{ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } من العمل ، وفرطت في جنب الله . { كَلَّا } أي : لا رجعة له ولا إمهال ، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون ، { إِنَّهَا } أي : مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا { كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } أي : مجرد قول باللسان ، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم ، وهو أيضا غير صادق في ذلك ، فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه .
{ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : من أمامهم وبين أيديهم برزخ ، وهو الحاجز بين الشيئين ، فهو هنا : الحاجز بين الدنيا والآخرة ، وفي هذا البرزخ ، يتنعم المطيعون ، ويعذب العاصون ، من موتهم إلى يوم يبعثون ، أي : فليعدوا له عدته ، وليأخذوا له أهبته .
لتدارك ما فات ، والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال . . وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار ، مشهود كالعيان ! فإذا الرد على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء ، إنما يعلن على رؤوس الأشهاد :
( كلا . إنها كلمة هو قائلها . . . )
كلمة لا معنى لها ، ولا مدلول وراءها ، ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها . إنها كلمة الموقف الرهيب ، لا كلمة الإخلاص المنيب . كلمة تقال في لحظة الضيق ، ليس لها في القلب من رصيد !
وبها ينتهي مشهد الاحتضار . وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعا . فلقد قضي الأمر ، وانقطعت الصلات ، وأغلقت الأبواب ، وأسدلت الأستار :
( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) . .
فلا هم من أهل الدنيا ، ولا هم من أهل الآخرة . إنما هم في ذلك البرزخ بين بين ، إلى يوم يبعثون .
وقرأ الحسن والجمهور «لعلي » بسكون الياء ، وقرأ طلحة بن مصرف «لعليَ » بفتح الياء ، و { كلا } رد وزجر وهي من كلام الله تعالى ، وقوله { إنها كلمة هو قائلها } يحتمل ثلاثة معان : أحدهما الإخبار المؤكد بأن هذا الشيء يقع ويقول هذه الكلمة ، والآخر أن يكون المعنى إنها كلمة لا تغني أكثر من أن يقولها ولا نفع له فيها ولا غوث ، والثالث أن تكون إشارة إلى أنه لو رد لعاد فتكون آية ذم لهم ، والضمير في { ورائهم } للكفار أي يأتي بعد موتهم حاجز من المدة و «البرزخ » ، في كلام العرب الحاجز بين المسافتين ، ثم يستعار لما عدا ذلك فهو هنا للمدة التي بين موت الإنسان وبين بعثه ، هذا إجماع من المفسرين ، و[ يوم ] مضاف إلى [ يبعثون ]{[8546]} .
الترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة . وما صدق { ما تركت } عالم الدنيا . ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض ، على أن يكون ما صدق الموصول الإيمان بالله وتصديق رسوله ، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر ، فالمعنى : لعلي أسلم وأعمل صالحاً في حالة إسلامي الذي كنت رفضته ، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف . ورُكب بهذا النظم الموجز قضاءً لحق البلاغة .
و { كلاّ } ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر .
وقوله : { إنها كلمة هو قائلها } تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن . وحاصل معناه : أن قول المشرك { رب ارجعون } إلخ لا يتجاوز أن يكون كلاماً صدر من لسانه لا جدوى له فيه ، أي لا يستجاب طلبه به .
فجملة { هو قائلها } وصف ل { كلمة } ، أي هي كلمة هذا وصفها . وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف { كلمة } به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملاً في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها .
وبذلك يعلم أن التأكيد بحرف ( إن ) لتحقيق المعنى الذي استعمل له الوصف .
والكلمة هنا مستعمل في الكلام كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : { ألا كل شيء ما خلا الله باطل »
وكما في قولهم : كلمة الشهادة وكلمة الإسلام . وتقدم قوله تعالى { ولقد قالوا كلمة الكفر } في سورة براءة ( 74 ) .
والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه . شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه ، وهذا كقوله تعالى { والله من ورائهم محيط } [ البروج : 20 ] وقوله { ومن ورائهم جهنم } [ الجاثية : 10 ] وقوله { من ورائهم عذاب غليظ } [ إبراهيم : 17 ] . وتقدم قوله : { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] .
أليس ورائي أن تراخت منيتي *** لزوم العصا تُحنى عليها الأصابع
والبرزخ : الحاجز بين مكانين . قيل : المراد به في هذه الآية القبر ، وقيل : هو بقاء مدة الدنيا ، وقيل : هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل ، وإلى هذا مال الصوفية . وقال السيد في « التعريفات » : البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية ، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال اه ، أي عند الفلاسفة القدماء .
ومعنى { إلى يوم يبعثون } أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث . فهي إقناط لهم لأنهم يعلمون أن يوم البعث الذي وُعدوه لا رجوع بعده إلى الدنيا فالذي قال لهم { إلى يوم يبعثون } هو الذي أعلمهم بما هو البعث .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.