوعيد والاستظهار بالحجة الواضحة : أحدنا كاذب ، قد عرف المعنى ، كما تقول : أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ ، وقد عرف أنه هو المخطئ ، فهكذا " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " . و " أو " عند البصريين على بابها وليست للشك ، ولكنها على ما تستعمل العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى . وقال أبو عبيدة والفراء : هي بمعنى الواو ، وتقديره : وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين . وقال جرير :
أثعلبةَ الفوارس أو رياحا *** عدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والرَّبابا{[13045]}
ولما سلب{[56828]} عن شركائهم أن يملكوا شيئاً من الأكوان ، وأثبت{[56829]} جميع الملك له وحده ، أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقررهم بما يلزم منه ذلك فقال : { قل من يرزقكم } ولما كان كل شيء من الرزق متوقفاً على الكونين ، وكان في معرض الامتنان والتوبيخ جمع لئلا يدعي أن لشيء من العالم العلوي مدبراً غيره سبحانه فقال : { من السماوات } وقال : { والأرض } بالإفراد لأنهم لا يعلمون غيرها .
ولما كان من المعلوم أنهم مقرّون بأن ذلك لله وحده كما تقدم التصريح به غير مرة ، {[56830]}وكان{[56831]} من المحقق أن إقرارهم بذلك ملزم لهم{[56832]} الإخلاص في العبادة عند كل من له أدنى مسكة من عقله ، أشار إلى ذلك بالإشارة{[56833]} بأمره صلى الله عليه وسلم بالإجابة إلى أنهم كالمنكرين لهذا ، لأن إقرارهم به لم ينفعهم فقال : { قل الله } أي الملك الأعلى{[56834]} وحده ، وأمره بعد إقامة{[56835]} هذا الدليل البين{[56836]} بأن يتبعه{[56837]} ما هو أشد عليهم من وقع النبل بطريق لا أنصف منه ، ولا يستطيع أحد أن يصوب إليه نوع طعن بأن يقول مؤكداً تنبيهاً على وجوب إنعام النظر في تمييز المحق من المبطل بالانخلاع من الهوى ، فإن الأمر في غاية الخطر : { وإنا } أي أهل التوحيد في العبادة لمن تفرد بالرزق{[56838]} { أو إياكم } أي{[56839]} أهل الإشراك به من لا يملك شيئاً من الأشياء و " أو " على بابها لا بمعنى الواو ، أي إن أحد فريقينا{[56840]} على إحدى الحالتين مبهمة{[56841]} غير معينة فهو على خطر عظيم لكونه في شك من أمره غير مقطوع له بالهدى ، فانظروا بعقولكم في تعيينه هل هو الذي عرف الحق{[56842]} لأهله أو{[56843]} الذي بذل الحق لغير أهله ، قال ابن الجوزي : وهذا كما تقول للرجل تكذبه : والله إن أحدنا لكاذب ، وأنت تعنيه تكذيباً غير مكشوف{[56844]} ويقول الرجل : والله لقد قدم فلان ، فيقول له من يعلم كذبه : قل إن شاء الله ، فيكذبه بأحسن من تصريح التكذيب ، يعني ولا سيما بعد إقامة الدليل على المراد ثم مثل المهتدين بمن هو على متن جواد يوجهه حيث شاء من الجواد بقوله : { لعلى هدى } أي في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه ناظرين لكل ما يمكن أن يعرض فيه مما قد يجر إلى ضلال فتنكبه{[56845]} { أو في ضلال } أي{[56846]} عن الحق في الاعتقاد المناسب فيه منغمسين فيه وهو محيط بالمبتلى به لا يتمكن معه من وجه صواب : { مبين * } أي واضح في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال إلا من كان منغمساً فيه مظروفاً له ، فإنه لا يحس بنفسه وما بينه وبين أن يستبصر إلا أن يخرج منه وقتاً ما فيعلم أنه كان في حاله ذلك فاعلاً ما لا يفعله من له نوع من العقل ، ففي هذا حث على النظر الذي كانوا يأبونه بقوله : قلوبنا في أكنة }[ فصلت : 5 ] ونحوه في{[56847]} الأدلة التي يتميز بها الحق من الباطل على أحسن وجه بأنصف دعاء وألطف نداء حيث{[56848]} شرك الداعي نفسه معهم فيما دعاهم إلى النظر فيه ، فالمعنى أنه يتعين على كل منا - إذا كان على إحدى{[56849]} الطريقين مبهمة - أن ينظر في أمره{[56850]} ليسلم فإن الأمر في غاية الوضوح مع{[56851]} أن الضال في نهاية الخطر ، ولقد كان الفضلاء من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وذوو{[56852]} الأحلام والنهى منهم يقولون ذلك بعد{[56853]} الإسلام كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، وناهيك بهما جلالاً ، ونباهة وذكاء وكمالاً ، قالوا : والله كنا نعجب غاية العجب ممن يدخل في الإسلام واليوم نحن{[56854]} نعجب غاية العجب ممن يتوقف عنه{[56855]} .