{ 71 - 73 } { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
{ قُلْ } يا أيها الرسول للمشركين بالله ، الداعين معه غيره ، الذين يدعونكم إلى دينهم ، مبينا وشارحا لوصف آلهتهم ، التي يكتفي العاقل بذكر وصفها ، عن النهي عنها ، فإن كل عاقل إذا تصور مذهب المشركين جزم ببطلانه ، قبل أن تقام البراهين على ذلك ، فقال : { أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا } وهذا وصف ، يدخل فيه كل مَن عُبِد مِنْ دون الله ، فإنه لا ينفع ولا يضر ، وليس له من الأمر شيء ، إن الأمر إلا لله .
{ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } أي : وننقلب بعد هداية الله لنا إلى الضلال ، ومن الرشد إلى الغي ، ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم ، إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الأليم . فهذه حال لا يرتضيها ذو رشد ، وصاحبها { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ } أي : أضلته وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده . فبقي { حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } والشياطين يدعونه إلى الردى ، فبقي بين الداعيين حائرا وهذه حال الناس كلهم ، إلا من عصمه الله تعالى ، فإنهم يجدون فيهم جواذب ودواعي{[293]} متعارضة ، دواعي{[294]} الرسالة والعقل الصحيح ، والفطرة المستقيمة { يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } والصعود إلى أعلى عليين .
ودواعي{[295]} الشيطان ، ومن سلك مسلكه ، والنفس الأمارة بالسوء ، يدعونه إلى الضلال ، والنزول إلى أسفل سافلين ، فمن الناس من يكون مع داعي الهدى ، في أموره كلها أو أغلبها ، ومنهم من بالعكس من ذلك . ومنهم من يتساوى لديه الداعيان ، ويتعارض عنده الجاذبان ، وفي هذا الموضع ، تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة .
وقوله : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } أي : ليس الهدى إلا الطريق التي شرعها الله على لسان رسوله ، وما عداه ، فهو ضلال وردى وهلاك . { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } بأن ننقاد لتوحيده ، ونستسلم لأوامره ونواهيه ، وندخل تحت عبوديته ، فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها على العباد ، وأكمل تربية أوصلها إليهم .
هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها ؛ وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى ؛ وبمشهد الذي يرجع القهقري مرتدا عن دين الله ؛ وحيرته في التيه بلا اتجاه ؛ وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى . . هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية . عن سلطان الله المطلق ، في الأمر والخلق ؛ وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور - حتى للمنكرين المطموسين - ( يوم ينفخ في الصور ) ويبعث من في القبور ؛ ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده ، وأن إليه المصير :
( قل : أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ، ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، كالذي استهوته الشياطين في الأرض ، حيران ، له أصحاب يدعونه إلى الهدى . ائتنا . قل : إن هدى الله هو الهدى ، وأمرنا لنسلم لرب العالمين . وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) . .
( قل ) . . الإيقاع القوي المتكرر في السورة ؛ الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده ، وأن الرسول [ ص ] إنما هو منذر ومبلغ ؛ والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته ؛ وأن الرسول [ ص ] إنما هو مأمور به من ربه .
( قل : أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ؟ ) . .
قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه ، وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا . سواء كان ما يدعونه وثنا أو صنما ، حجرا أو شجرا ، روحا أم ملكا ، شيطانا أم إنسانا . . فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئا ولا يضرون . فهم أعجز من النفع والضر . وكل حركة إنما تجري بقدر من الله . فما لم يأذن به الله لا يكون ، ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور . .
قل لهم مستنكرا دعوة غير الله ، وعبادة غير الله ، والاستعانة بغير الله ، والخضوع لغير الله . وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه . . وسواء كان ذلك ردا على ما كان يقترحه المشركون على النبي [ ص ] من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه ! أو كان ذلك استنكارا مبتدأ لما عليه المشركون ، وإعلانا للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي [ ص ] والمؤمنين . . فإن المؤدى في النهاية واحد ؛ وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور ؛ بعيدا عن الموروثات الراسبة ، وبعيدا كذلك عن العرف السائد في البيئة !
ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده ، واتخاذه وحده إلها ، والدينونه له وحده بلا شريك : 1 ( قل : أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا ؟ . .
فهو ارتداد على الأعقاب ؛ ورجوع إلى الوراء ؛ بعد التقدم والارتقاء . .
ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير :
( كالذي استهوته الشياطين في الأرض ) ( . . حيران . . له أصحاب يدعونه إلى الهدى : ائتنًا ) . .
إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد ، ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد ، والآلهة المتعددة من العبيد ! ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال ، فيذهب في التيه . . إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس : ( الذي استهوته الشياطين في الأرض )- ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله - ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه ، فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد - ولو في طريق الضلال ! -
ولكن هناك ، من الجانب الآخر ، أصحاب له مهتدون ، يدعونه إلى الهدى ، وينادون ( ائتنا )- وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء( حيران ) لا يدري أين يتجه ، ولا أي الفريقين يجيب !
إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك ، حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير !
ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرآت هذا النص . . ولكن مجرد تصور . . حتى رأيت حالات حقيقية ، يتمثل فيها هذا الموقف ، ويفيض منها هذا العذاب . . حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه - أيا كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق - ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة ، تحت قهر الخوف والطمع . . ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير . . وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة ، وماذا يعني هذا التعبير !
وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي ، يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس . . يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم :
( قل : إن هدى الله هو الهدى ، وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، وأن أقيموا الصلاة واتقوه )
إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب ، فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية ، والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار ، تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم . .
ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم :
( قل : إن هدى الله هو الهدى ) . .
هو وحدة الهدى - كما يفيد التركيب البياني للجملة - وإنه لكذلك عن يقين . .
وإن البشرية لتخبط في التيه ، كلما تركت هذا الهدى ، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئا من تصوراتها هي ومقولاتها ، وأنظمتها وأوضاعها ، وشرائعها وقوانينها ، وقيمها وموازينها ، بغير( علم )ولا( هدى )ولا ( كتاب منير ) . .
إن " الإنسان " موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه ، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض ، وترقية هذه الحياة . . ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون ، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب ، ومنها غيب عقله هو وروحه ، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف ، والتي تدفعها للعمل هكذا ، وبهذا الانتظام ، وفي هذا الاتجاه .
ومن ثم يحتاج هذا " الإنسان " إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق ، وموازين وقيم ، وأنظمة وأوضاع ، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة . .
وكلما فاء هذا " الإنسان " إلى هدى الله اهتدى . لأن هدى الله هو الهدى . وكلما بعد كلية عنه ، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئا من عنده ضل . لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال . . إذ ليس هنالك نوع ثالث ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ) .
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال - وما تزال كلها تذوق - ما هو " حتمي " في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله . . فهذه هي " الحتمية التاريخية " الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله ، ومن خبر الله ، لا تلك الحتميات المدعاة ! والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله ، لا يحتاج أن ينقب ، فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي ، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان .
ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده ، وعبادته وحده ، ومخافته وتقواه : ( وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) . .
قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى ؛ وأننا - من ثم - أمرنا أن نسلم لرب العالمين . فهو وحده الذي يستسلم له العالمون . فالعوالم كلها مستسلمة له ، فماذا الذي يجعل الإنسان وحده - من بين العالمين - يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين ؟
إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه . . إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله ، وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة ، للنواميس التي وضعها الله لها ؛ وهي لا تملك الخروج عليها ، والإنسان - من ناحية تركيبه العضوي - يستسلم كذلك لهذه النواميس كرها ، ولا يملك الخروج عليها . . فلا يبقى إلاأن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه ، وهو جانب الاختيار . . اختيار الهدى أو الضلال . . ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي ، لاستقام أمره ، وتناسق تكوينه وسلوكه ، وجسمه وروحه ، ودنياه وآخرته
وفي إعلان الرسول [ ص ] والمسلمين معه ، أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا ، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان .
قال السُّدِّي : قال المشركون للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا ، واتركوا دين محمد ، فأنزل الله ، عَزَّ وجل : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا } أي : في الكفر { بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } فيكون مثلُنا مثل الذي { اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ [ حَيْرَانَ ] }{[10834]} يقول : مثلكم ، إن كفرتم بعد الإيمان ، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق ، فضل الطريق ، فحيرته الشياطين ، واستهوته في الأرض ، وأصحابه على الطريق ، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون : " ائتنا فَإنَّا على الطريق " ، فأبى أن
يأتيهم . فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام . رواه ابن جرير .
وقال قتادة : { اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ } أضلته في الأرض ، يعني : استهوته{[10835]} مثل قوله : { تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا } الآية . هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها ، والدعاة الذين يدعون إلى الله ، عَزَّ وجل ، كمثل رجل ضل عن طريق تائها ضالا إذ ناداه مناد : " يا فلان بن فلان ، هلم إلى الطريق " ، وله أصحاب يدعونه : " يا فلان ، هلم إلى الطريق " ، فإن اتبع الداعي الأول ، انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة{[10836]} وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى ، اهتدى إلى الطريق . وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان ، يقول : مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله ، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت ، فيستقبل الهلكة والندامة . وقوله : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ } هم " الغيلان " ، يدعونه باسمه واسم أبيه وجده ، فيتبعها وهو يرى أنه في شيء ، فيصبح وقد ألقته في هلكة ، وربما أكلته - أو تلقيه في مضلة من الأرض ، يهلك فيها عطشا ، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله ، عَزَّ وجل . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ } قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق ، وذلك مثل من يضل بعد أن هدي .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس ، قوله : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ } هو الذي لا يستجيب لهدى الله ، وهو رجل أطاع الشيطان ، وعمل في الأرض بالمعصية ، وجار{[10837]} عن الحق وضل عنه ، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى ، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس ، يقول [ الله ]{[10838]} { إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } والضلال ما يدعو إليه الجن . رواه ابن جرير ، ثم قال : وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ، ويزعمون أنه هدى . قالت : وهذا خلاف ظاهر الآية ؛ فإن الله أخبر أن أصحابه يدعونه إلى الهدى ، فغير جائز أن يكون ضلالا وقد أخبر الله أنه هدى .
وهو كما قال ابن جرير ، وكان{[10839]} سياق الآية يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ، وهو منصوب على الحال ، أي : في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة ، وله أصحاب على المحجة سائرون ، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى . وتقدير الكلام : فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم ، ولو شاء الله لهداه ، ولرد به إلى الطريق ؛ ولهذا قال : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى }
كما قال : { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ }{[10840]} [ الزمر : 37 ] ، وقال : { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ النحل : 37 ] ، وقوله { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : نخلص له العباد{[10841]} وحده لا شريك له .
{ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هانا الله }
استئناف ابتدائي لتأييس المشركين من ارتداد بعض المسلمين عن الدين ، فقد كان المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة . كما ورد في خبر سعيد بن زيد وما لَقي من عُمر بن الخطاب . وقد روي أنّ عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق دعا أباه إلى عبادة الأصنام ، وأنّ الآية نزلت في ذلك ، ومعنى ذلك أنّ الآية نزلت مشيرة إلى ذلك وغيره وإلاّ فإنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة . وحاول المشركون صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الإسلام وهم يُرْضُونه بما أحبّ كما ورد في خبر أبي طالب .
والاستفهام إنكار وتأييس ، وجيء بنون المتكلّم ومعه غيره لأنّ الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلّهم . و { من دون الله } متعلّق ب { ندعوا } . والمراد بما لا ينفع ولا يضرّ الأصنامُ ، فإنَّها حجارة مشاهد عدمُ نفعها وعجزُها عن الضرّ ، ولو كانت تستطيع الضرّ لأضرّت بالمسلمين لأنَّهم خلعوا عبادتها وسفَّهوا أتباعها وأعلنوا حقارتها ، فلمَّا جعلوا عدَم النفع ولا الضرّ علَّة لنفي عبادة الأصنام فقد كنّوا بذلك عن عبادتهم النافع الضارّ وهو الله سبحانه .
وقوله : { ونُردّ على أعقابنا } عطف على { ندعوا } فهو داخل في حيّز الإنكار . والردّ : الإرجاع إلى المكان الذي يؤتى منه ، كقوله تعالى : { رُدّوها عليّ } [ ص : 33 ] .
والأعقاب جمع عَقِب وهي مؤخّر القدم . وعقب كلّ شيء طَرفه وآخره ويقال : رجع على عَقِبه وعلى عَقِبَيْه ونكص على عقبيه بمعنى رجع إلى المكان الذي جاء منه لأنَّه كان جاعلاً إيَّاه وراءه فرَجَع .
وحرف ( على ) فيه للاستعلاء ، أي رجع على طريق جهة عقبه ، كما يقال : رجع وراءه ، ثم استعمل تمثيلاً شائعاً في التَّلبّس بحالة ذميمة كان فارقها صاحبُها ثم عاد إليها وتلبّس بها ، وذلك أنّ الخارج إلى سفر أو حاجة فإنَّما يمشي إلى غرض يريده فهو يمشي القُدُمية فإذا رجع قبل الوصول إلى غرضه فقد أضاع مشيَه ؛ فيمثّل حاله بحال من رجع على عقبيه . وفي الحديث : « اللهمّ أمْض لأصحابي هِجْرتهم ولا تَرُدّهم على أعقابهم » فكذلك في الآية هو تمثيل لحال المرتدّ إلى الشرك بعد أن أسلَم بحال من خرج في مهمّ فرجع على عقبيه ولم يقض ما خرج له . وهذا أبلغ في تمثيل سوء الحالة من أن يُقال : ونرجعُ إلى الكفر بعد الإيمان .
وقد أضيف ( بعد ) إلى { إذْ هدانا } وكلاهما اسم زمان ، فإنّ ( بعد ) يدلّ على الزمان المتأخِّر عن شيء كقوله : { ومن بعد صلاة العشاء } [ النور : 58 ] و ( إذا ) يدلّ على زمان معرّف بشيء ، ف ( إذا ) اسم زمن متصرّف مراد به الزمان وليس مفعولاً فيه . والمعنى بعدَ الزمن الذي هدانا الله فيه ، ونظيره { ربّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } في سورة [ آل عمران : 8 ] .
{ كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا }
ارتقى في تمثيل حالهم لو فُرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدقّ ، بقوله : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } ، وهو تمثيل بهيئة متخيّلة مبنيّة على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسُوسينَ . فالكاف في موضع الحال من الضمير في { نُردّ على أعقابنا } ، أي حال كوننا مشْبهينَ للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكّدة لما في { نردّ على أعقابنا } من معنى التَمثيل بالمرتدّ على أعقابه .
والاستهواء استفعال ، أي طلب هَوى المرء ومحبّتِه ، أي استجلاب هَوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلِب . وقرّبه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية . فقال : استهواه بمعنى أهواه مثل استزلّ بمعنى أزلّ . ووقع في « الكشَّاف » أنَّه استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهب فيها ، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمَّة اللغة ولِم يذكره هو في « الأساس » مع كونه ذكر { كالذي استهوته الشياطين } ولم ينبِّه على هذا مَن جاء بعده .
والعرب يقولون : استهوته الشياطين ، إذا اختطفت الجنّ عقله فسيَّرتْه كما تريد . وذلك قريب من قولهم : سَحَرتْه ، وهم يعتقدون أنّ الغيلان هي سحرة الجنْ ، وتسمَّى السعالي أيضاً ، واحدتُها سَعْلاة ، ويقولون أيضاً : استهامته الجنّ إذا طلبت هُيامه بطاعتها .
وقوله : { في الأرض } متعلّق ب { استهوته } ، لأنَّه يتضمَّن معنى ذهبت به وضلّ في الأرض . g وذلك لأنّ الحالة التي تتوهَّمها العرب استهواء الجنّ يصاحبها التوحّش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكباً رأسه لا ينتصح لأحد ، كما وقع لكثير من مجانينهم ومَن يزعمون أنّ الجنّ اختطفتهم . ومن أشهرهم عَمْرو بن عَدي الأيادي اللخمي ابن أخت جُذيمة بن مالك ملك الحيرة . وجوّز بعضهم أن يكون { في الأرض } متعلِّقاً ب { حَيْران } ، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول .
و { حَيْرانَ } حال من { الذي استهوتْه } ، وهو وصف من الحَيْرة ، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل . يقال : حارَ يحَار إذ تاهَ في الأرض فلم يعلم الطريق . وتطلق مجازاً على التردّد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه ، وانتصب { حيران } على الحال من { الذي } .
وجملة : { له أصحاب } حال ثانية ، أي له رفقة معه حين أصابه استهواء الجنّ . فجملة { يدعونه } صفة ل { أصحاب } .
والدعاء : القول الدالّ على طلب عمل من المخاطب . والهدى : ضدّ الضلال . أي يدعونه إلى ما فيه هدَاه . وإيثارُ لفظ { الهُدى } هنا لما فيه من المناسبة للحالة المشبَّهة . ففي هذا اللفظ تجريد للتمثيلية كقوله تعالى : { فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } في سورة [ البقرة : 17 ] . ولذلك كان لتعقيبه بقوله : قل إنّ هدى الله هو الهدى } وقع بديع . وجوّز في « الكشاف » أن يكون الهدى مستعاراً للطريق المستقيم .
وجملة : { ائتنا } بيان ل { يدعونه إلى الهدى } لأنّ الدعاء فيه معنى القول . فصحّ أن يبيّن بما يقولونه إذا دعَوه ، ولكونها بياناً فُصلت عن التي قبلها ، وإنَّما احتاج إلى بيان الدعاء إلى الهدى لتمكِين التمثيل من ذهن السامع ، لأنّ المجنون لا يخاطب بصريح المقصد فلا يدعى إلى الهدى بما يَفهم منه أنَّه ضالّ لأنّ من خُلق المجانين العناد والمكابرة ، فلذلك يدعونه بما يفهم منه رغبتُهم في صحبته ومحبتُهم إيَّاه ، فيقولون : ايتنا ، حتَّى إذا تمكَّنوا منه أوثقوه وعادوا به إلى بيته .
وقد شبّهت بهذا التمثيل العجيب حالة من فُرض ارتدادُه إلى ضلالة الشرك بعد هدى الإسلام لدعوة المشركين إيَّاه وتركه أصحابه المسلمين الذين يصدّونه عنه ، بحَال الذي فسد عقله باستهواء من الشياطين والجنّ ، فتاه في الأرض بعد أن كان عاقلاً عارفاً بمسالكها ، وترك رفقته العقلاء يدعونه إلى موافقتهم ، وهذا التركيب البديع صالح للتفكيك بأن يشبّه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بها ، بأن يشبه الارتداد بعد الإيمان بذهاب عقل المجنون ، ويشبّه الكفر بالهُيام في الأرض ، ويشبّه المشركون الذين دعَوْهم إلى الارتداد بالشياطين وتُشَبّه دعوة الله الناس للإيمان ونزولُ الملائكة بوحيه بالأصحاب الذين يدعون إلى الهدى . وعلى هذا التفسير يكون { الذي } صادقاً على غير معيّن ، فهو بمنزلة المعرّف بلام الجنس . وروي عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر الصدّيق حين كان كافراً وكان أبوه وأمّه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ، وقد أسلم في صلح الحديبية وحسن إسلامه .
{ قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين }
جملة : { قل إنّ هدى الله هو الهدى } مستأنفة استئنافَ تكرير لِما أمِر أن يقوله للمشركين حين يدعون المسلمين إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ، وقد روي أنَّهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم اعْبُد آلهتنا زمناً ونعبُدُ إلهك زمناً . وكانوا في خلال ذلك يزعمون أنّ دينهم هدى فلذلك خوطبوا بصيغة القصر . وهي { إنّ هدى الله هو الهدى } فجيء بتعريف الجزأيْن ، وضمير الفصل ، وحرف التوكيد ، فاجتمع في الجملة أربعة مؤكّدات ، لأنّ القصر بمنزلة مؤكِّدَيْن إذ ليس القصر إلاّ تأكيداً على تأكيد ، وضمير الفصل تأكيد ، و ( إنّ ) تأكيد ، فكانت مقتضَى حال المشركين المنكرين أنّ الإسلام هدى .
وتعريف المسند إليه بالإضافة للدلالة على الهدى الوارد من عند الله تعالى ، وهو الدين المُوصى به ، وهو هنا الإسلام ، بقرينة قوله { بعد إذْ هدانا الله } . وقد وصف الإسلام بأنَّه { هُدى الله } في قوله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتَّى تتّبع ملَّتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى } في سورة [ البقرة : 120 ] ، أي القرآن هو الهدى لا كُتُبُهم .
وتعريف المسند بلام الجنس للدلالة على قصر جنس الهدى على دين الإسلام ، كما هو الغالب في تعريف المسند بلام الجنس ، وهو قصر إضافي لأنّ السياق لردّ دعوة المشركين إيَّاهم الرجوع إلى دينهم المتضمِّنة اعتقادهم أنَّه هدى ، فالقصر للقلب إذ ليسوا على شيء من الهدى ، فلا يكون قصر الهدى على هدى القرآن بمعنى الهدى الكامل ، بخلاف ما في سورة البقرة .
وجملة : وأمِرْنا لِنُسْلِم } عطف على المقول . وهذا مقابل قوله { قل إنِّي نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } [ الأنعام : 56 ] ، وقوله { قل أندعو من دون الله } الآية .
واللام في { لِنُسْلِم } أصلها للتعليل وتنوسي منها معنى التعليل فصارت لمجرّد التأكيد . وهي اللام التي يكثر ورودها بعد مادّة الأمر ومادّة الإرادة . وسمَّاها بعضهم لام أنْ بفتح الهمزة وسكون النون قال الزجَّاج : العرب تقول : أمَرْتُك بأنْ تفعل وأمرتُك أن تفعل وأمرتك لِتَفعل . فالباء للإلصاق ، وإذا حذفوها فهي مقدّرة مع ( أنْ ) . وأمَّا أمرتك لتفعل ، فاللام للتعليل ، فقد أخبر بالعلَّة التي لها وقَع الأمر . يعني وأغنت العلَّة عن ذكر المعلّل . وقيل : اللام بمعنى الباء ، وقيل : زائدة ، وعلى كلّ تقدير ف ( أنْ ) مضرة بعدها ، أي لأجل أن نُسْلِمَ . والمعنى : وأمرنا بالإسلام ، أي أمرنا أن أسلموا . وتقدّم الكلام على هذه اللام عند قوله تعالى : { يريد الله ليُبيّن لكم } في سورة [ النساء : 26 ] .
واللام في قوله : { لربّ العالمين } متعلِّقة ب { نسلم } لأنَّه معنى تخلّص له ، قال : { فقل أسلمت وجهي لله } . وقد تقدّم القول في معنى الإسلام عند قوله تعالى : { إذ قال له ربّه أسْلِم قال أسلمت لربّ العالمين } في سورة [ البقرة : 131 ] .
وفي ذكر اسم الله تعالى بوصف الربوبية لجميع الخلق دون اسمه العَلَم إشارة إلى تعليل الأمر وأحقِّيّته .