تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

يقول تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } أي : ليس هذا هو البر المقصود من العباد ، فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف ، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ونحو ذلك .

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أي : بأنه إله واحد ، موصوف بكل صفة كمال ، منزه عن كل نقص .

{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهو كل ما أخبر الله به في كتابه ، أو أخبر به الرسول ، مما يكون بعد الموت .

{ وَالْمَلَائِكَةِ } الذين وصفهم الله لنا في كتابه ، ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم { وَالْكِتَابِ } أي : جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله ، وأعظمها القرآن ، فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام ، { وَالنَّبِيِّينَ } عموما ، خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم .

{ وَآتَى الْمَالَ } وهو كل ما يتموله الإنسان من مال ، قليلا كان أو كثيرا ، أي : أعطى المال { عَلَى حُبِّهِ } أي : حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس ، فلا يكاد يخرجه العبد .

فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى ، كان هذا برهانا لإيمانه ، ومن إيتاء المال على حبه ، أن يتصدق وهو صحيح شحيح ، يأمل الغنى ، ويخشى الفقر ، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة ، كانت أفضل ، لأنه في هذه الحال ، يحب إمساكه ، لما يتوهمه من العدم والفقر .

وكذلك إخراج النفيس من المال ، وما يحبه من ماله كما قال تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه .

ثم ذكر المنفق عليهم ، وهم أولى الناس ببرك وإحسانك . من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم ، وتفرح بسرورهم ، الذين يتناصرون ويتعاقلون ، فمن أحسن البر وأوفقه ، تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي ، على حسب قربهم وحاجتهم .

ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم ، وليس لهم قوة يستغنون بها ، وهذا من رحمته [ تعالى ] بالعباد ، الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده ، فالله قد أوصى العباد ، وفرض عليهم في أموالهم ، الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه ، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره ، رُحِمَ يتيمه .

{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة ، وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء ، بما يدفع مسكنتهم أو يخففها ، بما يقدرون عليه ، وبما يتيسر ، { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ، فحث الله عباده على إعطائه من المال ، ما يعينه على سفره ، لكونه مظنة الحاجة ، وكثرة المصارف ، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته ، وخوله من نعمته ، أن يرحم أخاه الغريب ، الذي بهذه الصفة ، على حسب استطاعته ، ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره ، أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها .

{ وَالسَّائِلِينَ } أي : الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج ، توجب السؤال ، كمن ابتلي بأرش جناية ، أو ضريبة عليه من ولاة الأمور ، أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة ، كالمساجد ، والمدارس ، والقناطر ، ونحو ذلك ، فهذا له حق وإن كان غنيا { وَفِي الرِّقَابِ } فيدخل فيه العتق والإعانة عليه ، وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده ، وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة .

{ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } قد تقدم مرارا ، أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة ، لكونهما أفضل العبادات ، وأكمل القربات ، عبادات قلبية ، وبدنية ، ومالية ، وبهما يوزن الإيمان ، ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان .

{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } والعهد : هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه . فدخل في ذلك حقوق الله كلها ، لكون الله ألزم بها عباده والتزموها ، ودخلوا تحت عهدتها ، ووجب عليهم أداؤها ، وحقوق العباد ، التي أوجبها الله عليهم ، والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور ، ونحو ذلك .

{ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } أي : الفقر ، لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة ، لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره .

فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم ، وإن جاع أو جاعت عياله تألم ، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم ، وإن عرى أو كاد تألم ، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم ، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم .

فكل هذه ونحوها ، مصائب ، يؤمر بالصبر عليها ، والاحتساب ، ورجاء الثواب من الله عليها .

{ وَالضَّرَّاءِ } أي : المرض على اختلاف أنواعه ، من حمى ، وقروح ، ورياح ، ووجع عضو ، حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك ، فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك ، لأن النفس تضعف ، والبدن يألم ، وذلك في غاية المشقة على النفوس ، خصوصا مع تطاول ذلك ، فإنه يؤمر بالصبر ، احتسابا لثواب الله [ تعالى ] .

{ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم ، لأن الجلاد يشق غاية المشقة على النفس ، ويجزع الإنسان من القتل ، أو الجراح أو الأسر ، فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا ، ورجاء لثواب الله [ تعالى ] الذي منه النصر والمعونة ، التي وعدها الصابرين .

{ أُولَئِكَ } أي : المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة ، والأعمال التي هي آثار الإيمان ، وبرهانه ونوره ، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية ، فأولئك هم { الَّذِينَ صَدَقُوا } في إيمانهم ، لأن أعمالهم صدقت إيمانهم ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } لأنهم تركوا المحظور ، وفعلوا المأمور ، لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير ، تضمنا ولزوما ، لأن الوفاء بالعهد ، يدخل فيه الدين كله ، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات ، ومن قام بها ، كان بما سواها أقوم ، فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون .

وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة ، من الثواب الدنيوي والأخروي ، مما لا يمكن تفصيله في [ مثل ] هذا الموضع .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

158

وأخيرا وفي آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح ، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح ، ويحدد صفة الصادقين المتقين :

( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ؛ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ؛ وآتى المال - على حبه - ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ؛ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) . .

والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما ثار حوله من جدل طويل . ولقد سبق الكلام عن حكمة تحويل القبلة . فالآن يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول هذه القضية وحول سائر القضايا الجدلية التي يثيرها اليهود حول شكليات الشعائر والعبادات ، وكثيرا ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور .

إنه ليس القصد من تحويل القبلة ، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق ، أن يولي الناس وجوهم قبل المشرق والمغرب . . نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام . . وليست غاية البر - وهو الخير جملة - هي تلك الشعائر الظاهرة . فهي في ذاتها - مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك - لا تحقق البر ، ولا تنشىء الخير : إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك . تصور ينشىء ء أثره في ضمير الفرد والجماعة ؛ وعمل ينشىء أثره في حياة الفرد والجماعة . ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب . . سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك ؛ أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالا ، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر .

( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين . . . ) الآية .

ذلك هو البر الذي هو جماع الخير . . فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله ؟

ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ؟

إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى ، وشتى الأشياء ، وشتى الاعتبارات . . إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية ، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد ؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار . . وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه إلى القصد ، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه . فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد ، لا تعرف لها قصدا مستقيما ولا غاية مطردة ، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة ، كما يتجمع الوجود كله ، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات . . والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء ؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان . وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء . . والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان ، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان . الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه . . والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين ، وهو الإيمان بوحدة البشرية ، ووحدة إلهها ، ووحدة دينها ، ووحدة منهجها الإلهي . . ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات .

وما قيمة إيتاء المال - على حبه والاعتزاز به - لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ؟

إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة . انعتاق الروح من حب المال الذييقبض الأيدي عن الإنفاق ، ويقبض النفوس عن الأريحية ، ويقبض الأرواح عن الانطلاق . فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال . وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال . لا في الرخيص منه ولا الخبيث . فيتحرر من عبودية المال ، هذه العبودية التي تستذل النفوس ، وتنكس الرؤوس . ويتحرر من الحرص . والحرص يذل اعناق الرجال . وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام ، الذي يحاول دائما تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها ، يقينا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس ؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات ! . . ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة . . هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس ، وكرامة الأسرة ، ووشائج القربى . والأسرة هي النواة الأولى للجماعة . ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم . . وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة ، وبين الأقوياء فيها والضعفاء ؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين ؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها ، وتعرضهم للفساد ، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم برا ولا رعاية . . وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون - وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضنا بماء وجوههم - احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم ، وصيانة لهم من البوار ، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة ، التي لا يهمل فيها فرد ، ولا يضيع فيها عضو . . وهي لابن السبيل - المنقطع عن ماله وأهله - واجب للنجدة في ساعة العسرة ، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار ؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل ، وبأن الأرض كلها وطن ، يلقى فيها أهلا بأهل ، ومالا بمال ، وصلة بصلة ، وقرارا بقرار . . وهي للسائلين إسعاف لعوزهم ، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام . وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملا ، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل ، وأن يقنع ولا يسأل . فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال . . وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام - حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة . ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه ، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه . والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية ، ويطلب مكاتبته عليها - أي أداء مبلغ من المال في سبيلها ، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له ، ويصبح مستحقا في مصارف الزكاة ، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة . . كل أولئك ليسارع في فك رقبته ، واسترداد حريته . .

وإقامة الصلاة ؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير ؟

إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب . إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه ، ظاهرا وباطنا ، جسما وعقلا وروحا . إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم ، وليست مجرد توجه صوفي بالروح . فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة . إن الإسلام يعترف بالإنسان جسما وعقلا وروحا في كيان ؛ ولا يفترض أن هناك تعارضا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان ، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح ، لأن هذا الكبت ليس ضروريا لانطلاق الروح . ومن ثم يجعل عبادته الكبرى . . الصلاة . مظهرا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعا في ترابط واتساق . يجعلها قياما وركوعا وسجودا تحقيقا لحركة الجسد ، ويجعلها قراءة وتدبرا وتفكيرا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل ؛ ويجعلها توجها واستسلاما لله تحقيقا لنشاط الروح . . كلها في آن . . وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة ، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة . . في كل ركعة وفي كل صلاة . وإيتاء الزكاة ؟ . . إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقا في أموال الأغنياء للفقراء ، بحكم أنه هو صاحب المال ، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه ، من شروطه إيتاء الزكاة . وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال - على حبه - لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق ؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة ، وليست الزكاة بديلة منه . . وإنما الزكاة ضريبة مفروضة ، والإنفاق تطوع طليق . . والبر لا يتم إلا بهذه وتلك . وكلتاهما من مقومات الإسلام . وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق ، ولا تغني هي عن الإنفاق .

والوفاء بالعهد ؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها ، ويكررها القرآن كثيرا ؛ ويعدها آية الإيمان ، وآية الآدمية وآية الإحسان . وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول . تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله . وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعا قلقا لا يركن إلى وعد ، ولا يطمئن إلى عهد ، ولا يثق بإنسان ، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله ، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام .

والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ؟ . . إنها تربية للنفوس وإعداد ، كي لا تطير شعاعا مع كل نازلة ، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة ، ولا تنهار جزعا أمام الشدة . إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرا . إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله . ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية ، والعدل في الأرض والصلاح ، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة . الصبر في البؤس والفقر . والصبر في المرض والضعف . والصبر في القلة والنقص . والصبر في الجهاد والحصار ، والصبر على كل حال . كي تنهض بواجبها الضخم ، وتؤدي دورها المرسوم ، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال .

ويبرز السياق هذه الصفة . . صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس . . يبرزها بإعطاء كلمة( الصابرين )وصفا في العبارة يدل على الاختصاص . فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير : " وأخص الصابرين " . . وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر . . لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم ، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال - على حبه - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد . . وهو مقام للصابرين عظيم ، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله ، يلفت الأنظار . .

وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد ، وتكاليف النفس والمال ، وتجعلها كلا لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم . وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو( البر )أو هو " جماع الخير " أو هو " الإيمان " كما ورد في بعض الأثر . والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادىء المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام .

ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم :

( أولئك الذين صدقوا ، وأولئك هم المتقون ) . .

أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم . صدقوا في إيمانهم واعتقادهم ، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة .

وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به ، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق . .

وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها ، بمنهجه الرفيع القويم . . ثم ننظر إلى الناس وهن ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه ، ويحاربونه ، ويرصدون له العداوة ، ولكل من يدعوهم إليه . . ونقلب أيادينا في أسف ، ونقول ما قال الله سبحانه : يا حسرة على العباد !

ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة ، على أمل في الله وثيق ، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع ، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل . أمل وضيء منير . أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء - بعد العناء الطويل - إلى هذا المنهج الرفيع ، وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء . . والله المستعان .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } { البر } كل فعل مرض ، والخطاب لأهل الكتاب فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت ، وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فرد الله تعالى عليهم وقال ؛ ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ ، ولكن البر ما بينه الله واتبعه المؤمنون . وقيل عام لهم وللمسلمين ، أي ليس البر مقصورا بأمر القبلة ، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها ، وقرأ حمزة وحفص { البر } بالنصب { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } أي ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن بالله ، أو لكن ذا البر من آمن ، ويؤيده قراءة من قرأ ولكن " البار " والأول أوفق وأحسن . والمراد بالكتاب الجنس ، أو القرآن . وقرأ نافع وابن عامر { ولكن } بالتخفيف ورفع { البر } . { وآتى المال على حبه } أي على حب المال ، قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أي الصدقة أفضل قال " أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ، وتخشى الفقر " . وقيل الضمير لله ، أو للمصدر . والجار والمجرور في موضع الحال . { ذوي القربى واليتامى } يريد المحاويج منهم ، ولم يقيد لعدم الالتباس . وقدم ذوي القربى لأن إيتاءهم أفضل كما قال عليه الصلاة والسلام صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك اثنتان ، صدقة وصلة " . { والمساكين } جمع المسكين وهو الذي أسكنته الخلة ، وأصله دائم السكون كالمسكير للدائم السكر . { وابن السبيل } المسافر ، سمي به لملازمته السبيل كما سمي القاطع ابن الطريق . وقيل الضيف لأن السبيل يعرف به . { والسائلين } الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، وقال عليه السلام : " للسائل حق وإن جاء على فرسه " . { وفي الرقاب } وفي تخليصها بمعاونة المكاتبين ، أو فك الأساري ، أو ابتياع الرقاب لعتقها . { وأقام الصلاة } المفروضة . { وآتى الزكاة } يحتمل أن يكون المقصود منه ومن قوله : { وآتى المال } الزكاة المفروضة ، ولكن الغرض من الأول ببيان مصارفها ، ومن الثاني أداؤها والحث عليها . ويحتمل أن يكون المراد بالأول نوافل الصدقات أو حقوقا كانت في المال سوى الزكاة . وفي الحديث " نسخت الزكاة كل صدقة " . { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } عطف على { من آمن } . { والصابرين في البأساء والضراء } نصبه على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال . وعن الأزهري : البأساء في الأموال كالفقر ، والضراء في الأنفس كالمرض . { وحين البأس } وقت مجاهدة العدو . { أولئك الذين صدقوا } في الدين واتباع الحق وطلب البر . { وأولئك هم المتقون } عن الكفر وسائر الرذائل . والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها ، دالة عليها صريحا أو ضمنا ، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحة الاعتقاد ، وحسن المعاشرة ، وتهذيب النفس . وقد أشير إلى الأول بقوله : { من آمن بالله } إلى { والنبيين } وإلى الثاني بقوله : { وآتى المال } إلى { وفي الرقاب } وإلى الثالث بقوله : { وأقام الصلاة } إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاده بالتقوى ، اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق . وإليه أشار بقوله عليه السلام " من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )

وقوله تعالى : { ليس البرُّ } الآية : قرأ أكثر السبعة برفع الراء ، و «البرُّ » اسم ليس ، قال أبو علي : «ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مذهب أبي علي أن { ليس } حرف ، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «ليس البرَّ » بنصب الراء ، جعل { أن تولوا } بمنزلة المضمر ، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر ، والمضمر أولى أن يكون اسماً يخبر عنه( {[1593]} ) ، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود { ليس البرّ بأن تولوا } ، وقال الأعمش ، إن في مصحف عبد الله : ( لا تحسبن البر ) ( {[1594]} ) ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : الخطاب بهذه الآية للمؤمنين ، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها ، وقال قتادة والربيع : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها ، وقرأ الجمهور «ولكن البر » ( {[1595]} )والتقدير ولكن البر بر من ، وقيل : التقدير ولكن ذو البر من ، وقيل : { البر } بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من ، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف ، كقولك رجل عدل ورضى( {[1596]} ) .

والإيمان التصديق ، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع .

وقوله تعالى : { وآتى المال على حبه } الآية ، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة ، وبها كمال البر( {[1597]} ) ، وقيل هي الزكاة ، و { آتى } معناه أعطى ، والضمير في { حبه } عائد على { المال }( {[1598]} ) فالمصدر مضاف إلى المفعول ، ويجيء قوله { على حبه } اعتراضاً بليغاً أثناء القول( {[1599]} ) ، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة ، فإيتاء المال حبيب إليهم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى من قوله : { من آمن بالله } أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته ، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في { آتى } أي على حبه المال ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى المقصود : أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى ، كما قال صلى الله عليه وسلم( {[1600]} ) .

قال القاضي أبو محمد : والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح }( {[1601]} ) [ النساء : 128 ] ، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفاً بالشح الذي هو البخل ، و { ذوي القربى } يراد به قرابة النسب .

واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ ، وقال مجاهد وغيره : { ابن السبيل } المسافر لملازمته السبيل .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة ابن زنى »( {[1602]} ) أي الملازم له ، وقيل : لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها ، وقال قتادة : { ابن السبيل } الضيف ، والأول أعم ، و { في الرقاب } : يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات ( واقام الصلاة } أتمها بشروطها ، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة ، و { الموفون } عطف على { من } في قوله : { من آمن } ، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون ، و { الصابرين } نصب على المدح أو على إضمار فعل ، وهذا مهيع( {[1603]} ) في تكرار النعوت ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «والموفين » على المدح أو على قطع النعوت ، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن { والموفون } «والصابرون » وقرأ الجحدري { بعهودهم } ، و { البأساء } الفقر والفاقة ، و { الضراء } المرض ومصائب البدن ، و { حين البأس } وقت شدة القتال .

هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة ، وتقول العرب : بئس الرجل إذا افتقر ، وبؤس إذا شجع .

ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول : صدقني المال وصدقني الربح ، ومنه عود صدق( {[1604]} ) ، وتحتمل اللفظة أيضاً صدق الإخبار ، ووصفهم الله تعالى بالتقى ، والمعنى هم الذي جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح .


[1593]:- توضيح ذلك أن (إنّ وصِلَتَهَا) شبيهة عندهم بالمضمر في كونها لا توصف كما لا يوصف المضمر – وكأنه قد اجتمع هنا مظهر ومضمر وإذ اجتمعا فالمضمر هو الاسم لأنه أعرف المعارف.
[1594]:- على ما قاله الأعمش يكون في مصحف عبد الله قراءتان – [ليس البرّ بأن تولّوا] [ولا تحسبنّ البرّ].
[1595]:- أي بتخفيف النون ورفع البر. تنبيه: في تكملة الإمام السيوطي رحمه الله هنا ما نصه: وقرئ بفتح الباء أي البارّ. انتهى. وهذه القراءة لا وجود لها فيما نعلم لا في المتواتر ولا في الشواذ، وقد قال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكن البر بفتح الباء، فلو كانت تلك القراءة موجودة ما قال المبرد هذا الكلام، والكمال لله تعالى – أفاده بعض شيوخنا.
[1596]:- يلاحظ أن هذا القول راجع إلى القول الأول، تأمل.
[1597]:- روى الترمذي، وبان ماجة، والدارقطني، عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في المال حق سوى الزكاة).
[1598]:- هذا أقوى وأصح لأنه أقرب مذكور، وحاصل الآراء في عود الضمير: المال، أو الإيتاء، أو الله، أو المعطي للمال.
[1599]:- يعني أنه وقع اعتراضا وفصلا بين المفعولين، وهو فصل بليغ لدلالته على أنه آثر غيره بشيء محبوب ومرغوب فيه، والإيثار من أعلى صفات الإيمان، ونظير هذه الآية قوله تعالى: [ويطعمون الطعام على حبّه] الآية.
[1600]:- رواه الشيخان، عن أبي هريرة – ولفظ مسلم. (أيّ الصدقة أعظم ؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان). وروى النسائي عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يُنفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعدما يشبع).
[1601]:- من الآية (128) من سورة (النساء).
[1602]:- رواه النسائي، وابن حبان، وأبو النعيم في الحلية، من حديث أبي هريرة، وزعم ابن الجوزي رحمه الله أنه حديث موضوع، وقال الحافظ ابن حجر: فسره العلماء على تقدير صحته بما إذا عمل بعمل أبويه، واتفقوا على أن الحديث لا يحمل على ظاهره، وقيل: إن واظب على ذلك، وهو ما أشار إليه ابن عطية رحمه الله بقوله: أي الملازم له.
[1603]:- أي طريق مألوف وموجود في كلام العرب لا مطعن فيه لأحد، قال أبو علي الفارسي: إذا كثرت الصفات في معرض المدح والذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها، ولا تُجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف في إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا أو جملة واحدة. ا. هـ.
[1604]:- العود: البعير المُسِنُّ وصَدْقٌ على وزن فَلْسٍ أي صلب.