تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

{ 84 - 86 } { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

أي : وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده بعد ما أخبروه هذا الخبر ، واشتد به الأسف والأسى ، وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه ، والكمد الذي أوجب له كثرة البكاء ، حيث ابيضت عيناه من ذلك .

{ فَهُوَ كَظِيمٌ } أي : ممتلئ القلب من الحزن الشديد ، { وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } أي : ظهر منه ما كمن من الهم القديم والشوق المقيم ، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة بالنسبة للأولى ، المصيبة الأولى .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

وتولى عنهم وقال : يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . .

وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع . يحس أنه منفرد بهمه ، وحيد بمصابه ، لا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه ، فينفرد في معزل ، يندب فجيعته في ولده الحبيب . يوسف . الذي لم ينسه ، ولم تهون من مصيبته السنون ، والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر فتغلبه على صبره الجميل :

يا أسفا على يوسف ! . .

ويكظم الرجل حزنه ويتجلد فيؤثر هذا الكظم في أعصابه حتى تبيض عيناه حزنا وكمدا :

( وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

{ وتولى عنهم } وأعرض عنهم كراهة لما صادف منهم . { وقال يا أسفا على يوسف } أي يا أسفا تعال فهذا أوانك ، والأسف اشد الحزن والحسرة ، والألف بدل من ياء المتكلم ، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه والحادث رزؤهما لأن رزأه كان قاعدة المصيبات وكان غضا آخذا بمجامع قلبه ، ولأنه كان واثقا بحياتهما دون حياته ، وفي الحديث : " لم تعط أمة من الأمم { إنا لله وإنا إليه راجعون } عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم " . ألا ترى إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال { يا أسفا } . { وابيضّت عيناه من الحزن } لكثرة بكائه من الحزن كأن العبرة محقت سوادهما . وقيل ضعف بصره . وقيل عمي ، وقرئ { من الحزن } وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع ، ولعل أمثال ذلك لا تدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ، ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : " القلب يجزع والعين تدمع ، ولا نقول ما يسخط الرب ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون " . { فهو كظيم } مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره ، فعيل بمعنى مفعول كقوله تعالى : { وهو مكظوم } من كظم السقاء إذا شده على ملئه ، أو بمعنى فاعل كقوله : { والكاظمين الغيظ } من كظم الغيظ إذا اجترعه ، وأصله كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

انتقال إلى حكاية حال يعقوب عليه السلام في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه ، فالتولي حاصل عقب المحاورة . و { تولى } : انصرف ، وهو انصراف غَضَب .

ولمّا كان التولّي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أخواله تجدد أسفه على يوسف عليه السلام فقال : { يا أسفى على يوسف } والأسف ؛ أشد الحزن ، أسِف كحزن .

ونداء الأسف مجاز . نزّل الأسف منزلة من يعقل فيقول له : احضر فهذا أوان حضورك ، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف .

والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفاً .

وإنما ذكر القرآن تحسّره على يوسف عليه السلام ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسّر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكرُه أن يعقوب عليه السلام لم يتحسّر قط إلاّ على يوسف ، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها .

وكذلك عطف جملة { وابيضت عيناه من الحزن } إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة . فكل من التولّي والتحسر واببيضاض العينين من أحواله إلاّ أنها مختلفة الأزمان .

وابيضاض العينين : ضعُف البصر . وظاهره أنه تبدّل لون سوادهما من الهزال . ولذلك عبّر ب { وابيضت عيناه } دون عميت عيناه .

و { من } في قوله : { من الحزن } سببية . والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين . وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة :

قبل ما اليوم بيّضَتْ بعيون الن *** اس فيها تغيض وإباء

وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر . فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار ؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبليّ فلا يستغرب صدوره من نبيء ، أو أن التصبّر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحَزن والجزع عند المصائب . وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى عليه السلام أربعين يوماً ، وحَكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع . وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية .

والكظيم : مبالغة للكاظم . والكَظم : الإمساك النفساني ، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس ، ويبكي في خلوته ، أو هو فعيل بمعنى مفعول ، أي محزون كقوله : { وهو مكظوم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وتولى عنهم}، يعني: وأعرض يعقوب عن بنيه، ثم أقبل على نفسه، {وقال يا أسفى}، يعني: يا حزناه {على يوسف وابيضت عيناه} لم يبصر بهما، {من الحزن} على يوسف، {فهو كظيم}، يعني مكروب يتردد الحزن في قلبه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"وَتَوَلّى عَنْهُمْ": وأعرض عنهم يعقوب، "وَقالَ يا أسَفا على يُوسُفَ "يعني: يا حزنا عليه. يقال: إن الأسف هو أشدّ الحزن والتندم... يقول الله جلّ ثناؤه: وابيضت عينا يعقوب من الحزن "فَهُوَ كَظِيمٌ "يقول: فهو مكظوم على الحزن، يعني أنه مملوء منه ممسك عليه لا يبينه

... عن الضحاك، في قوله: "فَهُوَ كَظِيمٌ" قال: الكظيم: الكميد...

عن قتادة: "وَابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" يقول: يردّد حزنه في جوفه ولم يتكلم بسوء...

قال ابن زيد، في قوله: "وَابْيَضّتْ عَيناهْ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" قال: الكظيم: الذي لا يتكلم، بلغ به الحزن حتى كان لا يكلمهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... والحزن هو ما يؤثر التغيير في الخلقة، ولا يظهر في الأفعال. والجزع يظهر في الأفعال، ولا يغير الخلقة عن حالها؛ لذلك عمل الحزن في ضعف نفس يعقوب، وعمل في إهلاك بعضه حيث ذهبت عيناه، وابيضت من الحزن...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثراً؟ قلت: هو دليل على تمادي أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طريا...

ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به...

{فَهُوَ كَظِيمٌ} فهو مملوء من الغيظ على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم، فعيل بمعنى مفعول، بدليل قوله {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] من كظم السقاء إذا شدّه على ملئه...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{فهو كظيم} بمعنى كاظم، كما قال {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134]، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشْكُ إلى أحد، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب... وقال ناس: {كظيم} بمعنى: مكظوم... وقد وصف الله تعالى يونس عليه السلام بمكظوم في قوله {إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48] وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه، فكأنه كظم بثه في صدره. وجريُ كظيم على باب كاظم أبين...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَانَ يَعْقُوبُ حَزِينًا فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنَّاهَا، وَلَكِنَّ حُزْنَهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ جِبِلَّةً، وَلَمْ يَكْتَسِبْ لِسَانُهُ قَوْلًا قَلِقًا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِهِ فِي صَحِيحِ الْخَبَرِ: (تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ).

وَقَالَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ، أَوْ يَرْحَمُ). وَهُوَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، سُبْحَانَهُ، حِينَ عَلِمَ عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ الصَّبْرِ؛ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الدَّمْعِ وَالْحُزْنِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ، وَخَطَمَ الْفَمَ بِالزِّمَامِ عَنْ سُوءِ الْكَلَامِ، فَنَهَى عَمَّا نَهَى، وَأَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَا لِنَافِذِ الْقَضَاءِ، وَخَاصَّةً عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى. وَأَحْسَنُ الْكَلَامِ فِي الشَّكْوَى سُؤَالُ الْمَوْلَى زَوَالَ الْبَلْوَى، وَذَلِكَ قَوْلُ يَعْقُوبَ: {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مِنْ جَمِيلِ صُنْعِهِ وَغَرِيبِ لُطْفِهِ وَعَائِدَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه:

الوجه الأول: أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن...

والوجه الثاني: أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل، فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة فعظم الألم والوجد.

الوجه الثالث: أن المصيبة في يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا، وكان الأسف عليه أسفا على الكل.

الرابع: أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها. وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه، وأما السبب الحقيقي فما كان معلوما له، وأيضا أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة، وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت، فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وتولى} أي انصرف بوجهه {عنهم} لما تفاقم عليه من الحزن، وبلغ به من الجهد، وهاج به باجتماع حزن إلى حزن من الحرق كراهية لما جاؤوا به وإقبالاً على من إليه الأمر {وقال} مشتكياً إلى الله لا غيره، فهو تعريض بأشد التصريح والدعاء: {يا أسفى} أي يا أشد حزني، والألف بدل عن ياء الإضافة لتدل على بلوغ الأسف إلى ما لا حد له، وجناس "الأسف "مع "يوسف" مما لم يتعمد، فيكون مطبوعاً، فيصل إلى نهاية الإبداع، وأمثاله في القرآن كثير {على يوسف} هذا أوانك الذي ملأني بك فنادمني كما أنادمك، وخصه لأنه قاعدة إخوانه، انبنى عليها وتفرع منها ما بعدها {وابيضت عينه} أي انقلب سوادهما إلى حال البياض كثرة الاستعبار، فعمي البصر {من الحزن} الذي هو سبب البكاء الدائم الذي هو سبب البياض، فذكر السبب الأول، يقال: بلغ حزنه عليه السلام حزن سبعين ثكلى وما ساء ظنه قط.

ثم علل ذلك بقوله: {فهو} أي بسبب الحزن {كظيم} أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن، فهو فعيل بمعنى مفعول، وهو أبلغ منه، من كظم السقاء -إذا شده على ملئه.

ومادة "كظم" تدور على المنع من الإظهار...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتقال إلى حكاية حال يعقوب عليه السلام في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه، فالتولي حاصل عقب المحاورة. و {تولى}: انصرف، وهو انصراف غَضَب. ولمّا كان التولّي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أخواله تجدد أسفه على يوسف عليه السلام فقال: {يا أسفى على يوسف} والأسف؛ أشد الحزن، أسِف كحزن. ونداء الأسف مجاز. نزّل الأسف منزلة من يعقل فيقول له: احضر فهذا أوان حضورك، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف. والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفاً. وإنما ذكر القرآن تحسّره على يوسف عليه السلام ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسّر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكرُه أن يعقوب عليه السلام لم يتحسّر قط إلاّ على يوسف، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها. وكذلك عطف جملة {وابيضت عيناه من الحزن} إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة. فكل من التولّي والتحسر وابيضاض العينين من أحواله إلاّ أنها مختلفة الأزمان. وابيضاض العينين: ضعُف البصر. وظاهره أنه تبدّل لون سوادهما من الهزال. ولذلك عبّر ب {وابيضت عيناه} دون عميت عيناه. و {من} في قوله: {من الحزن} سببية. والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين. وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار،

وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر. فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبليّ فلا يستغرب صدوره من نبيء، أو أن التصبّر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحزن والجزع عند المصائب... والكظيم: مبالغة للكاظم. والكَظم: الإمساك النفساني، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس، ويبكي في خلوته، أو هو فعيل بمعنى مفعول، أي محزون...