{ 20-23 } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ }
يقول تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا } استعجالا ومبادرة للأوامر الشاقة : { لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي : فيها الأمر بالقتال .
{ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ } أي : ملزم العمل بها ، { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } الذي هو أشق شيء على النفوس ، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر ، ولهذا قال : { رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } من كراهتهم لذلك ، وشدته عليهم .
وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً }
وينتقل السياق إلى تصوير موقف المنافقين من الجهاد ، وما يعتمل في نفوسهم من جبن وخور وذعر وهلع عند مواجهة هذا التكليف ، ويكشف دخيلتهم في هذا الأمر ، كما يكشف لهم ما ينتظرهم لو ظلوا على هذا النفاق ، ولم يخلصوا ويستجيبوا ويصدقوا الله عندما يعزم الأمر ويتحتم الجهاد :
( ويقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة . فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ، فأولى لهم طاعة وقول معروف ، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم . فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ! أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ? ) . .
وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة : إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه ، ويجدون في كل سورة منه زادا جديدا حبيبا . وإما أن يكون تطلعا إلى سورة تبين أمرا من أمور الجهاد ، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم . فيقولون : ( لولا نزلت سورة ! ) . .
( فإذا أنزلت سورة محكمة ) . . فاصلة بينة لا تحتمل تأويلا - ( وذكر فيها القتال ) . . أي الأمر به . أو بيان حكم المتخلفين عنه ، أو أي شأن من شؤونه ، إذا بأولئك ( الذين في قلوبهم مرض ) . . وهو وصف من أوصاف المنافقين . . يفقدون تماسكهم ، ويسقط عنهم ستار الرياء الذي يتسترون به ، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف ، ويبدون في حالة تزري بالرجال ، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار :
( رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ) . .
وهو تعبير لا تمكن محاكاته ، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى . وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع . والضعف إلى حد الرعشة . والتخاذل إلى حد الغشية ! ويبقى بعد ذلك متفردا حافلا بالظلال والحركة التي تشغف الخيال ! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان ، ولا بفطرة صادقة ، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر . وهي هي طبيعة المرض والنفاق !
وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص :
( فأولى لهم طاعة وقول معروف . فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ) . .
نعم . أولى لهم من هذه الفضيحة . ومن هذا الخور . ومن هذا الهلع . ومن هذا النفاق . .
يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد ، فلما فرضه الله ، عز وجل{[26680]} ، وأمر به نكل عنه كثير من الناس ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا } [ النساء : 77 ] .
وقال ها هنا : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ } أي : مشتملة على حُكْم القتال ؛ ولهذا قال : { فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي : من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء .
ثم قال مشجعا لهم : { فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي : وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا ، أي : في الحالة الراهنة ، { فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ } أي : جد الحال ، وحضر القتال ، { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ } أي : أخلصوا له النية ، { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
قد ذكرنا أن هذه السورة أنزلت بالمدينة وقد بدت قرون نفاق المنافقين ، فلما جرى في هذه السورة وصف حال المنافقين أعقب ذلك بوصف أجلى مظاهر نفاقهم ، وذلك حين يُدعَى المسلمون إلى الجهاد فقد يضيق الأمر بالمنافقين إذ كان تظاهرهم بالإسلام سيلجئهم إلى الخروج للقتال مع المسلمين ، وذلك أمر ليس بالهيّن لأنه تعرض لإتلافهم النفوس دون أن يَرْجُو منه نفعاً في الحياة الأبدية إذ هم لا يصدقون بها فيَصبحوا في حيرة . وكان حالهم هذا مخالفاً لحال الذين آمنوا الذي تمنوا أن يَنزل القرآن بالدعوة إلى القتال ليلاقوا المشركين فيشفوا منهم غليلهم ، فبهذه المناسبة حُكي تمني المؤمنين نزول حكم القتال لأنه يلوح به تمييز حال المنافقين ، ويبدو منه الفرق بين حال الفريقين وقد بين كره القتال لديهم في سورة براءة .
فالمقصود من هذه الآية هو قوله : { فإذ أنزلت سورة محكمة وذُكِر فيها القتال رأيتَ الذين في قلوبهم مرض } الآية ، وما قبله توطئة له بذكر سببه ، وأفاد تقديمه أيضاً تنويهاً بشأن الذين آمنوا ، وأفاد ذكره مقابلةً بين حالي الفريقين جريا على سنن هذه السورة . ومقال الذين آمنوا هذا كان سبباً في نزول قوله تعالى : { فإذا لقِيتم الذين كفروا فضَربَ الرقاب } [ محمد : 4 ] ، ولذلك فالمقصود من السورة التي ذكر فيها القتال هذه السورة التي نحن بصددها .
ومعلوم أن قول المؤمنين هذا وقع قبل نزول هذه الآية فالتعبير عنه بالفعل المضارع : إمّا لقصد استحضار الحالة مثل { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] ، وإما للدلالة على أنهم مستمرون على هذا القول . وتبعاً لذلك تكون { إذا } في قوله : { فإذا أنزلت سورة } ظرفاً مستعملاً في الزمن الماضي لأن نزول السورة قد وقع ، ونَظرُ المنافقين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النظر قد وقع إذ لا يكون ذمهم وزجرهم قبل حصول ما يوجبه فالمقام دال والقرينة واضحة .
و { لولا } حرف مستعمل هنا في التمني ، وأصل معناه التخصيص فأطلق وأريد به التمني لأن التمني يستلزم الحرصَ والحرصُ يدعو إلى التحضيض .
وحذف وصف { سورة } في حكاية قولهم : { لولا نزلت سورة } لدلالة ما بعده عليه من قوله : { وذُكِر فيها القتال } لأن قوله { فإذا أنزلت سورة } ، أي كما تمنَّوا اقتضى أن المسؤول سورة يشرع فيها قتال المشركين . فالمعنى : لولا نزلت سورة يذكر فيها القتال وفرضه ، فحُذف الوصف إيجازاً . ووصف السورة ب { محكمة } باعتبار وصف آياتها بالإحكام ، أي عدم التشابه وانتفاء الاحتمال كما دلت عليه مقابلة المحكمات بالمتشابهات في قوله : { منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات } في سورة آل عمران ( 7 ) ، أي لا تحتمل آيات تلك السورة المتعلّقةُ بالقتال إلا وجوب القتال وعدم الهوادة فيه مثل قوله : { فإذا لَقِيتم الذين كفروا فضربَ الرقاب } [ محمد : 4 ] الآيات ، فلا جرم أن هذه السورة هي التي نزلت إجابة عن تمنّي الذين آمنوا . وإنما قال : { وذُكِر فيها القتال } لأن السورة ليست كلها متمحضة لذكر القتال فإن سور القرآن ذوات أغراض شتّى .
والخطاب في { رأيتَ } للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنه لاحِقٌ لقوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك } [ الأنعام : 25 ] .
و { الذين في قلوبهم مرض } هم المبطنون للكفر فجعل الكفر الخفيّ كالمرض الذي مقره القلب لا يبدو منه شيء على ظاهر الجسد ، أي رأيت المنافقين على طريق الاستعارة . وقد غلب إطلاق هذه الصلة على المنافقين ، وأن النفاق مرض نفساني معضل لأنه تتفرع منه فروع بيناها في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في سورة البقرة ( 10 ) .
وانتصب نظر المغشي عليه من الموت } على المفعولية المطلقة لبيان صفة النظر من قوله : { ينظرون إليك } فهو على معنى التشبيه البليغ .
ووجه الشبه ثبات الحدقة وعدم التحريك ، أي ينظرون إليك نظر المتحيّر بحيث يتجه إلى صوب واحد ولا يشتغل بالمرئيات لأنه في شاغل عن النظر ، وإنما يوجهون أنظارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا بمجلسه حين نزول السورة ، وكانوا يتظاهرون بالإقبال على تلقي ما ينطق به من الوحي فلما سمعوا ذكر القتال بهتوا ، فالمقصود المشابهة في هذه الصورة . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت } في سورة الأحزاب ( 19 ) .
و{ مِن } هنا تعليلية ، أي المغشي عليه لأجل الموت ، أي حضور الموت .
فرّع على هذا قوله : { فأولى لهم طاعة وقول معروف } . وهذا التفريع اعتراض بين جملة { ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } وبين جملة { فإذا عزم الأمر } .
ولفظ { أوْلى } هنا يجوز أن يكون مستعملاً في ظاهره استعمال التفضيل على شيء غير مذكور يدل عليه ما قبله ، أي أولى لهم مِن ذلك الخوففِ الذي دَل عليه نظرهم كالمغشي عليه من الموت ، أن يطيعوا أمر الله ويقولوا قولاً معروفاً وهو قول { سمعنا وأطعنا } [ البقرة : 285 ] فذلك القول المعروف بين المؤمنين إذا دُعُوا أو أمروا كما قال تعالى : { إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } في سورة النور ( 51 ) .
وعلى هذا الوجه فتعدية { أولى } باللام دون الباء للدلالة على أن ذلك أولى وأنفع ، فكان اجتلاب اللام للدلالة على معنى النفع . فهو مثل قوله تعالى : { ذلك أزكى لهم } [ النور : 30 ] وقوله : { هن أطهر لكم } [ هود : 78 ] . وهو يرتبط بقوله بعده { فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم } .
ويجوز أن يكون { فأولى لهم } مستعملاً في التهديد والوعيد كما في قوله تعالى : { أوْلى لك فأوْلى ثم أولى لك فأولى } في سورة القيامة ( 34 ، 35 ) ، وهو الذي اقتصرَ الزمخشري عليه . ومعناه : أن الله أخبر عن توعده إياهم . ثم قيل على هذا الوجه إن { أولى } مرتبة حروفه على حالها من الوَلْي وهو القرب ، وأن وزنه أفعل . وقال الجرجاني : هو في هذا الاستعمال مشتق من الويل . فأصل أولى : أويِل ، أي أشد ويلا ، فوقع فيه قلب ، ووزنه أفلع . وفي « الصحاح » عن الأصمعي ما يقتضي : أنه يَجعل ( أولى له ) مبتدأ محذوف الخبر . والتّقدير : أقرب ما يُهلكه ، قال ثعلب : ولم يقل أحد في ( أولى له ) أحسن مما قال الأصمعي .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويقول الذين صدّقوا الله ورسوله: هلا نزلت سورة من الله تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار، "فإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ "يعني: أنها محكمة بالبيان والفرائض...
وقوله: وَذُكِرَ فِيها القِتالُ يقول: وذُكر فيها الأمر بقتال المشركين.
وقوله: "رأيْتَ الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" يقول: رأيت الذين في قلوبهم شك في دين الله وضعف "يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ" يا محمد، "نَظَرَ المَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ"، خوفا أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين، فهم خوفا من ذلك وتجبنا عن لقاء العدوّ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه الذي قد صرع. وإنما عنى بقوله: "مِنَ المَوْتِ": من خوف الموت، وكان هذا فعل أهل النفاق. وقوله: "فَأَوْلَى لَهُمْ" يقول تعالى ذكره: فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض.
وقوله: "فأوْلَى لَهُمْ" وعيد توعّد الله به هؤلاء المنافقين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن الذين آمنوا كانوا يتمنّون إنزال السورة، ويقولون: هلاّ نزلت سورة لوجوه:
أحدها: لتكون السورة حجة لهم وآية على عدائهم في الرسالة والبعث والتوحيد. والثاني: كانوا يستبعدون بإنزال السورة أشياء، ويزداد لهم يقينا وتحقُّقا في الدين كقوله تعالى: {وإذا ما أُنزلت سورة} إلى قوله: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} [{وأما الذين في قلوبهم مرض] فزادتهم رِجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 124 و125] على ما ذكر.
والثالث: كانوا يتمنّون نزول السورة ليتبين لهم المُصدِّق من المكذِّب والمتحقَّق من المُريب...
وقوله تعالى: {فإذا أُنزلت سورة محكمة}... أي مُحكَمة بالحُجج والبراهين...
. {وذُكر فيها القتال}... ليُتبيّن المُصدّق منهم من المكذّب لهم والمتحقَّق من المُريب، لأنه لم يكن ليظهر، ويتبين لهم المنافق من غيره إلى ذلك الوقت. فلما فُرض القتال عند ذلك ظهر وتبين لهم أهل النّفاق والارتياب من أهل الإيمان والتصديق...
{رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت} كان أهل النفاق يكرهون نزول ما يبيّن لهم ما في ضميرهم من النّفاق والارتياب...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت" أي: شخصوا بأبصارهم نحوك، ونظروا نظرا شديدا، شبه الشاخص بصره عند الموت، وإنما أصابهم مثل هذا؛ لأنهم إن قاتلوا خافوا الهلاك، وإن لم يقاتلوا خافوا ظهور النفاق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مُّحْكَمَةٌ} مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجهاً إلا وجوب القتال. {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام.
{فأولى لَهُمْ} وعيد بمعنى: فويل لهم. وهو أفعل: من الولي وهو القرب. ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله، وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام، فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى، فمدح الله المؤمنين بحرصهم.
وقولهم: {لولا نزلت سورة} معناه: تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال...
.والمشهور من استعمال «أولى»: أنك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي أحق، وقد تستعمل «أولى» فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول، فتقول على جهة الزجر والتوعد: أولى لك يا فلان، وهذه الآية من هذا الباب، ومنه قوله تعالى: {أولى لك فأولى} [القيامة: 34-35]...
{لولا نزلت سورة} المراد منه سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق...
{محكمة} فيها فائدة زائدة من حيث إنهم لا يمكنهم أن يقولوا المراد غير ما يظهر منه، أو يقولوا هذه آية وقد نسخت فلا نقاتل،... وقوله {رأيت الذين في قلوبهم مرض} أي المنافقين {ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت} لأن عند التكليف بالقتال لا يبقى لنفاقهم فائدة، فإنهم قبل القتال كانوا يترددون إلى القبيلتين وعند الأمر بالقتال لم يبق لهم إمكان ذلك {فأولى لهم} دعاء كقول القائل فويل لهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ويقول} على سبيل التجديد المستمر {الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم وفيهم الصادق والمنافق دالين على صدقهم في إيمانهم بالتحريض على طلب الخير بتجدد الوحي الذي هو الروح الحقيقي: {لولا نزلت} على سبيل التدريج، وبناه للمفعول دلالة على إظهارهم أنهم صاروا في صدقهم في الإيمان واعتقادهم أن التنزيل لا يكون إلا من الله بحيث لا يحتاجون إلى التصريح به {سورة} أي سورة كانت لنسر بسماعها ونتعبد بتلاوتها ونعمل بما فيها كائناً ما كان... {فإذا أنزلت سورة} أي قطعة من القرآن تكامل نزولها كلها- تدريجاً أو جملة، وزادت على مطلوبهم بالحس بأنها {محكمة} أي مبينة لا- يلبس شيء منها بنوع إجمال ولا ينسخ لكونه جامعاً للمحاسن في كل- زمان ومكان {وذكر فيها القتال} بأيّ ذكر كان، والواقع أنه لا يكون إلا ذكراً مبيناً أنه- لا يزداد إلا وجوباً وتأكداً حتى تضع الحرب أوزارها...
{رأيت} أي- بالعين والقلب {الذين في قلوبهم مرض} أي ضعف في الدين أو نفاق من الذين أقروا بالإيمان وطلبوا تنزيل القرآن وكانوا قد أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن أمرتهم ليخرجن {ينظرون إليك} كراهة لما نزل عليك بعد أن حرضوا على طلبه {نظر المغشي عليه} ولما كان للغشي أسباب، بين أن هذا أشدها فقال تعالى: {من الموت} الذي هو نهاية الغشي فهو لا يطرف بعينه بل هو شاخص لا يطرف كراهة للقتال من الجبن والخور. ولما كان هذا أمراً منابذاً للإنسانية لأنه مباعد للدين والمروءة، سبب عنه أعلى التهديد فقال متوعداً لهم بصورة الدعاء بأن يليهم المكروه: {فأولى} أي أشد ميل وويل وانتكاس وعثار موضع لهم في الهلكة كائن {لهم} أي خاص بهم...
مضرة عليهم، أو كان الصدق أفضل لهم مما يدعون فيه خلاصا وهو فساد...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{فأولى لهم} أي فالموت أولى لمثل هؤلاء المنافقين، إذ حياتهم ليست في طاعة الله، فالموت خير منها، وقد يكون المعنى على التهديد والوعيد والدعاء عليهم بالهلاك، فكأنه قيل: أهلكهم الله هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، فهو نحو قولهم في الدعاء بعدا له وسحقا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ويقول الذين آمنوا: لولا نزلت سورة. فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت، فأولى لهم طاعة وقول معروف، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم. فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم! أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟).. وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة: إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه، ويجدون في كل سورة منه زادا جديدا حبيبا. وإما أن يكون تطلعا إلى سورة تبين أمرا من أمور الجهاد، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم. فيقولون: (لولا نزلت سورة!).. (فإذا أنزلت سورة محكمة).. فاصلة بينة لا تحتمل تأويلا -(وذكر فيها القتال).. أي الأمر به. أو بيان حكم المتخلفين عنه، أو أي شأن من شؤونه، إذا بأولئك (الذين في قلوبهم مرض).. وهو وصف من أوصاف المنافقين.. يفقدون تماسكهم، ويسقط عنهم ستار الرياء الذي يتسترون به، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف، ويبدون في حالة تزري بالرجال، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار: (رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت).. وهو تعبير لا تمكن محاكاته، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى. وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع. والضعف إلى حد الرعشة. والتخاذل إلى حد الغشية! ويبقى بعد ذلك متفردا حافلا بالظلال والحركة التي تشغف الخيال! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان، ولا بفطرة صادقة، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر. وهي هي طبيعة المرض والنفاق! وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص: (فأولى لهم طاعة وقول معروف. فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم).. نعم. أولى لهم من هذه الفضيحة. ومن هذا الخور. ومن هذا الهلع. ومن هذا النفاق..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قد ذكرنا أن هذه السورة أنزلت بالمدينة وقد بدت قرون نفاق المنافقين، فلما جرى في هذه السورة وصف حال المنافقين أعقب ذلك بوصف أجلى مظاهر نفاقهم، وذلك حين يُدعَى المسلمون إلى الجهاد فقد يضيق الأمر بالمنافقين إذ كان تظاهرهم بالإسلام سيلجئهم إلى الخروج للقتال مع المسلمين، وذلك أمر ليس بالهيّن لأنه تعرض لإتلافهم النفوس دون أن يَرْجُو منه نفعاً في الحياة الأبدية إذ هم لا يصدقون بها فيَصبحوا في حيرة...
{فإذ أنزلت سورة محكمة وذُكِر فيها القتال رأيتَ الذين في قلوبهم مرض} الآية، وما قبله توطئة له بذكر سببه، وأفاد تقديمه أيضاً تنويهاً بشأن الذين آمنوا، وأفاد ذكره مقابلةً بين حالي الفريقين جريا على سنن هذه السورة...
وتبعاً لذلك تكون {إذا} في قوله: {فإذا أنزلت سورة} ظرفاً مستعملاً في الزمن الماضي لأن نزول السورة قد وقع، ونَظرُ المنافقين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النظر قد وقع إذ لا يكون ذمهم وزجرهم قبل حصول ما يوجبه فالمقام دال والقرينة واضحة. و {لولا} حرف مستعمل هنا في التمني، وأصل معناه التحضيض فأطلق وأريد به التمني لأن التمني يستلزم الحرصَ والحرصُ يدعو إلى التحضيض...
وإنما قال: {وذُكِر فيها القتال} لأن السورة ليست كلها متمحضة لذكر القتال فإن سور القرآن ذوات أغراض شتّى...
و {الذين في قلوبهم مرض} هم المبطنون للكفر فجعل الكفر الخفيّ كالمرض الذي مقره القلب لا يبدو منه شيء على ظاهر الجسد، أي رأيت المنافقين على طريق الاستعارة. وقد غلب إطلاق هذه الصلة على المنافقين، وأن النفاق مرض نفساني معضل...
.وانتصب نظر المغشي عليه من الموت} على المفعولية المطلقة لبيان صفة النظر من قوله: {ينظرون إليك} فهو على معنى التشبيه البليغ...
و {مِن} هنا تعليلية، أي المغشي عليه لأجل الموت، أي حضور الموت...
ويجوز أن يكون {فأولى لهم} مستعملاً في التهديد والوعيد كما في قوله تعالى: {أوْلى لك فأوْلى ثم أولى لك فأولى} في سورة القيامة (34، 35)،...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآيات: حكاية لما كان يتمناه المخلصون من المؤمنين من نزول سورة قرآنية حاسمة تأمر بالجهاد حتى يجاهدوا في سبيل الله. وحكاية لحالة ذوي القلوب المريضة حينما ينزل الله سورة محكمة وحاسمة بذلك؛ حيث يستولي عليهم الرعب وينظرون إلى النبي نظر الذي في حالة الاحتضار المملوء بالرعب والفزع واليأس. ودعاء عليهم وتنديد بهم من أجل هذه الحالة التي تعتريهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ سبب اختلاف تعامل المؤمنين والمنافقين مع أمر الجهاد، ينبع من أن الفريق الأوّل قد علقوا آمالهم بالله سبحانه لإيمانهم القوي به، فهم يرجون عنايته ولطفه ونصرته، ولا خوف لديهم من الشهادة في سبيله. إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى هؤلاء ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم، ميدان الشرف والفضيلة، ميدان تفجّر الاستعدادات والقابليات، وهو ميدان الثبات والمقاومة والانتصار، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان. إلاّ أنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا، وهو أخيراً ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض!... إنّ جملة (أولى لهم) تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر. وفسّرها البعض بأنّها تعني: الموت أولى لهم، ولا مانع من الجمع بينها...