تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

{ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } أي : ما تركك منذ اعتنى بك ، ولا أهملك منذ رباك ورعاك ، بل لم يزل يربيك أحسن تربية ، ويعليك درجة بعد درجة .

{ وَمَا قَلا } ك الله أي : ما أبغضك منذ أحبك ، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده ، والنفي المحض لا يكون مدحًا ، إلا إذا تضمن ثبوت كمال ، فهذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم الماضية والحاضرة ، أكمل حال وأتمها ، محبة الله له واستمرارها ، وترقيته في درج{[1447]}  الكمال ، ودوام اعتناء الله به .


[1447]:- في ب: درجات.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

وبعد هذا الإيحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر : ( ما ودعك ربك وما قلى ) . . ما تركك ربك ولا جافاك - كما زعم من يريدون إيذاء روحك وإيجاع قلبك وإقلاق خاطرك . . وهو( ربك )وأنت عبده المنسوب إليه ، المضاف إلى ربوبيته ، وهو راعيك وكافلك . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

وقرأ جمهور الناس «ودّعك » بشد الدال من التوديع ، وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام «ودَعك » بتخفيف الدال من التوديع ، وقرأ عروة بن الزبير وأبنه هشام «ودَعك » بتخفيف الدال بمعنى ترك ، و { قلى } معناه : أبغض . واختلف في سبب هذه الآية فقال ابن عباس وغيره : أبطأ الوحي مرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة مدة اختلفت في حدها الروايات حتى شق ذلك عليه فجاءت امرأة من الكفار هي أم جميل امرأة أبي لهب ، فقالت يا محمد : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزلت الآية بسبب ذلك{[11869]} . وقال ابن وهب عن رجال عن عروة بن الزبير أن خديجة قالت له : ما أرى الله إلا قد خلاك لإفراط جزعك لبطء الوحي عنك ، فنزل الآية بسبب ذلك{[11870]} ، وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل لجرو كلب كان في بيته{[11871]}


[11869]:رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، والطبري، وأورده السيوطي في الدر المنثور، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد الترمذي، والنسائي، والبيهقي وأبي نعيم معا في "الدلائل" وذكره الواحدي في أسباب النزول ،عن جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي رضي الله عنه، ولفظه كما ذكره السيوطي: (اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما رأى شيطانك إلا قد تركك، لم تره قربك ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله (والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى).
[11870]:ذكره الواحدي في "أسباب النزول" بسنده، عن هشام بن عروة عن أبيه، وأخرجه ابن جرير وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل كذلك عن عروة وأخرج مثله ابن جرير عن عبد الله بن شداد. ذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور.
[11871]:ذكر ذلك الواحدي في خبر طويل في كتابه "أسباب النزول" عن حفص بن سعيد القرشي، عن أمه، عن أمها خولة، وكانت خادمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

وجملة : { ما ودعك ربك } الخ جواب القسم ، وجواب القسم إذا كان جملة منفية لم تقترن باللام .

والتوديع : تحيةُ من يريد السفر .

واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيهاً بفراق المسافر في انقطاع الصلة حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإقامة ، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالاً معهوداً .

وهذا نفي لأن يكون الله قطع عنه الوحي .

وقد عطف عليه : { وما قلى } للإِتيان على إبطال مقالتي المشركين إذ قال بعضهم : ودَّعه ربه ، وقال بعضهم : قَلاه ربه ، يريدون التهكم .

وجملة : { وما قلى } عطف على جملة جواب القسم ولها حكمها .

والقليْ ( بفتح القاف مع سكون اللام ) والقِلَى ( بكسر القاف مع فتح اللام ) : البغض الشديد ، وسبب مقالة المشركين تقدم في صدر السورة .

والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر ، فعن ابن عباس وابن جريج : « احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً أو نحوها . فقال المشركون : إن محمداً ودَّعه ربه وقلاه ، فنزلت الآية » .

واحتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين :

أولاهما : قبل نزول سورة المدثر أو المزمل ، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر ، وتلك الفترة هي التي خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد انقطع عنه الوحي ، وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض كما تقدم في تفسير سورة المدثر ، وقد قيل : إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوماً ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدإ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه وقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليلاً .

وثانيتهما : فترة بعد نزول نحو من ثماننِ سور ، أي السور التي نزلت بعد الفترة الأولى فتكون بعد تجمع عشر سور ، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور .

والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة ، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوماً وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم كي تسْتَجِمَّ نفسه وتعتاد قوته تحمُّل أعباء الوحي إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوماً ثم كانت الثانية اثني عشر يوماً أو نحوها ، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث ، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثاً ، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر .

وحُذف مفعول { قلى } لدلالة { ودعك } عليه كقوله تعالى : { والذاكرين اللَّه كثيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] وهو إيجاز لفظيّ لظهور المحذوف ومثله قوله : { فآوى } [ الضحى : 6 ] ، ف { هدى } [ الضحى : 7 ] { فأغنى } [ الضحى : 8 ] .