{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي : النساء اللاتي طلقهن أزواجهن { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } أي : ينتظرن ويعتددن مدة { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } أي : حيض ، أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك ، مع أن الصحيح أن القرء ، الحيض ، ولهذه العدةِ عِدّةُ حِكَمٍ ، منها : العلم ببراءة الرحم ، إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء ، علم أنه ليس في رحمها حمل ، فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب ، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن { مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } وحرم عليهن ، كتمان ذلك ، من حمل أو حيض ، لأن كتمان ذلك ، يفضي إلى مفاسد كثيرة ، فكتمان الحمل ، موجب أن تلحقه بغير من هو له ، رغبة فيه واستعجالا لانقضاء العدة ، فإذا ألحقته بغير أبيه ، حصل من قطع الرحم والإرث ، واحتجاب محارمه وأقاربه عنه ، وربما تزوج ذوات محارمه ، وحصل في مقابلة ذلك ، إلحاقه بغير أبيه ، وثبوت توابع ذلك ، من الإرث منه وله ، ومن جعل أقارب الملحق به ، أقارب له ، وفي ذلك من الشر والفساد ، ما لا يعلمه إلا رب العباد ، ولو لم يكن في ذلك ، إلا إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه ، وفيه الإصرار على الكبيرة العظيمة ، وهي الزنا لكفى بذلك شرا .
وأما كتمان الحيض ، بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة ، ففيه من انقطاع حق الزوج عنها ، وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر ، كما ذكرنا ، وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض ، لتطول العدة ، فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه ، بل هي سحت عليها محرمة من جهتين :
من كونها لا تستحقه ، ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة ، وربما راجعها بعد انقضاء العدة ، فيكون ذلك سفاحا ، لكونها أجنبية عنه ، فلهذا قال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }
فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الآخر ، وإلا فلو آمن بالله واليوم الآخر ، وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن ، لم يصدر منهن شيء من ذلك .
وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة ، عما تخبر به عن نفسها ، من الأمر الذي لا يطلع عليه غيرها ، كالحيض والحمل ونحوه{[141]} .
ثم قال تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة ، أن يردوهن إلى نكاحهن { إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } أي : رغبة وألفة ومودة .
ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح ، فليسوا بأحق بردهن ، فلا يحل لهم أن يراجعوهن ، لقصد المضارة لها ، وتطويل العدة عليها ، وهل يملك ذلك ، مع هذا القصد ؟ فيه قولان .
الجمهور على أنه يملك ذلك ، مع التحريم ، والصحيح أنه إذا لم يرد الإصلاح ، لا يملك ذلك ، كما هو ظاهر الآية الكريمة ، وهذه حكمة أخرى في هذا التربص ، وهي : أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها ، فجعلت له هذه المدة ، ليتروى بها ويقطع نظره .
وهذا يدل على محبته تعالى ، للألفة بين الزوجين ، وكراهته للفراق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " وهذا خاص في الطلاق الرجعي ، وأما الطلاق البائن ، فليس البعل بأحق برجعتها ، بل إن تراضيا على التراجع ، فلا بد من عقد جديد مجتمع الشروط .
ثم قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة .
ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف ، وهو : العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله ، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة ، والأحوال ، والأشخاص والعوائد .
وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة ، والمعاشرة ، والمسكن ، وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف ، فهذا موجب العقد المطلق .
وأما مع الشرط ، فعلى شرطهما ، إلا شرطا أحل حراما ، أو حرم حلالا .
{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : رفعة ورياسة ، وزيادة حق عليها ، كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }
ومنصب النبوة والقضاء ، والإمامة الصغرى والكبرى ، وسائر الولايات مختص بالرجال ، وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور ، كالميراث ونحوه .
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : له العزة القاهرة والسلطان العظيم ، الذي دانت له جميع الأشياء ، ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه .
ويخرج من عموم هذه الآية ، الحوامل ، فعدتهن وضع الحمل ، واللاتي لم يدخل بهن ، فليس لهن عدة ، والإماء ، فعدتهن حيضتان ، كما هو قول الصحابة رضي الله عنهم ، وسياق الآيات{[142]} يدل على أن المراد بها الحرة .
والآن وقد انتهى السياق إلى الطلاق ، فإنه يأخذ في تفصيل أحكام الطلاق ؛ وما يتبعه من العدة والفدية والنفقة والمتعة . . إلى آخر الآثار المترتبة على الطلاق . .
)والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن - إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر - وبعولتهن أحق بردهن في ذلك - إن أرادوا إصلاحا - ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ، والله عزيز حكيم ) . .
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - أي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف .
يتربصن بأنفسهن . . لقد وقفت أمام هذا التعبير اللطيف التصوير لحالة نفسية دقيقة . . إن المعنى الذهني المقصود هو أن ينتظرن دون زواج جديد حتى تنقضي ثلاث حيضات ، أو حتى يطهرن منها . . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا أخرى بجانب ذلك المعنى الذهني . . إنه يلقي ظلال الرغبة الدافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة . رغبة الأنفس التي يدعوهن إلى التربص بها ، والإمساك بزمامها ، مع التحفز ، والتوفز . الذي يصاحب صورة التربص . وهي حالة طبيعية ، تدفع إليها رغبة المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها أن إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص ، وأنها قادرة على أن تجتذب رجلا آخر ، وأن تنشىء حياة جديدة . . هذا الدافع لا يوجد بطبيعته في نفس الرجل ، لأنه هو الذي طلق ؛ بينما يوجد بعنف في نفس المرأة لأنها هيالتي وقع عليها الطلاق . . وهكذا يصور القرآن الحالة النفسية من خلال التعبير ؛ كما يلحظ هذه الحالة ويحسب لها حسابا . .
يتربصن بأنفسهن هذه الفترة كي يتبين براءة أرحامهن من آثار الزوجية السابقة ؛ قبل أن يصرن إلى زيجات جديدة :
( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر )
لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من حمل أو من حيض . . ويلمس قلوبهن بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن ، ويستجيش كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر . فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن . . وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا . فهناك الجزاء . . هناك العوض عما قد يفوت بالتربص ، وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن ، وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه ، فلا يخفى عليه شيء منه . . فلا يجوز كتمانه عليه - سبحانه - تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن .
هذا من جهة . ومن الجهة الأخرى ، فإنه لا بد من فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة . فقد يكون في قلوبهما رمق من ود يستعاد ، وعواطف تستجاش ، ومعان غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء ! فإذا سكن الغضب ، وهدأت الشرة ، واطمأنت النفس ، استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق ، وبرزت معان أخرى واعتبارات جديدة ، وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة ، أو عاودها التجمل رعاية لواجب من الواجبات . والطلاق أبغض الحلال إلى الله ، وهو عملية بتر لا يلجأ إليها إلا حين يخيب كل علاج . . [ وفي مواضع أخرى من القرآن تذكر المحاولات التي ينبغي أن تسبق إيقاع الطلاق . كما أن إيقاع الطلاق ينبغي أن يكون في فترة طهر لم يقع فيها وطء . وهذا من شأنه أن يوجد مهلة بين اعتزام الطلاق وإيقاعه في أغلب الحالات . إذ ينتظر الزوج حتى تجيء فترة الطهر ثم يوقع الطلاق . . إلى آخر تلك المحاولات ] . .
والطلقة الأولى تجربة يعلم منها الزوجان حقيقة مشاعرهما . فإذا اتضح لهما في أثناء العدة أن استئناف الحياة مستطاع ، فالطريق مفتوح :
( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ) . .
في ذلك . . أي في فترة الانتظار والتربص وهي فترة العدة . . إن أرادوا إصلاحا بهذا الرد ؛ ولم يكن القصد هو اعنات الزوجة ، وإعادة تقييدها في حياة محفوفة بالأشواك ، انتقاما منها ، أو استكبارا واستنكافا أن تنكح زوجا آخر .
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف . .
وللمطلقات من الحقوق في هذه الحالة مثل الذي عليهن من الواجبات ، فهن مكلفات أن يتربصن وألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، وأزواجهن مكلفون بأن تكون نيتهم في الرجعة طيبة لا ضرر فيها عليهن ولا ضرار . وذلك إلى ما سيأتي من أمر النفقة في مقابل الاحتباس للعدة .
أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة . وقد جعل هذا الحق في يد الرجل لأنه هو الذي طلق ؛ وليس من المعقول أن يطلق هو فيعطي حق المراجعة لها هي ! فتذهب إليه . وترده إلى عصمتها ! فهو حق تفرضه طبيعة الموقف . وهي درجة مقيدة في هذا الموضع ، وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون ، ويستشهدون بها في غير موضعها .
مشعرا بقوة الله الذي يفرض هذه الأحكام وحكمته في فرضها على الناس . وفيه ما يرد القلوب عن الزيغ والانحراف تحت شتى المؤثرات والملابسات .
هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء ، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي : بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ، ثم تتزوج إن شاءت ، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمَة إذا طُلِّقت ، فإنها تعتدّ عندهم بقرءين ، لأنها على النصف من الحرة ، والقُرْء لا يتبعض فكُمّل لها قرءان . ولما رواه ابن جريح عن مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني ، عن القاسم ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " .
رواه أبو داود ، والترمذي وابن ماجة . ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية . وقال الحافظ الدارقطني وغيره : الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه .
ورواه ابن ماجة من طريق عطية العَوْفِي عن ابن عمر مرفوعًا . قال الدارقطني : والصحيح ما رواه سالم ونافع ، عن ابن عمر قوله . وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب . قالوا : ولم يعرف بين الصحابة خلاف . وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ؛ ولأن هذا أمر جِبِلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء ، والله أعلم ، حكى هذا القول الشيخُ أبو عمر بن عبد البر ، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر ، وضعفه .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل - يعني ابن عَيّاش - عن عمرو بن مهاجر ، عن أبيه : أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طُلّقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله ، عز وجل ، حين طلقت أسماء العدة للطلاق ، فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق ، يعني : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } .
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقْرَاء ما هو ؟ على قولين :
أحدهما : أن المراد بها : الأطهار ، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : انتقلت حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر ، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة ، قال الزهري : فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق عروة . وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا : إن الله تعالى يقول في كتابه : " ثلاثة قروء " فقالت عائشة : صدقتم ، وتدرون ما الأقراءُ ؟ إنما الأقراء : الأطهارُ .
وقال مالك : عن ابن شهاب ، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك ، يريد قول عائشة . وقال مالك : عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها . وقال مالك : وهو الأمر عندنا . ورُوي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، وسالم ، والقاسم ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وأبان بن عثمان ، وعطاء ابن أبي رباح ، وقتادة ، والزهري ، وبقية الفقهاء السبعة ، وهو مذهب مالك ، والشافعي [ وغير واحد ، وداود وأبي ثور ، وهو رواية عن أحمد ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] أي : في الأطهار . ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا ، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ؛ ولهذا قال هؤلاء : إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان ] .
واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر - وهو الأعشى - :
ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة *** تَشُدّ لأقصاها عَزِيمَ عَزَائِكا
مُوَرَّثة عدَّا ، وفي الحيّ رفعة *** لما ضاع فيها من قُروء نسائكا
يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام ، حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها .
والقول الثاني : أن المراد بالأقراء : الحيض ، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة ، زاد آخرون : وتغتسل منها . وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يومًا ولحظة . قال الثوري : عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كنا عند عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فجاءته امرأة فقالت : إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [ وقد وضعت مائي ] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي . فقال عمر لعبد الله - يعني ابن مسعود - [ ما ترى ؟ قال ] : أراها امرأته ، ما دون أن تحل لها الصلاة . قال [ عمر : ] وأنا أرى ذلك .
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأبي الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وأنس بن مالك ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وأبي بن كعب ، وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة ، والأسود ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، والشعبي ، والربيع ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، ومكحول ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، أنهم قالوا : الأقراء : الحيض .
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، وحكى عنه الأثرم أنه قال : الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : الأقراء الحيض . وهو مذهب الثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن بن صالح بن حي ، وأبي عبيد ، وإسحاق بن راهويه .
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي ، من طريق المنذر بن المغيرة ، عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي الصلاة أيام أقرائك " . فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض ، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم : مجهول ليس بمشهور . وذكره ابن حبان في الثقات .
وقال ابن جرير : أصلُ القرء في كلام العرب : " الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم " . وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا ، وقد ذهب إليه بعض [ العلماء ] الأصوليين فالله أعلم . وهذا قول الأصمعي : أن القرء هو الوقت . وقال أبو عمرو بن العلاء : العرب تسمي الحيض : قُرْءًا ، وتسمي الطهر : قرءا ، وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا : قرءا . وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر ، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين .
وقوله : { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } أي : من حَبَل أو حيض . قاله ابن عباس ، وابن عُمَر ، ومجاهد ، والشعبي ، والحكم بن عيينة والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغير واحد .
وقوله : { إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } تهديد لهن على قول خلاف الحق . ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن ؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتين ، وتتعذر إقامة البينة غالبًا على ذلك ، فردّ الأمر إليهن ، وتُوُعِّدْنَ فيه ، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة ، أو رغبة منها في تطويلها ، لما لها في ذلك من المقاصد . فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان .
وقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } أي : وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها ، إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير . وهذا في الرجعيات . فأما المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ نزول هذه الآية مطلقة بائن ، وإنما صار ذلك لما حُصروا في الطلقات الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن . وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين ، من استشهادهم على مسألة عود الضمير - هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا ؟ - بهذه الآية الكريمة ، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه ، والله أعلم .
وقوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فلْيؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ، في حجة الوداع : " فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " . وفي حديث بهز بن حكيم ، عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا ؟
قال : " أن تطعمها إذا طعمْتَ ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تُقَبِّح ، ولا تهجر إلا في البيت " . وقال وَكِيع عن بشير بن سليمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ؛ لأن الله يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
وقوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : في الفضيلة في الخُلُق ، والمنزلة ، وطاعة الأمر ، والإنفاق ، والقيام بالمصالح ، والفضل في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] .
وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، حكيم في أمره وشرعه وقدره .
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 228 )
قرأ جمهور الناس «قروء » على وزن فعول ، اللام همزة ، وروي عن نافع شد الواو دون همز ، وقرأ الحسن «ثلاثة قَرْوٍ » بفتح القاف وسكون الراء وتنوين الواو خفيفة ، وحكم هذه الآية مقصده الاستبراء لا أنه عبادة ، ولذلك خرجت منه من لم يبن بها . بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة ، و { المطلقات } لفظ عموم يراد به الخصوص في المدخول بهن ، ولم تدخل في العموم المطلقة قبل البناء ولا الحامل ولا التي لم تحض ولا القاعد( {[2161]} ) ، وقال قوم : تناولهن العموم ثم نسخن ، وهذا ضعيف فإنما الآية فيمن تحيض ، وهو عرف النساء وعليه معظمهن ، فأغنى ذلك عن النص عليه ، والقرء في اللغة الوقت المعتاد تردده ، وقرء النجم وقت طلوعه ، وكذلك وقت أفوله وقرء الريح وقت هبوبها ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]
يا رب ذي ضغن على فارض . . . له قروء كقروء الحائض
أراد وقت غضبه( {[2162]} ) ، فالحيض على هذا( {[2163]} ) يسمى قرءاً ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اتركي الصلاة أيام اقرائك »( {[2164]} ) ، أي أيام حيضك ، وكذلك على هذا النظر يسمى الطهر قرءاً ، لأنه وقت معتاد تردده يعاقب الحيض ، ومنه قول الأعشى( {[2165]} ) :
أفي كلّ عامٍ أنْتَ جاشِمُ غزوةِ . . . تَشُدُّ لأقْصَاها عَزِيمَ عَزَائِكَا
مورثة مالاً وفي الحي رفعة . . . بما ضاع فيها من قروء نسائكا( {[2166]} )
أي من أطهارهن ، وقال قوم : القرء مأخوذ من قرء الماء في الحوض ، وهو جمعه ، فكأن الرحم تجمع الدم وقت الحيض والجسم يجمعه وقت الطهر ، واختلف أيهما أراد الله تعالى بالثلاثة التي حددها للمطلقة ، فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس والضحاك ومجاهد والربيع وقتادة وأصحاب الرأي وجماعة كبيرة من أهل العلم : المراد الحيض ، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة ، وقال بعض من يقول بالحيض إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة قبل الغسل ، هذا قول سعيد بن جبير وغيره ، وقالت عائشة وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم سليمان بن يسار ومالك : المراد الأطهار ، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ، ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة ثم ثالثاً بعد حيضة ثانية ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة ، فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء ، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر . وقول ابن القاسم ومالك إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة . وهو مذهب زيد بن ثابت وغيره ، وقال أشهب : لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض لئلا يكون دفعة دم من غير الحيض ، واختلف المتأولون في المراد بقوله { ما خلق } فقال ابن عمر ومجاهد والربيع وابن زيد والضحاك وهو الحيض والحبل جميعاً( {[2167]} ) ، ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه ، فإذا قالت المطلقة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع ، وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه ، فأضرت به ، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا يرتجع حتى تتم العدة ويقطع الشرع حقه ، وكذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقه من الارتجاع ، وقال قتادة : «كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية » ، وقال السدي : «سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق امرأته سألها أبها حمل ؟ مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها ، فأمرهن الله بالصدق في ذلك » .
وقال إبراهيم النخعي وعكرمة : المراد ب { ما خلق } الحيض ، وروي عن عمر وابن عباس أن المراد الحمل ، والعموم راجح ، وفي قوله تعالى : { ولا يحل لهن } ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر( {[2168]} ) ، ولو كان الاستقصاء مباحاً لم يكن كتم ، وقرأ مبشر بن عبيد «في أرحامهُن » بضم الهاء( {[2169]} ) ، وقوله { إن كان يؤمنّ بالله واليوم الآخر } الآية ، أي حق الإيمان فإن ذلك يقتضي أن لا يكتمن الحق ، وهذا كما تقول : إن كنت حراً فانتصر ، وأنت تخاطب حراً ، وقوله { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً } ، البعل : الزوج ، وجمعه على بعولة شاذ لا ينقاس . لكن هو المسموع . وقال قوم : الهاء فيه دالة على تأنيث الجماعة ، وقيل : هي هاء تأنيث دخلت على بعول . وبعول لا شذوذ فيه . وقرأ مسعود «بردتهن » بزيادة تاء ، وقرأ مبشر بن عبيد «بردهُن » بضم الهاء ، ونص الله تعالى بهذه الآية على أن للزوج أن يرتجع امرأته المطلقة ما دامت في العدة ، والإشارة ب { ذلك } هي إلى المدة ، ثم اقترن بما لهم من الرد شرط إرادة الإصلاح دون المضارة ، كما تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن ، وهذا بيان الأحكام التي بين الله تعالى وبين عباده في ترك النساء الكتمان وإرادة الرجال الإصلاح ، فإن قصد أحد بعد هذا إفساداً أو كتمت امرأة ما في رحمها فأحكام الدنيا على الظاهر ، والبواطن إلى الله تعالى يتولى جزاء كل ذي عمل .
وتضعف هذه الآية قول من قال في المولي : إن بانقضاء الأشهر الأربعة تزول العصمة بطلقة بائنة لا رجعة فيها ، لأن أكثر ما تعطي ألفاظ القرآن أن ترك الفيء في الأشهر الأربعة هو عزم الطلاق ، وإذا كان ذلك فالمرأة من المطلقات اللواتي يتربصن وبعولتهن أحق بردهن .
وقوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } ، قال ابن عباس : «ذلك في التزين والتصنع والمؤاتاة » ، وقال الضحاك وابن زيد : ذلك في حسن العشرة وحفظ بعضهم لبعض وتقوى الله فيه ، والآية تعم جميع حقوق الزوجية( {[2170]} ) ، وقوله { وللرجل عليهن درجة } قال مجاهد وقتادة : ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها في الجهاد والميراث وما أشبهه ، وقال زيد بن أسلم وابنه : ذلك في الطاعة ، عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها ، وقال عامر الشعبي : «ذلك الصداق الذي يعطي الرجل ، وأنه يلاعن إن قذف وتحد إن قذفت » ، فقال ابن عباس : «تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق » ، أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه( {[2171]} ) ، وهذا قول حسن بارع ، وقال ابن إسحاق : «الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها » ، وقال ابن زيد : «الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده » ، وقال حميد : «الدرجة اللحية » .
وقال القاضي أبو محمد : وهذا إن صح عنه ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها ، وإذا تأملت هذه الوجوه التي ذكر المفسرون فيجيء من مجموعها درجة تقتضي التفضيل ، و { عزيز } لا يعجزه أحد ، و { حكيم } فيما ينفذه من الأحكام والأمور .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}: ثلاث حيض إذا كانت ممن تحيض.
{ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن}: من الولد. {إن كن يؤمن بالله}: يصدقن بالله بأنه واحد لا شريك له. {واليوم الآخر}: يصدقن بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن.
{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}: الزوج أحق برجعتها وهي حبلى، نزلت في إسماعيل الغفاري وفي امرأته لم تشعر بحملها.
{إن أرادوا إصلاحا}: بالمراجعة فيما بينهما، فعمد إسماعيل فراجعها وهي حبلى، فولدت منه، ثم ماتت ومات ولدها.
{ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}: لهن من الحق على أزواجهن مثل ما لأزواجهن عليهن.
{وللرجال عليهن درجة}: لأزواجهن عليهن فضيلة في الحق وبما ساق إليها من الحق.
{والله عزيز}: في ملكه. {حكيم}: حكم الرحمة عليها في الحبل.
ثم نسختها الآية التي بعدها، فأنزل الله بعد ذلك بأيام يسيرة، فبين للرجل كيف يطلق المرأة، وكيف تعتد، فقال: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف}...
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إنما الأقراء: الأطهار...
قال الله تبارك وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} قال: والأَقْرَاء عندنا ـ والله تعالى أعلم ـ: الأطهار. فإن قال قائل: ما دل على أنها الأطهار، وقد قال غيركم الحيض؟ قيل له: دلالتان: أولهما الكتاب الذي دلت عليه السنة، والآخر: اللسان. فإن قال: وما الكتاب؟ قيل: قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ َالنِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. قال الشافعي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مُرْهُ فَلْيُرَاجعْهَا، ثم لِيُمْسِكْها حتى تَطْهُرَ، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يَمَسَّ، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تُطَلَّقَ لها النساء». قال الشافعي: أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع ابن عمر يذكر طلاق امرأته حائضا. وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم {إِذَا طَلَّقْتُمُ َالنِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُل عِدَّتِهِنَّ أو فِي قُبُل عِدَّتِهِنَّ}»... قال الشافعي: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أن العدة الطهرُ دون الحيض، وقرأ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُل عِدَّتِهِنَّ}: أن تطلق طاهرا، لأنها حينئذ تستقبل عدتها. ولو طلقت حائضا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض... قال الشافعي: والأقراء: الأطهار، والله تعالى أعلم. فإذا طلق الرجل امرأته طاهرا قبل جماع أو بعده، اعتدت بالطهر الذي وقع فيه الطلاق، ولو كان ساعة من نهار. وتعتد بطهرين تامَّين بين حيضتين، فإذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة حلَّت. ولا يؤخذ أبدا في القرء الأول إلا أن يكون فيما بين أن يوقع الطلاق، وبين أول حيض، ولو طلقها حائضا لم تعتد بتلك الحيضة، فإذا طهرت استقبلت القَرْءَ. (الأم: 5/209-210. ون الأم: 5/99-100. ومختصر المزني ص: 217. والرسالة: 562-569. وأحكام الشافعي: 1/246-247.) ــــــــــــــــ
قال الله عز وجل في الآية التي ذكر فيها المطلقات ذوات الأقراء: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية.
فكان بينا في الآية بالتنزيل أنه لا يحل للمطلقة أن تكتم ما في رحمها من الحيض، وذلك أن يحدث للزوج عند خوفه انقضاء عدتها رأيٌ في ارتجاعها، ويكون طلاقه إياها أدبا لها لا إرادة أن تبين منه. فلتعْلمْهُ ذلك لئلا تنقضي عدتها، فلا يكون له سبيل إلى رجعتها، وكان ذلك يحتمل الحمْل مع الحيض، لأن الحمل مما خلق الله تعالى في أرحامهن.
وإذا سأل الرجل امرأته المطلقة: أحامل هي، أم هل حاضت؟ فبينٌ عندي أن لا يحل لها أن تكتمه واحدا منهما، ولا أحدا رأيت أنه يعلمه إياه، وإن لم يسألها، ولا أحد يعلمه إياه، فأحبُّ إليَّ لو أخبرته به وإن لم يسألها، لأنه قد يقع اسم الكتمان على من ظن أنه يخبر الزوج لما له في إخباره من رجعةٍ أو تركٍ كما يقع الكتمان على من كتم شهادة لرجل عنده. ولو كتمته بعد المسألة الحمْلَ والأقراء حتى خلت عدتها كانت عندي آثمة بالكتمان إذا سألت وكتمت، وخفت عليها الإثم إذا كتمته. وإن لم تسأل، ولم يكن له عليها رجعة، لأن الله عز وجل إنما جعلها له حتى تنقضي عدتها، فإذا انقضت عدتها فلا رجعة له عليها... عن ابن جريج، أنه قال لعطاء: ما قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَّكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} قال: الولد لا تكتمه ليرغب فيها، وما أدري لعل الحيضة معه... [وعنه أيضا] أن مجاهدا قال في قول الله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَّكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} المرأة المطلقة لا يحل لها أن تقول أنا حبلى وليست بحبلى، ولا لست بحبلى وهي حبلى، ولا أنا حائض وليست بحائض، ولا لست بحائض وهي حائض. قال الشافعي رحمه الله تعالى: وهذا ـ إن شاء الله تعالى ـ كما قال مجاهد لِمَعَانٍ منها: أن لا يحل الكذب، والآخر أن لا تكتمه الحبل والحيض لعله يرغب فيراجع، ولا تدَّعيهما لعله يراجع وليست له حاجة بالرجعة لولا ما ذكرت من الحمل والحيض، فتغُرُّهُ والغرورُ لا يجوز...
عن ابن جريج، أنه قال لعطاء: أرأيت إن أرسل إليها فأراد ارتجاعها فقالت: قد انقضت عدتي وهي كاذبة، فلم تزل تقوله حتى انقضت عدتها؟ قال: لا وقد خرجت. قال الشافعي: هذا كما قال عطاء ـ إن شاء الله تعالى، وهي آثمة إلا أن يرتجعها، فإن ارتجعها وقد قالت: قد انقضت عدتي ثم أكْذبت نفسها فرجعته عليها ثابتة. ألا ترى أنه إن ارتجعها فقالت: قد انقضت عدتي، فأَحْلفت، فنكلت، فَحَلَفَ، كانت له عليها الرجعة، ولو أَقَرَّتْ أن لم تنقض عدتها، كانت له عليها الرجعة لأنه حق له جحدته ثم أقرَّتْ به. (الأم: 5/213-214. وأحكام الشافعي: 1/247-249. ومعرفة السنن والآثار: 6/36-37.) ــــــــــــــــــ 57- لما جعل الله عز وجل الزوجَ أحقَّ برجعة امرأته في العدة، كان بيِّنًا أن ليس لها منعه الرجعة، ولا لها عوض في الرجعة بحال، لأنها له عليها لا لها عليه، ولا أَمْرَ لها فيما له دُونها. فلما قال الله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} كان بيِّنًا أن الرَّدَّ إنما هو بالكلام دون الفعل من جماع وغيره، لأن ذلك ردٌّ بلا كلام. فلا تثبت رجعة لرجُل على امرأته حتى يتكلم بالرجعة، كما لا يكون نكاح ولا طلاق حتى يتكلم بهما، فإذا تكلم بها في العدة تثبتُ له الرجعة. والكلام بها أن يقول: قد راجعتها، أو قد ارتجعتها، أو قد رددتها إليَّ، أو قد ارتجعتها إليَّ، فإذا تكلم بهذا فهي زوجة. ــــــــــــــ 57- الأم: 5/244. ون معرفة السنن والآثار: 5-507.
قال الله عز وجل: {إِنَ اَرَادُوا إِصْلَاحًا} يقال: إصلاح الطلاق بالرجعة، والله أعلم. (أحكام الشافعي: 1/225.) ـــــــــــــــــ
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ اَلذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال الشافعي: وجماع المعروف بين الزوجين كَفُّ المكروه، وإعْفَاء صاحب الحق من المَؤُنَةِ في طَلَبِه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيُّهُما مَطَلَ بتأخيره فَمَطْلُ الغني ظلم. (مختصر المزني: 184. ون أحكام الشافعي: 1/204. ومناقب الشافعي: 1/291.) ـــــــــــــــــ
قال جل وعلا: {وَلَهُنَّ مِثْلُ اَلذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فجعل الله للزوج على المرأة، وللمرأة على الزوج حقوقا في كتابه وعلى لسان نبيه مفسرة ومُجْمَلَةً، ففهمها العرب الذين خوطبوا بلسانهم على ما يعرفون من معاني كلامهم... والله نسأل الرشد والتوفيق، وأقل ما يجب في أمره بالعشْرةِ بالمعروف أن يؤدي الزوج إلى زوجته ما فرض الله لها عليه من نفقة، وكسوةٍ، وترك ميْلٍ ظاهر، فإنه يقول جل وعلا: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}. وجماع المعروف: إتيان ذلك بما يحسن لك ثوابه، وكفُّ المكروه. (الأم: 5/106. ون الأم: 5/86-87. والأم: 5/194. وأحكام الشافعي: 1/203-204.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره: والمطلقات اللواتي طلقن بعد ابتناء أزواجهن بهن، وإفضائهم إليهن، إذا كن ذوات حيض وطهر، يتربصن بأنفسهن عن نكاح الأزواج ثلاثة قروء.
واختلف أهل التأويل في تأويل القُرء؛ فقال بعضهم: هو الحيض.
وقال آخرون: بل القُرء الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به: الطهر. والقُرء في كلام العرب: جمعه قروء، وقد تجمعه العرب أقراء، يقال في أفعل منه: أقرأت المرأة: إذا صارت ذات حيض وطهر، فهي تقرئ إقراء. وأصل القرء في كلام العرب: الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم، ولذلك قالت العرب: أقرأت حاجة فلان عندي، بمعنى دنا قضاؤها، وجاء وقت قضائها، وأقرأ النجم: إذا جاء وقت أفوله، وأقرأ: إذا جاء وقت طلوعه، وقيل: أقرأت الريح: إذا هبت لوقتها، ولذلك سمى بعض العرب وقت مجيء الحيض قرءا، إذا كان دما يعتاد ظهوره من فرج المرأة في وقت، وكمونه في آخر، فسمي وقت مجيئه قرءا، كما سمى الذين سموا وقت مجيء الريح لوقتها قرءا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: «دَعِي الصّلاةَ أيّامَ أقْرائِكِ» بمعنى: دعي الصلاة أيام إقبال حيضك. وسمى آخرون من العرب وقت مجيء الطهر قرءا، إذ كان وقت مجيئه وقتا لإدبار الدم دم الحيض، وإقبال الطهر المعتاد مجيئه لوقت معلوم... ولما وصفنا من معنى القرء أشكل تأويل قول الله:"وَالمُطَلّقاتُ يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ" على أهل التأويل، فرأى بعضهم أن الذي أمرت به المرأة المطلقة ذات الأقراء من الأقراء أقراء الحيض، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه، فأوجب عليها تربص ثلاث حيض بنفسها عن خطبة الأزواج. ورأى آخرون أن الذي أمرت به من ذلك إنما هو أقراء الطهر، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه، فأوجب عليها تربص ثلاث أطهار. فإذ كان معنى القرء ما وصفنا لما بينا، وكان الله تعالى ذكره قد أمر المريد بطلاق امرأته أن لا يطلقها إلا طاهرا غير مجامعة، وحرم عليه طلاقها حائضا، كان اللازم للمطلقة المدخول بها إذا كانت ذات أقراء تربص أوقات محدودة المبلغ بنفسها عقيب طلاق زوجها إياها أن تنظر إلى ثلاثة قروء بين طهري كل قرء منهنّ قرء، هو خلاف ما احتسبته لنفسها قروءا تتربصهن. فإذا انقضين، فقد حلت للأزواج، وانقضت عدتها وذلك أنها إذا فعلت ذلك، فقد دخلت في عداد من تربص من المطلقات بنفسها ثلاثة قروء بين طهري كل قرء منهنّ قرء له مخالف، وإذا فعلت ذلك كانت مؤدية ما ألزمها ربها تعالى ذكره بظاهر تنزيله. فقد تبين إذا إذ كان الأمر على ما وصفنا أن القرء الثالث من أقرائها على ما بينا الطهر الثالث، وأن بانقضائه ومجيء قرء الحيض الذي يتلوه انقضاء عدتها.
فإن ظنّ ذو غباوة إذ كنا قد نسمي وقت مجيء الطهر قرءا، ووقت مجيء الحيض قرءا أنه يلزمنا أن نجعل عدة المرأة منقضية بانقضاء الطهر الثاني، إذ كان الطهر الذي طلقها فيه، والحيضة التي بعده، والطهر الذي يتلوها أقراء كلها فقد ظن جهلاً، وذلك أن الحكم عندنا في كل ما أنزله الله في كتابه على ما احتمله ظاهر التنزيل ما لم يبين الله تعالى ذكره لعباده، أن مراده منه الخصوص، إما بتنزيل في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا خصّ منه البعض، كان الذي خص من ذلك غير داخل في الجملة التي أوجب الحكم بها، وكان سائرها على عمومها، كما قد بينا في كتابنا: «كتاب لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام» وغيره من كتبنا.
فالأقراء التي هي أقراء الحيض بين طهري أقراء الطهر غير محتسبة من أقراء المتربصة بنفسها بعد الطلاق لإجماع الجميع من أهل الإسلام أن الأقراء التي أوجب الله عليها تربصهن ثلاثة قروء، بين كل قرء منهن أوقات مخالفات المعنى لأقرائها التي تربصهن، وإذ كن مستحقات عندنا اسم أقراء، فإن ذلك من إجماع الجميع لم يجز لها التربص إلا على ما وصفنا قبل.
"وَالمُطَلّقاتُ": والمخليات السبيل غير ممنوعات بأزواج ولا مخطوبات... وقد بينا أن التربص إنما هو التوقف عن النكاح، وحبس النفس عنه.
"وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أرْحامِهِنّ إنْ كُنّ يُؤمِنّ باللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ": اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: تأويله: ولا يحلّ لهنّ، يعني للمطلقات أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض إذا طلقن، حرم عليهنّ أن يكتمن أزواجهنّ الذين طلقوهن في الطلاق الذي عليهم لهن فيه رجعة يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرجعة عليهن... عن ابن شهاب، قال: بلغنا أن ما خلق في أرحامهن الحمل، وبلغنا أنه الحيضة، فلا يحلّ لهنّ أن يكتمن ذلك لتنقضي العدة ولا يملك الرجعة إذا كانت له.
وقال آخرون: هو الحيض، غير أن الذي حرّم الله تعالى ذكره عليها كتمانه فيما خلق في رحمها من ذلك هو أن تقول لزوجها المطلق وقد أراد رجعتها قبل الحيضة الثالثة: قد حضت الحيضة الثالثة كاذبة، لتبطل حقه بقيلها الباطل في ذلك.
وقال آخرون: بل المعنى الذي نهيت عن كتمانه زوجها المطلق الحبل والحيض جميعا.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الحبل. ثم اختلف قائلو ذلك في السبب الذي من أجله نهيت عن كتمان ذلك الرجل، فقال بعضهم: نهيت عن ذلك لئلا تبطل حقّ الزوج من الرجعة إذا أراد رجعتها قبل وضعها وحملها. وقال آخرون: السبب الذي من أجله نهين عن كتمان ذلك أنهن في الجاهلية كنّ يكتمنه أزواجهنّ خوف مراجعتهم إياهن حتى يتزوّجن غيرهم، فيُلحق نَسَبُ الحمل الذي هو من الزوج المطلّق بمن تزوجته فحرّم الله ذلك عليهن.
وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله نهين عن كتمان ذلك، هو أن الرجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها هل بها حمل لكيلا يطلقها، وهي حامل منه للضرر الذي يلحقه وولده في فراقها إن فارقها، فأمرن بالصدق في ذلك ونهين عن الكذب. وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: الذي نهيت المرأة المطلقة عن كتمانه زوجها المطلقها تطليقة أو تطليقتين مما خلق الله في رحمها الحيض والحبل لأنه لا خلاف بين الجميع أن العدة تنقضي بوضع الولد الذي خلق الله في رحمها كما تنقضي بالدم إذا رأته بعد الطهر الثالث في قول من قال: القرء: الطهر، وفي قول من قال: هو الحيض إذا انقطع من الحيضة الثالثة فتطهرت بالاغتسال. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره إنما حرم عليهن كتمان المطلق الذي وصفنا أمره ما يكون بكتمانهن إياه بُطولُ حقه الذي جعله الله له بعد الطلاق عليهن إلى انقضاء عددهن، وكان ذلك الحق يبطل بوضعهن ما في بطونهن إن كنّ حوامل، وبانقضاء الأقراء الثلاثة إن كنّ غير حوامل، علم أنهنّ منهيات عن كتمان أزواجهنّ المطلقين من كل واحد منهما أعني من الحيض والحبل مثل الذي هنّ منهيات عنه من الاَخر، وأن لا معنى لخصوص من خص بأن المراد بالآية من ذلك أحدهما دون الاَخر، إذا كان جميع مما خلق الله في أرحامهن، وأن في كل واحدة منهما من معنى بطول حق الزوج بانتهائه إلى غاية مثل ما في الاَخر. ويسأل من خص ذلك فجعله لأحد المعنيين دون الاَخر عن البرهان على صحة دعواه من أصل أو حجة يجب التسليم لها، ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله.
وأما الذي قاله السدي من أنه معني به نهي النساء كتمان أزواجهن الحبل عند إرادتهم طلاقهن، فقول لما يدل عليه ظاهر التنزيل مخالف، وذلك أن الله تعالى ذكره قال: "وَالمُطَلّقاتُ يَتَرَبَصْنَ بأنْفُسِهنّ ثَلاثَةَ قُرُوء وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أرْحامِهنّ "بمعنى: ولا يحل أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الثلاثة القروء إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر تحريم ذلك عليهن بعد وصفه إياهن بما وصفهن به من فراق أزواجهن بالطلاق، وإعلامهن ما يلزمهن من التربص معرّفا لهن بذلك ما يحرم عليهن وما يحلّ، وما يلزمهن من العدة ويجب عليهن فيها، فكان مما عرّفهن أن من الواجب عليهن أن لا يكتمن أزواجهن الحيض والحبل الذي يكون بوضع هذا وانقضاء هذا إلى نهاية محدودة انقطاع حقوق أزواجهن ضرار منهن لهم، فكان نهيه عما نهاهن عنه من ذلك بأن يكون من صفة ما يليه قبله ويتلوه بعده، أولى من أن يكون من صفة ما لم يجر له ذكر قبله.
فإن قال قائل: ما معنى قوله: "إنْ كُنّ يُؤْمِنّ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِر" أو يحلّ لهن كتمان ذلك أزواجهن إن كنّ لا يؤمنّ بالله ولا باليوم الاَخر حتى خص النهي عن ذلك المؤمنات بالله واليوم الآخر؟ قيل: معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه، وإنما معناه: أن كتمان المرأة المطلقة زوجها المطلقها ما خلق الله تعالى في رحمها من حيض وولد في أيام عدتها من طلاقه ضرارا له ليس من فعل من يؤمن بالله واليوم الاَخر ولا من أخلاقه، وإنما ذلك من فعل من لا يؤمن بالله ولا باليوم الاَخر وأخلاقهن من النساء الكوافر فلا تتخلقن أيتها المؤمنات بأخلاقهن، فإن ذلك لا يحل لكن إن كنتن تؤمن بالله واليوم الاَخر وكنتنّ من المسلمات لا أن المؤمنات هن المخصوصات بتحريم ذلك عليهنّ دون الكوافر، بل الواجب على كل من لزمته فرائض الله من النساء اللواتي لهن أقراء إذا طلقت بعد الدخول بها في عدتها أن لا تكتم زوجها ما خلق الله في رحمها من الحيض والحبل.
"وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ في ذَلِكَ إنْ أَرادُوا إصْلاَحا": والبعولة جمع بعل: وهو الزوج للمرأة.
وأما تأويل الكلام، فإنه: أزواج المطلقات اللاتي فرضنا عليهنّ أن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، وحرمنا عيلهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، أحق وأولى بردّهن إلى أنفسهم في حال تربصهن إلى الأقراء الثلاثة، وأيام الحبل، وارتجاعهن إلى حبالهن منهم بأنفسهن أن يمنعهن من أنفسهن ذلك. فإن قال لنا قائل: فما لزوج طلق واحدة أو اثنتين بعد الإفضاء إليها عليها رجعة في أقرائها الثلاثة، إلا أن يكون مريدا بالرجعة إصلاح أمرها وأمره؟ قيل: أما فيما بينه وبين الله تعالى فغير جائز إذا أراد ضرارها بالرجعة لا إصلاح أمرها وأمره مراجعتها. وأما في الحكم فإنه مقضيّ له عليها بالرجعة نظير ما حكمنا عليه ببطول رجعته عليها لو كتمته حملها الذي خلقه الله في رحمها أو حيضها حتى انقضت عدتها ضرارا منها له، وقد نهى الله عن كتمانه ذلك، فكان سواء في الحكم في بطول رجعة زوجها عليها وقد أثمت في كتمانها إياه ما كتمته من ذلك حتى انقضت عدتها هي والتي أطاعت الله بتركها كتمان ذلك منه، وإن اختلفا في طاعة الله في ذلك ومعصيته، فكذلك المراجع زوجته المطلقة واحدة أو ثنتين بعد الإفضاء إليها وهما حران، وإن أراد ضرار المراجعة برجعته فمحكوم له بالرجعة وإن كان آثما برأيه في فعله ومقدما على ما لم يبحه الله له، والله ولّي مجازاته فيما أتى من ذلك. فأما العباد فإنهم غير جائز لهم الحول بينه وبين امرأته التي راجعها بحكم الله تعالى ذكره له بأنها حينئذ زوجته، فإن حاول ضرارها بعد المراجعة بغير الحقّ الذي جعله الله له أخذ لها الحقوق التي ألزم الله تعالى ذكره الأزواج للزوجات حتى يعدو ضرر ما أراد من ذلك عليه دونها، وفي قوله: "وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ في ذَلِكَ" أبين الدلالة على صحة قول من قال: إنّ المؤلي إذا عزم الطلاق فطلق امرأته التي آلى منها أن له عليها الرجعة في طلاقه ذلك، وعلى فساد قول من قال: إن مضّي الأشهر الأربعة عزم الطلاق، وأنه تطليقه بائنة، لأن الله تعالى ذكره إنما أعلم عباده ما يلزمهم إذا آلوا من نسائهم وما يلزم النساء من الأحكام في هذه الآية بإيلاء الرجال وطلاقهم، إذا عزموا ذلك وتركوا الفيء.
"ولَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنّ بالْمَعْرُوفِ": اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: تأويله: ولهنّ من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهنّ لهم من الطاعة فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها. وقال آخرون: معنى ذلك: ولهنّ على أزواجهن من التصنع والمواتاة مثل الذي عليهنّ لهم في ذلك... عن ابن عباس، قال: إني أحبّ أن أتزين للمرأة، كما أحبّ أن تتزين لي لأن الله تعالى ذكره بقول: "وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِن بالمَعْرُوفِ".
والذي هو أولى بتأويل الآية عندي: وللمطلقات واحدة أو ثنتين بعد الإفضاء إليهنّ على بعولتهن أن لا يراجعوهنّ ضرارا في أقرائهن الثلاثة إذا أرادوا رجعتهن فيه إلا أن يريدوا إصلاح أمرهن وأمرهم فلا يراجعوهن ضرارا، كما عليهنّ لهم إذا أرادوا رجعتهنّ فيهنّ أن لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الولد ودم الحيض ضرارا منهنّ لهم لَيُفْتنَهُم بأنفسهنّ، ذلك أن الله تعالى ذكره نهى المطلقات عن كتمان أزواجهن في أقرائهنّ ما خلق الله في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الاَخر، وجعل أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحا، فحرّم الله على كل واحد منهما مضارّة صاحبه، وعرّف كل واحد منهما ما له وما عليه من ذلك، ثم عقب ذلك بقوله: ولَهُنّ مِثْلَ الّذِي عَلَيْهِنّ بالمَعْرُوفِ فبين أن الذي على كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته مثل الذي له على صاحبه من ذلك.
فهذا التأويل هو أشبه بدلالة ظاهر التنزيل من غيره، وقد يحتمل أن يكون كل ما على كل واحد منها لصاحبه داخلاً في ذلك، وإن كانت الآية نزلت فيما وصفنا، لأن الله تعالى ذكره قد جعل لكل واحد منهما على الاَخر حقا، فلكل واحد منهما على الاَخر من أداء حقه إليه مثل الذي عليه له.
"وَللِرّجال عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ": اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى الدرجة التي جعل الله للرجال على النساء الفضل الذي فضلهم الله عليهن في الميراث والجهاد وما أشبه ذلك. وقال آخرون: بل تلك الدرجة: الإمرة والطاعة. وقال آخرون: تلك الدرجة له عليها بما ساق إليها من الصداق، وإنها إذا قذفته حُدّت، وإذا قذفها لاعن. وقال آخرون: تلك الدرجة التي له عليها إفضاله عليها وأداء حقها إليها، وصفحه عن الواجب له عليها، أو عن بعضه. وقال آخرون: بل تلك الدرجة التي له عليها أن جعل له لحية وحرمها ذلك. وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية هو أن الدرجة التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الموضع الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه، وذلك أن الله تعالى ذكره قال: "وَللرّجالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ" عقيب قوله: "وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهُنّ بالمَعْرُوف" فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهن وغير ذلك من حقوقه. ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهنّ بالفضل إذا تركن أداء بعض ما أوجب الله لهم عليهنّ، فقال تعالى ذكره: "وَللرّجالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ" بتفضلهم عليهن، وصفحهم لهنّ عن بعض الواجب لهم عليهنّ، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله: ما أحبّ أن أستنظف جميع حقي عليها لأن الله تعالى ذكره يقول: "وَللرّجالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ". ومعنى الدرجة: الرتبة والمنزلة، وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل ليكون لهم عليهنّ فضل درجة.
"وَاللّهُ عَزيزٌ حَكِيمٌ": والله عزيز في انتقامه ممن خالف أمره، وتعدّى حدوده، فأتى النساء في المحيض، وجعل الله عرضة لأيمانه أن يبرّ ويتقي، ويصلح بين الناس، وعضل امرأته بإيلائه، وضارّها في مراجعته بعد طلاقه، ولمن كتم من النساء ما خلق الله في أرحامهنّ أزواجهنّ، ونكحن في عددهنّ، وتركن التربص بأنفسهنّ إلى الوقت الذي حدّه الله لهنّ، وركبن غير ذلك من معاصيه، حكيم فيما دبر في خلقه، وفيما حكم وقضى بينهم من أحكامه... وإنما توعد الله تعالى ذكره بهذا القول عباده لتقديمه قبل ذلك بيان ما حرم عليهم أو نهاهم عنه من ابتداء قوله: "وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حتى يُؤْمِنّ" إلى قوله: "وَللرّجالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ" ثم أتبع ذلك بالوعيد ليزدجر أولو النهي، وليذكر أولو الحجا، فيتقوا عقابه، ويحذروا عذابه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولهن مثل الذي عليهن} أي من الحقوق على الأزواج. ثم تحتمل حقوقهن المهر والنفقة، وتحتمل ما أتبع من قوله: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وتحتمل قضاء ما لها من الحوائج خارج البيت مما به قوام دينها ووقايتها عن النار؛ وعليها من الحقوق مقابل الأول البذل له وألا يوطئن فرشهن أحدا، ومقابل الثاني أن يحسن إليهم في البر واللسان والقول بالمعروف الذي فيه تطيب نفسه به كما وصف الحميدة منهن: (من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا دعوتها أجابتك، [وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها)] [ابن ماجه: 1857]، ومقابل الثالث ألا تتلقاه بمكروه، ولا تقابله بما يضجره، ويغضبه مع الخدمة وكفاية الداخل مما به قوام دينه، والله أعلم.
والدرجة... ما جعل قواما عليها وغير ذلك، والله أعلم.
ويحتمل ما لهن من قوله: {فإمساك بمعروف أو تشريح بإحسان} وعليهن بذل حقهم المعروف والإحسان إليهم في ما يبغون من الخدمة والقيام بكفاية داخل البيت مع حفظ ماله عندها، والله أعلم.
قوله تعالى: {إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} ليس بشرط في النهي عن الكتمان، وإنما هو على وجه التأكيد وأنه من شرائط الإيمان، فعليها أن لا تكتم؛ ومن يؤمن ومن لا يؤمن في هذا النهي سواءٌ وهو كقوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النور: 2] وقول مريم: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً} [مريم: 18].
{وبعولتهن أحقّ بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} قد تضمن ضروباً من الأحكام؛
أحدها: أن ما دون الثلاث لا يرفع الزوجية ولا يبطلها وإخبار ببقاء الزوجية معه، لأنه سماه بَعْلاً بعد الطلاق، فدلّ ذلك على بقاء التوارث وسائر أحكام الزوجية ما دامت معتدّة، ودلّ على أن له الرجعة ما دامت معتدة، لأنه قال: {في ذلك} يعني فيما تقدم ذكره من الثلاثة قروء.
ودلّ على أن إباحة هذه الرجعة مقصورة على حال إرادة الإصلاح ولم يُرِدْ بها الإضرار بها، وهو كقوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا}
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {أحق بردهن في ذلك} مع بقاء الزوجية؟ وإنما يقال ذلك فيما قد زال عنه ملكه، فأما فيما هو في ملكه فلا يصح أن يقال بردها إلى ملكه مع بقاء ملكه فيها؟ قيل له: لما كان هناك سببٌ قد تعلق به زوال النكاح عند انقضاء العدة، جاز إطلاقُ اسم الرَّدِّ عليه ويكون ذلك بمعنى المانع من زوال الزوجية بانقضاء العدة، فسمّاه ردّاً إذا كان رافعاً لحكم السبب الذي تعلق به زوال الملك، وهو كقوله تعالى: {فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} وهو ممسك لها في هذه الحال لأنها زوجته، وإنما المراد الرجعة الموجبة لبقاء النكاح بعد انقضاء الحيض التي لو لم تكن الرجعة لكانت مزيلة للنكاح. وهذه الرجعة وإن كانت إباحتها معقودة بشريطة إرادة الإصلاح؛ فإنه لا خلاف بين أهل العلم أنه إذا راجعها مُضَارّاً في الرجعة مريداً لتطويل العدة عليها أن رجعته صحيحة، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} ثم عقبه بقوله تعالى: {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} فلو لم تكن الرجعة صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ظالماً لنفسه بفعلها...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
قوله تعالى {وللرجال عليهن درجة}... وقد علمنا أن الفضل هو الخير نفسه لأن الشيء إذا كان خيرا من شيء آخر فهو أفضل منه بلا شك. وقد قال قائل من يخالفنا في هذا. قال الله تعالى {وليس الذكر كالأنثى}. فقلنا وبالله تعالى التوفيق: فأنت إذا عند نفسك أفضل من مريم، وعائشة، وفاطمة، لأنك ذكر وهؤلاء إناث...
فإن سأل عن معنى الآية قيل له الآية على ظاهرها ولا شك في أن الذكر ليس كالأنثى، لأنه لو كان كالأنثى لكان أنثى، والأنثى أيضا ليست كالذكر، لأن هذه أنثى، وهذا ذكر وليس هذا من الفضل في شيء البتة، وكذلك الحمرة غير الخضرة، والخضرة ليست كالحمرة، وليس هذا من باب الفضل، فإن اعترض معترض بقول الله تعالى {وللرجال عليهن درجة} قيل له: إنما هذا في حقوق الأزواج على الزوجات ومن أراد حمل هذه الآية على ظاهرها لزمه أن يكون كل يهودي، وكل مجوسي، وكل فاسق، من الرجال أفضل من أم موسى، وأم عيسى، وأم إسحاق، عليهم السلام، ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، وهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة، وكذلك قوله تعالى {أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} إنما ذلك في تقصيرهن في الأغلب عن المُحاجة لقلة دُرْبَتِهن وليس في هذا ما يحط الفضل عن ذوات الفضل منهن...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أمَرَ المطلقات بالعِدَّة احتراماً لصحبة الأزواج، يعني إنْ انقطعت العلاقة بينكما فأقيموا على شرط الوفاء لما سَلَفَ من الصحبة، ولا تقيموا غيره مقامه بهذه السرعة؛ فاصبروا حتى يمضي مقدار من المدة. ألا ترى أن غير المدخول بها لم تؤمر بالعدة حيث لم تقم بينهما صحبة؟ ثم قال جلّ ذكره: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ}. يعني إن انقطع بينكما السبب فلا تقطعوا ما أثبت الله من النَّسَبِ. ثم قال جلّ ذكره: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ}. يعني مَنْ سَبَقَ له الصحبة فهو أحق بالرجعة لما وقع في النكاح من الثلمة.
{فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا}. يعني أن يكون القصد بالرجعة استدراك ما حصل من الجفاء لا تطويل العدة عليها بأن يعزم على طلاقها بعدما أرجعها. {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ}. يعني إن كان له عليها حق ما أنفق من المال فلها حق الخدمة لما سلف من الحال. {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. في الفضيلة، ولهن مزية في الضعف وعجز البشرية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والمطلقات} أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء.
فإن قلت: كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضي العموم؟ قلت: بل اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك.
فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت: هو خبر في معنى الأمر. وأصل الكلام: وليتربص المطلقات. وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص. فهو يخبر عنه موجوداً. ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك الله، أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد. ولو قيل: ويتربص المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة.
فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.
فإن قلت: لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء؟ قلت: يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية. ألا ترى إلى قوله: {بِأَنفُسِهِنَّ} وما هي إلا نفوس كثيرة، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء، فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل، فيكون مثل قولهم: ثلاثة شسوع. وقرأ الزهري: «ثلاثة قرو»، بغير همزة
{مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ} ويجوز أن يراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه.
{إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الاخر}: تعظيم لفعلهن، وأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم.
والبعولة:... ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك: بعل حسن البعولة، يعني: وأهل بعولتهن.
{أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ}: برجعتهن. وفي قراءة أبيّ: «بردّتهن»
{َفِي ذلك}: في مدة ذلك التربص.
فإن قلت: كيف جُعلوا أحق بالرجعة، كأن للنساء حقاً فيها؟ قلت: المعنى أنّ الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها، إلا أن لها حقاً في الرجعة. {إِنْ أَرَادُواْ} بالرجعة {إصلاحا} لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارّتهنّ.
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ} ويجب لهنّ من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهنّ {بالمعروف} بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهنّ ولا يكلفونهنّ ما ليس لهم ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه. والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة، لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال. {دَرَجَةً} زيادة في الحق وفضيلة...
السؤال الأول: ما فائدة قوله: {أحق} مع أنه لا حق لغير الزوج في ذلك؛ [و] الجواب من وجهين:
الأول: أنه تعالى قال قبل هذه الآية: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} كان تقدير الكلام: فإنهن إن كتمن لأجل أن يتزوج بهن زوج آخر، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن، وذلك لأنه ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر، فبين أن الزوج الأول أحق منه، وكذا إذا ادعت انقضاء أقرائها ثم علم خلافه فالزوج الأول أحق من الزوج الآخر في العدة
الثاني: إذا كانت معتدة فلها في مضي العدة حق انقطاع النكاح فلما كان لهن هذا الحق الذي يتضمن إبطال حق الزوج جاز أن يقول: {وبعولتهن أحق} من حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرجعة ما هن عليه من العدة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ بالمعروف} هذا من بديع الكلام، إذ حذف شيئاً من الأول أثبت نظيره في الآخر، وأثبت شيئاً في الأول حذف نظيره في الآخر، وأصل التركيب ولهنّ على أزواجهنّ مثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ، فحذفت على أزواجهنّ لإثبات: عليهنّ، وحذف لأزواجهنّ لإثبات لهنّ...
والذي يظهر أن الدرجة هي ما تريده النساء من البر والإكرام والطواعية والتبجيل في حق الرجال، وذلك أنه لما قدّم أن على كل واحد من الزوجين للآخر عليه مثل ما للآخر عليه، اقتضى ذلك المماثلة، فبين أنهما، وإن تماثلا في ما على كل واحد منهما للآخر، فعليهن مزيد إكرام وتعظيم لرجالهنّ، وأشار إلى العلة في ذلك: وهو كونه رجلاً يغالب الشدائد والأهوال، ويسعى دائماً في مصالح زوجته، ويكفيها تعب الاكتساب، فبإزاء ذلك صار عليهنّ درجة للرجل في مبالغة الطواعية، وفيما يفضي إلى الاستراحة عندها...
{والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ}... ختم الآية بهما لأنه تضمنت الآية ما معناه الأمر في قوله: يتربصنّ، والنهي في قول: ولا يحل لهنّ، والجواز في قوله: وبعولتهنّ أحق، والوجوب في قوله: ولهنّ مثل الذي عليهنّ، ناسب وصفه تعالى بالعزة وهو القهر والغلبة، وهي تناسب التكليف، وناسب وصفه بالحكمة وهي إتقان الأشياء ووضعها على ما ينبغي، وهي تناسب التكليف أيضاً...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم آيتي الإيلاء بالطلاق بين عدته فقال... قال الحرالي: لما ذكر تربص الزوج -سبحانه وتعالى في أمر الطلاق الذي هو أمانته ذكر تربص المرأة في أمر العدة التي هي أمانتها...- فقال: {والمطلقات} أي المدخول بهن بما أفهمه الإيلاء من أن الكلام فيهن غير الحوامل لأن عدتهن بالولادة وغير ذوات الأشهر لصغر أو كبر.
ولما أريد التأكيد لأمرهن بالعدة سبق بعد تأكيده ببنائه على المبتدأ في صيغة الخبر الذي من شأنه أن يكون قد وجد وانقضى إيماء إلى المسارعة إلى امتثاله فقيل: {يتربصن} أي ينتظرن اعتداداً.
ولما كانت النفس داعية إلى الشهوات... و كان التربص عاماً في النفس بالعقد لزوج آخر وفي التعرض له باكتحال وتزين وتعريض بكلام مع البينونة وبغير ذلك خص الأول معبراً لها بالنفس هزاً إلى الاحتياط في كمال التربص والاستحياء مما يوهم الاستعجال فقال: {بأنفسهن} فلا يطمعنها في مواصلة رجل قبل انقضاء العدة.
ولما كان القرء مشتركاً بين الطهر والحيض وكان الأقراء مشتركاً بين جمع كل منهما وكان الطهر مختصاً عند جمع من أهل اللغة بأن يجمع على قروء كان مذكراً يؤنث عدده وكانت الحيضة مؤنثة يذكر عددها دل على أن المراد الإظهار بما يخصه من الجمع وبتأنيث عدده فقال ذاكراً ظرف التربص: {ثلاثة قروء} أي جموع من الدم... وأن المراد بالقروء الأطهار لأنها زمن جمع الدم حقيقة، وأما زمن الحيض فإنما يسمى بذلك لأنه سبب تحقق الجمع، والمشهور من كلام أهل اللغة أن جمع القرء بمعنى الطهر أقراء وقروء، وأن جمعه إذا أطلق على الحيض أقراء فقط؛ وذلك لأن المادة لما كانت للجمع كانت أيام الطهر هي المتحققة بذلك وكان جمع الكثرة أعرف في الجمع كان بالطهر أولى.
قال الحرالي: قروء جمع قرء وهو الحد الفاصل بين الطهر والحيض الذي يقبل الإضافة إلى كل واحد منهما، ولذلك ما تعارضت في تفسير لغته تفاسير اللغويين واختلف في معناه أقوال العلماء لخفاء معناه بما هو حد بين الحالين كالحد الفاصل بين الظل والشمس فالقروء الحدود، وذلك حين تطلق المرأة لقبل عدتها في طهر لم تمس فيه ليطلقها على ظهور براءة من علقتهما لئلا يطلق ما لم تنطلق عنه، فإذا انتهى الطهر وابتدأ الحيض كان ما بينهما قرءاً لأن القرء استكمال جمع الحيض حين يتعفن فما لم ينته إلى الخروج لم يتم قرءاً، فإذا طهرت الطهر الثاني وانتهى إلى الحيض كانا قرءين، فإذا طهرت الطهر الثالث وانتهى إلى الحيض شاهد كمال القرء كان ثلاثة أقراء، فلذلك يعرب معناه عن حل المرأة عند رؤيتها الدم من الحيضة الثالثة لتمام عدة الأقراء الثلاثة، فيوافق معنى من يفسر القرء بالطهر ويكون أقرب من تفسيره بالحيض فأمد الطهر ظاهراً هو أمد الاستقراء للدم باطناً فيبعد تفسيره بالحيض عما هو تحقيقه من معنى الحد بعداً ما...
{ولا يحل لهن} أي المطلقات {أن يكتمن ما خلق الله} أي الذي له الأمر كله من ولد أو دم {في أرحامهن} جمع رحم. قال الحرالي: وهو ما يشتمل على الولد من أعضاء التناسل يكون فيه تخلقه من كونه نطفة إلى كونه خلقا آخر... وليس فيه دليل على أن الحمل يعلم، إنما تعلم أماراته.
ولما كان معنى هذا الإخبار النهي ليكون نافياً للحل بلفظه مثبتاً للحرمة بمعناه تأكيداً له فكان التقدير: ولا يكتمن، قال مرغباً في الامتثال مرهباً من ضده:
{إن كنّ يؤمن بالله} أي الذي له جميع العظمة {واليوم الآخر} الذي تظهر فيه عظمته أتم ظهور ويدين فيه العباد بما فعلوا، أي فإن كتمن شيئاً من ذلك دل على عدم الإيمان. قال الحرالي: ففي إشعاره إثبات نوع نفاق على الكاتمة ما في رحمها...
ولما كان الرجعي أخف الطلاق بين الرجعة تنبيهاً على أنه إن كان ولا بد من الطلاق فليكن رجعياً فقال تعالى: {وبعولتهن} أي أزواجهن، جمع بعل. قال الحرالي: وهو الرجل المتهيئ لنكاح الأنثى المتأتى له ذلك، يقال على الزوج والسيد...
ولما كان للمطلقة حق في نفسها قال: {أحق بردهن} أي إلى ما كان لهم عليهن من العصمة لإبطال التربص فله حرمة الاستمتاع من المطلقات بإرادة السراح
{في ذلك} أي في أيام الأقراء فإذا انقضت صارت أحق بنفسها منه بها لانقضاء حقه والكلام في الرجعية بدليل الآية التي بعدها.
ولما أثبت الحق لهم وكان منهم من يقصد الضرر قيده بقوله: {إن أرادوا} أي بالرجعة {إصلاحاً} وهذا تنبيه على أنه إن لم يرد الإصلاح وأرادت هي السراح كان في باطن الأمر زانياً. قال الحرالي: الإصلاح لخلل ما بينهما أحق في علم الله وحكمته من افتتاح وصلة ثانية لأن تذكر الماضي يخل بالحاضر، مما حذر النبي صلى الله عليه وسلم عنه نكاح اللفوت وهي التي لها ولد من زوج سابق، فلذلك كان الأحق إصلاح الأول دون استفتاح وصلة لثان...
ولما اخرج أمر الرجعة عنهن جبرهن بقوله: {ولهن} أي من الحقوق {مثل الذي عليهن} أي في كونه حسنة في نفسه على ما يليق بملك منهما لا في النوع، فكما للرجال الرجعة قهراً فلهن العشرة بالجميل، وكما لهم حبسهن فلهن ما يزيل الوحشة بمن يؤنس ونحو ذلك.
ولما كان كل منهما قد يجور على صاحبه قال: {بالمعروف} أي من حال كل منهما. قال الحرالي: والمعروف ما أقره الشرع وقبله العقل ووافقه كرم الطبع...
ولما ذكر الرجعة له بصيغة الأحق وبين الحق من الجانبين بين فضل الرجال بقوله: {وللرجال} أعم من أن يكونوا بعولة {عليهن} أي أزواجهم {درجة} أي فضل من جهات لا يخفى كالإنفاق والمهر لأن الدرجة المرقى إلى العلو...
ولما أعز سبحانه وتعالى الرجل وصف نفسه بالعزة مبتدئاً بالاسم الأعظم الدال على كل كمال فقال عطفاً على ما تقديره: لأن الله أعزهم عليهن بحكمته:
{والله} أي الذي له كمال العظمة {عزيز} إشارة إلى أنه أعز بل لا عزيز إلا هو ليخشى كل من أعاره عزة سطوته؛ وقال: {حكيم} تنبيهاً على أنه ما فعل ذلك إلا لحكمة بالغة تسلية للنساء وإن ما أوجده بعزته وأتقنه بحكمته لا يمكن نقضه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وفي التعبير بقوله: {يتربصن بأنفسهن} من الإبداع في الإشارة، والنزاهة في العبادة، ما عهد في كل القرآن، ولم يبلغ مراعاة مثله إنسان، فالكلام في المطلقات و هن معرضات للزواج، وخلو من الأزواج، والأنسب فيه ترك التصريح بما يتشوفن إليه، والاكتفاء بالكناية عما يرغبن فيه، على إقرارهن عليه، وعدم إيئاسهن منه، مع اجتناب إخجالهن، وتوقي تنفيرهن أو التنفير منهن، وقد جمع هذه المعاني قوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن} على ما فيه من الإيجاز، الذي هو من مواقع الإعجاز، فأفاد أنه يجب عليهن أن يملكن رغبتهن، ويكففن جماح أنفسهن، إلى تمام المدة الممدودة، والعدة المعدودة، ولكن بطريق الرمز والتلويح، لا بطريق الإبانة والتصريح، فإن التربص في حقيقته وظاهر معناه التريث والانتظار، وهو يتعلق بشيء يتريث عنه، وينتظر زوال المدة المضروبة دونه،
ولولا كلمة {بأنفسهن} لما أفادت الجملة تلك المعاني الدقيقة، والكنايات الرشيقة، وما كان ليخطر على بال إنسان يريد إفادة حكم العدة أن يزيد هذه الكلمة على قوله: {يتربصن ثلاثة قروء} ولو لم تزد لكان الحكم عاريا عن تأديب النفس والحكم على شعورها ووجدانها، ولعل الإرشاد إلى ما تنطوي عليه نفوس النساء من تلك النزعة في ضمن الإخبار عنهن بأن من شأنهن امتلاكها والتربص بها اختيارا، هو أشد فعلا في أنفسهن وأقوى إلزاما لهن أن يكن كذلك طائعات مختارات، كما أن فيه إكراما لهن ولطفا بهن، إذ لم يؤمرن أمرا صريحا، وهذا من الدقائق التي نحمد الله تعالى أن هدانا إلى فهمها، فأنى لأمثالنا من البشر أن يأتوا بمثلها؟!
{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} قال الأستاذ الإمام قدس الله روحه: هذا لطف كبير من الله سبحانه وتعالى وحرص من الشارع على بقاء العصمة الأولى، فإن المرأة إذا طلقت لأمر من الأمور سواء [أكان] بالإيلاء [أم بغيره] فقلما يرغب فيها الرجال، وأما بعلها المطلق فقد يندم على طلاقها، ويرى أن ما طلقها لأجله لا يقتضي مفارقتها دائما، فيرغب في مراجعتها ولاسيما إذا كانت العشرة السابقة بينهما على طريقتها الفطرية، فأفضى كل منهما إلى الآخر بسره حتى عرف عجره وبجره، وتمكنت الألفة بينهما على علاتهما، وإذا كانا قد رزقا الولد فإن الندم على الطلاق يسرع إليهما لأن الحرص الطبيعي على العناية بتربية الولد وكفالته بالاشتراك تغلب بعد زوال أثر المغاضبة العارضة على النفس، وقد يكون أقوى إذا كان الأولاد إناثا، لهذا حكم الله تعالى لطفا منه بعباده بأن بعل المطلقة أي زوجها أحق بردها في ذلك أي في زمن التربص وهي العدة.
{ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} هذه كلمة جليلة جدا جمعت على إيجازها ما لا يؤدى بالتفصيل إلا في سفر كبير فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرا واحدا عبر عنه بقوله: {وللرجال عليهن درجة}... وقد أحال في معرفة ما لهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشرتهم ومعاملاتهم في أهليهم. وما جرى عليه الناس، هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم، فهذه الجملة تعطي الرجل ميزانا يزن به معاملته لزوجته في جميع الشؤون والأحوال، فإذا هم بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه، وليس المراد بالمثل بأعيان الأشياء وأشخاصها، وإنما المراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها، إن لم يكن مثله في شخصه، فهو مثله في جنسه، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متماثلان في اللذات والإحساس والشعور والعقل، أي أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدا يستذله ويستخدمه في مصالحه، ولاسيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين لآخر والقيام بحقوقه.
[و] إذا كان الله قد جعل للنساء على الرجال مثل ما لهم عليهن إلا ما ميزهم به من الرياسة، فالواجب على الرجال بمقتضى كفالة الرياسة أن يعلموهن ما يمكنهن من القيام بما يجب عليهن ويجعل لهن في النفوس احتراما يعين على القيام بحقوقهن ويسهل طريقه، فإن الإنسان بحكم الطبع يحترم من يراه مؤدبا، عالما بما يجب عليه عاملا به، ولا يسهل أن يمتهنه أو يهينه، وإن بدت منه بادرة في حقه رجع على نفسه باللائمة، فكان ذلك زاجرا له عن مثلها.
[فقد] خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات والمعاملات كما خاطب الرجال، وجعل لهن عليهم مثل ما جعله لهم عليهن، وقرن أسماءهن بأسمائهم في آيات كثيرة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنات كما بايع المؤمنين، وأمرهن بتعليم الكتاب والحكمة كما أمرهم، وأجمعت الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن في الدنيا والآخرة، أفيجوز بعد هذا كله أن يحرمهن من العلم بما عليهن من الواجبات والحقوق لربهن ولبعولتهن ولأولادهن ولذي القربى وللأمة والملة؟
[إن] العلم الإجمالي بما يطلب فعله شرط في توجيه النفس إليه، إذ يستحيل أن تتوجه إلى المجهول المطلق، والعلم التفصيلي به المبين لفائدة فعله ومضرة تركه يعد سببا للعناية بفعله والتوقي من إهماله، فكيف يمكن للنساء أن يؤدين تلك الواجبات والحقوق مع الجهل بها إجمالا وتفصيلا؟ وكيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمة نصفها كالبهائم لا يؤدي ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا لأهله ولا للناس، والنصف الآخر قريب من ذلك لا يؤدي إلا قليلا مما يجب عليه من ذلك ويترك الباقي، ومنه إعانة ذلك النصف الضعيف على القيام بما يجب عليه من علم وعمل، أو إلزامه إياه بما له عليه من السلطة والرياسة.
وأما قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} فهو يوجب على المرأة شيئا وعلى الرجل أشياء. ذلك أن هذه الدرجة هي درجة الرياسة والقيام على المصالح المفسرة بقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} (النساء: 34) فالحياة الزوجية حياة اجتماعية ولا بد لكل اجتماع من رئيس لأن المجتمعين لا بد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصالحهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إلى رأيه في الخلاف لئلا يعمل كل على ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة، ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعا بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف، فإن نشزت عن طاعته كان له تأديبها بالوعظ والهجر والضرب غير المبرح إن تعين تأديبا، يجوز ذلك لرئيس الأمة (الخليفة أو السلطان) لأجل مصلحة الجماعة. وأما الاعتداء على النساء لأجل التحكم أو التشفي أو شفاء الغيظ فهو من الظلم الذي لا يجوز بحال، قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها إلى أن قال فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) متفق عليه من حديث ابن عمر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
{يتربصن بأنفسهن}.. لقد وقفت أمام هذا التعبير اللطيف التصوير لحالة نفسية دقيقة.. إن المعنى الذهني المقصود هو أن ينتظرن دون زواج جديد حتى تنقضي ثلاث حيضات، أو حتى يطهرن منها.. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا أخرى بجانب ذلك المعنى الذهني.. إنه يلقي ظلال الرغبة الدافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة. رغبة الأنفس التي يدعوهن إلى التربص بها، والإمساك بزمامها، مع التحفز، والتوفز. الذي يصاحب صورة التربص. وهي حالة طبيعية، تدفع إليها رغبة المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها أن إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص، وأنها قادرة على أن تجتذب رجلا آخر، وأن تنشئ حياة جديدة.. هذا الدافع لا يوجد بطبيعته في نفس الرجل، لأنه هو الذي طلق؛ بينما يوجد بعنف في نفس المرأة لأنها هي التي وقع عليها الطلاق.. وهكذا يصور القرآن الحالة النفسية من خلال التعبير؛ كما يلحظ هذه الحالة ويحسب لها حسابا.. يتربصن بأنفسهن هذه الفترة كي يتبين براءة أرحامهن من آثار الزوجية السابقة؛ قبل أن يصرن إلى زيجات جديدة:
{ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من حمل أو من حيض.. ويلمس قلوبهن بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن، ويستجيش كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر. فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن.. وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا. فهناك الجزاء.. هناك العوض عما قد يفوت بالتربص، وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن، وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه، فلا يخفى عليه شيء منه.. فلا يجوز كتمانه عليه -سبحانه- تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن. هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى، فإنه لا بد من فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة. فقد يكون في قلوبهما رمق من ود يستعاد، وعواطف تستجاش، ومعان غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء! فإذا سكن الغضب، وهدأت الشرة، واطمأنت النفس، استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق، وبرزت معان أخرى واعتبارات جديدة، وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة، أو عاودها التجمل رعاية لواجب من الواجبات. والطلاق أبغض الحلال إلى الله، وهو عملية بتر لا يلجأ إليها إلا حين يخيب كل علاج... كما أن إيقاع الطلاق ينبغي أن يكون في فترة طهر لم يقع فيها وطء. وهذا من شأنه أن يوجد مهلة بين اعتزام الطلاق وإيقاعه في أغلب الحالات. إذ ينتظر الزوج حتى تجيء فترة الطهر ثم يوقع الطلاق.. إلى آخر تلك المحاولات]..
{والله عزيز حكيم}.. مشعرا بقوة الله الذي يفرض هذه الأحكام و حكمته في فرضها على الناس. وفيه ما يرد القلوب عن الزيغ والانحراف تحت شتى المؤثرات والملابسات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على الجملة قبلها لشدة المناسبة وللاتحاد في الحكم وهو التربص، إذ كلاهما انتظار لأجل المراجعة، ولذلك لم يقدم قوله: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] على قوله: {والمطلقات يتربصن} لأن هذه الآي جاءت متناسقة منتظمة على حسب مناسبات الانتقال على عادة القرآن في إبداع الأحكام وإلقائها بأسلوب سَهل لا تسْأَم له النفس، ولا يجيء على صورة التعليم والدرس.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى التربص بمعنى مدته، أي للبعولة حق الإرجاع في مدة القروء الثلاثة، أي لا بعد ذلك كما هو مفهوم القيد. هذا تقرير معنى الآية، على أنها جاءت لتشريع حكم المراجعة في الطلاق ما دامت العدة، وعندي أن هذا ليس مجرد تشريع للمراجعة بل الآية جامعة لأمرين: حكم المراجعة، وتحضيض المطلقين على مراجعة المطلقات، وذلك أن المتفارقين لا بد أن يكون لأحدهما أو لكليهما، رغبة في الرجوع، فالله يعلم الرجال بأنهم أولى بأن يرغبوا في مراجعة النساء، وأن يصفحوا عن الأسباب التي أوجبت الطلاق لأن الرجل هو مظنة البصيرة والاحتمال، والمرأة أهل الغضب والإباء.
[و] لا يجوز أن يكون ضمير {لهن} عائداً إلى أقرب مذكور وهو (المطلقات)، على نسق الضمائر قبله؛ لأن المطلقات لم تبق بينهن وبين الرجال علقة حتى يكون لهن حقوق وعليهن حقوق، فتعين أن يكون ضمير {لهن} ضمير الأزواج النساء اللائي اقتضاهن قوله {بردهن} بقرينة مقابلته بقوله {وللرجال عليهن درجة}. فالمراد بالرجال في قوله: {وللرجال} الأزواج، كأنه قيل: ولرجالهن عليهن درجة. والرجل إذا أضيف إلى المرأة، فقيل: رجل فلانة، كان بمعنى الزوج، كما يقال للزوجة: امرأة فلان، قال تعالى: {وامرأته قائمة} [هود: 71] {إلا امرأتك} [هود: 81].
ويجوز أن يعود الضمير إلى النساء في قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم} [البقرة: 226] بمناسبة أن الإيلاء من النساء هضم لحقوقهن، إذا لم يكن له سبب، فجاء هذا الحكم الكلي على ذلك السبب الخاص لمناسبة؛ فإن الكلام تدرج من ذكر النساء اللائي في العصمة، حين ذكر طلاقهن بقوله {وإن عزموا الطلاق}
[البقرة: 227]، إلى ذكر المطلقات بتلك المناسبة، ولما اختتم حكم الطلاق بقوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} صار أولئك النساء المطلقات زوجات، فعاد الضمير إليهن باعتبار هذا الوصف الجديد، الذي هو الوصف المبتدأ به في الحكم، فكان في الآية ضرب من رد العجز على الصدر، فعادت إلى أحكام الزوجات بأسلوب عجيب والمناسبة أن في الإيلاء من النساء تطاولاً عليهن، وتظاهراً بما جعل الله للزوج من حق التصرف في العصمة، فناسب أن يذكَّروا بأن للنساء من الحق مثل ما للرجال. وتقديم الظرف للاهتمام بالخبر؛ لأنه من الأخبار التي لا يتوقعها السامعون، فقدم ليصغى السامعون إلى المسند إليه، بخلاف ما لو أُخر فقيل: ومثل الذي عليهن لهن بالمعروف، وفي هذا إعلان لحقوق النساء، وإصداع بها وإشادة بذكرها، ومثل ذلك من شأنه أن يُتلقى بالاستغراب، فلذلك كان محل الاهتمام.
ذلك أن حال المرأة إزاء الرجل في الجاهلية، كانت زوجة أم غيرها، هي حالة كانت مختلطة بين مظهر كرامة وتنافس عند الرغبة، ومظهر استخفاف وقلة إنصاف، عند الغضب، فأما الأول فناشئ عما جبل عليه العربي من الميل إلى المرأة وصدق المحبة، فكانت المرأة مطمح نظر الرجل، ومحل تنافسه، رغبة في الحصول عليها بوجه من وجوه المعاشرة المعروفة عندهم، وكانت الزوجة مرموقة من الزوج بعين الاعتبار والكرامة والمثل أصله النظير والمشابه، كالشبه والمثل... وقد يكون الشيء مثلاً لشيء في جميع صفاته وقد يكون مثلاً له في بعض صفاته. وهي وجه الشبه. فقد يكون وجه المماثلة ظاهراً فلا يحتاج إلى بيانه، وقد يكون خفياً فيحتاج إلى بيانه، وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق: أجناساً أو أنواعاً أو أشخاصاً؛ لأن مقتضى الخلقة، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل، ومقتضى الشريعة، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة. فلا جرم يعلم كل السامعين أن ليست المماثلة في كل الأحوال، وتعين صرفها إلى معنى المماثلة في أنواع الحقوق على إجمال تبينه تفاصيل الشريعة، فلا يتوهم أنه إذا وجب على المرأة أن تقم بيت زوجها، وأن تجهز طعامه، أنه يجب عليه مثل ذلك، كما لا يتوهم أنه كما يجب عليه الإنفاق على امرأته أنه يجب على المرأة الإنفاق على زوجها بل كما تقم بيته وتجهز طعامه يجب عليه هو أن يحرس البيت وأن يحضر لها المعجنة والغربال، وكما تحضن ولده يجب عليه أن يكفيها مؤنة الارتزاق كي لا تهمل ولده، وأن يتعهده بتعليمه وتأديبه، وكما لا تتزوج عليه بزوج في مدة عصمته، يجب عليه هو أن يعدل بينها وبين زوجة أخرى حتى لا تحس بهضيمة فتكون بمنزلة من لم يتزوج عليها، وعلى هذا القياس فإذا تأتَّت المماثلة الكاملة فتُشْرَعَ، فعلى المرأة أن تحسن معاشرة زوجها، بدليل ما رتب على حكم النشوز، قال تعالى: {والتي تخافون نشوزهن} [النساء: 34] وعلى الرجل مثل ذلك قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19] وعليها حفظ نفسها عن غيره ممن ليس بزوج، وعليه مثل ذلك عمن ليست بزوجة {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} [النور: 30] ثم قال: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} [النور: 30] الآية {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم} [المؤمنون: 5 6] إلاّ إذا كانت له زوجة أخرى فلذلك حكم آخر، يدخل تحت قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة والمماثلة في بعث الحكمين، والمماثلة في الرعاية، ففي الحديث: الرجل راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها، والمماثلة في التشاور في الرضاع، قال تعالى: {فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور} [البقرة: 233] {وأتمروا بينكم بمعروف} [الطلاق: 6]. وتفاصيل هاته المماثلة، بالعين أو بالغاية، تؤخذ من تفاصيل أحكام الشريعة، ومرجعها إلى نفي الإضرار، وإلى حفظ مقاصد الشريعة من الأمة، وقد أومأ إليها قوله تعالى: {بالمعروف} أي لهن حق متلبساً بالمعروف، غير المنكر، من مقتضى الفطرة، والآداب، والمصالح، ونفي الإضرار، ومتابعة الشرع. وكلها مجال أنظار المجتهدين. ولم أر في كتب فروع المذاهب تبويباً لأبواب تجمع حقوق الزوجين.
وفي « سنن أبي داود»، و« سنن ابن ماجه»، بابان أحدهما لحقوق الزوج على المرأة، والآخر لحقوق الزوج على الرجل.
[و] باختصار كانوا في الجاهلية يعدون الرجل مولى للمرأة فهي ولية كما يقولون، وكانوا لا يدخرونها تربية، وإقامة وشفقة، وإحساناً، واختيار مصير، عند إرادة تزويجها، لما كانوا حريصين عليه من طلب الأكفاء، بيد أنهم كانوا مع ذلك لا يرون لها حقاً في مطالبة بميراث ولا بمشاركة في اختيار مصيرها، ولا بطلب ما لها منهم، وقد أشار الله تعالى إلى بعض أحوالهم هذه في قوله: {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن} [النساء: 127] وقال: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232] فحدد الله لمعاملات النساء حدوداً، وشرع لهن أحكاماً، قد أعلنتها على الإجمال هذه الآية العظيمة، ثم فصلتها الشريعة تفصيلاً، ومن لطائف القرآن في التنبيه إلى هذا عطف المؤمنات على المؤمنين عند ذكر كثير من الأحكام أو الفضائل، وعطف النساء على الرجال.
وقوله: {بالمعروف} الباء للملابسة، والمراد به ما تعرفه العقول السالمة، المجردة من الانحياز إلى الأهواء، أو العادات أو التعاليم الضالة، وذلك هو الحسن وهو ما جاء به الشرع نصاً أو قياساً، أو اقتضته المقاصد الشرعية أو المصلحة العامة، التي ليس في الشرع ما يعارضها. والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر أي وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن ملابساً ذلك دائماً للوجه غير المنكر شرعاً وعقلاً، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين في مختلف العصور والأقطار. فقول من يرى أن البنت البكر يجبرها أبوها على النكاح، قد سلبها حق المماثلة للابن، فدخل ذلك تحت الدرجة، وقول من منع جبرها وقال لا تزوج إلاّ برضاها قد أثبت لها حق المماثلة للذكر، وقول من منع المرأة من التبرع بما زاد على ثلثها إلا بإذن زوجها قد سلبها حق المماثلة للرجل، وقول من جعلها كالرجل في تبرعها بما لها قد أثبت لها حق المماثلة للرجل، وقول من جعل للمرأة حق الخيار في فراق زوجها إذا كانت به عاهة قد جعل لها حق المماثلة وقول من لم يجعل لها ذلك قد سلبها هذا الحق. وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف أو من المنكر. وهذا الشأن في كل ما أجمع عليه المسلمون من حقوق الصنفين، وما اختلفوا فيه من تسوية بين الرجل والمرأة، أو من تفرقة، كل ذلك منظور فيه إلى تحقيق قوله تعالى: {بالمعروف} قطعاً أو ظناً فكونوا من ذلك بمحل التيقظ، وخُذوا بالمعنى دون التلفظ.
وقوله: {وللرجال عليهن درجة} إثبات لتفضيل الأزواج في حقوق كثيرة على نسائهم لكيلا يظن أن المساواة المشروعة بقوله: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} مطردة، ولزيادة بيان المراد من قوله {بالمعروف}، وهذا التفضيل ثابت على الإجمال لكل رجل، ويظهر أثر هذا التفضيل عند نزول المقتضيات الشرعية والعادية. وقوله: {للرجال} خبر عن (درجة)، قدم للاهتمام بما تفيده اللام من معنى استحقاقهم تلك الدرجة، كما أشير إلى ذلك الاستحقاق في قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} [النساء: 34]
أحدهما: دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق، توهماً من قوله آنفاً: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}
وثانيهما: تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص، لإبطال إيثارهم المطلق، الذي كان متبعاً في الجاهلية.
وقوله: {والله عزيز حكيم} العزيز: القوى، لأن العزة في كلام العرب القوة {لَيُخْرِجَنَّ الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8] والحكيم: المتقن الأمور في وضعها، من الحكمة كما تقدم. والكلام تذييل وإقناع للمخاطبين، وذلك أن الله تعالى لما شرع حقوق النساء كان هذا التشريع مظنة المتلقى بفرط التحرج من الرجال، الذين ما اعتادوا أن يسمعوا أن للنساء معهم حظوظاً، غير حظوظ الرضا والفضل والسخاء، فأصبحت لهن حقوق يأخذنها من الرجال كرهاً، إن أبَوْا، فكان الرجال بحيث يرون في هذا ثلماً لعزتهم، كما أنبأ عنه حديث عمر بن الخطاب المتقدم، فبين الله تعالى أن الله عزيز أي قوي لا يعجزه أحد، ولا يتقي أحداً، وأنه حكيم يعلم صلاح الناس، وأن عزته تؤيد حكمته فينفذ ما اقتضته الحكمة بالتشريع، والأمر الواجب امتثاله، ويحمل الناس على ذلك وإن كرهوا.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أشارت الآيات السابقة إلى أمثل السبل لاختيار الزوج، وهو أن يكون أساس الاختيار الدين والتقوى والخلق، لا المال والنسب، "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم "(البقرة 221). ثم أشارت الآيات أيضا إلى حسن العشرة الواجبة، ولطف المودة الواصلة، وبينت أن العلاقة بين الزوجين طهر لا دنس فيه، ونظافة لا رجس معها يستوي في ذلك الحس والمعنى، والمخبر والمظهر. و أوجبت أن تكون العلاقة قائمة على العدل من غير ضرار ولا ظلم، وبينت الحكم في الظلم الواقع إن استمر عليه مرتكبه، ووثق إصراره بيمين يحلفها، وذكرت أن القطع في هذه الحال أولى من الوصل، والإنهاء أولى من البقاء، لأن بقاء الحياة الزوجية في هذه الحال استمرار للظلم، وبقاء للإثم، ولا منفعة ترجى، ولا جدوى تلتمس، ولذلك قرر سبحانه وتعالى حكمه الصارم وهو الطلاق القاطع لهذا الظلم المستمر.
و لقد بينت بعد ذلك هذه الآية الكريمة التي تلوناها، والتي سنتكلم في معناها حكم الطلاق، وفصلت أحواله ومراتبه الآيات من بعدها.
{و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاث قروء} التربص معناه: التأني والانتظار، وقد قال بعض العلماء إنه مقلوب التصبر، فهو تكلف الأناة، وتكلف الانتظار مع صعوبة الاحتمال، كما هو الشأن في أمر الصبر والتصبر، وسواء أصح ذلك القول أم لم يصح، فالتصبر والتربص متلاقيان في المعنى، ومتشابهان في اللفظ.
و قد قرن سبحانه وتعالى النهي عن الكتمان بقوله تعالى: {إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} للحث على عدم الكتمان، والإخبار بما خلق الله، لتستقيم الأحكام، وتتقرر الحقوق. وفي ذلك تعظيم لأمر الكتمان، بأنه ينافي الإيمان، لأن الإيمان يبعث على الصدق، ويدعو إلى المحافظة على الأمانة، وليس من المحافظة على أمانة الله ووديعته جحودها وكتمانها، وما ترتب على ذلك من ضياع الحقوق التي تعلقت بها، والاستهانة بأحكام الله سبحانه وتعالى التي ناطها بها، وأي مؤمنة ترضى لنفسها أن تعاند أحكام الله، وتخون أمانته، وتجحد وديعته!!.
{و بعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} في هذه الجملة السامية بيان لبعض المقاصد الشرعية التي أرادها الشارع الحكيم من شرعية العدة، وهو أن يكون لدى المطلق فرصة مراجعة نفسه، بعد أن تكون قد ذهبت عنه نوبة الألم التي أدت إلى الفراق، وقد تكون سحابة صيف تقشعت، وعارضا قد زال، وفي هذا بيان لعلاج الله سبحانه وتعالى لنفوس المطلقين، إذ جعل لهم وقت التربص من جانب المرأة، وقت تروية وتدبر من جانب الرجل، وفرصة لائحة لمن يريد الإصلاح من الأهل والعشيرة، وكل من يهمه أمر الزوجين، وما كان بينهما من ثمرة لهذا الزواج،
{و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} هذا هو القانون العادل الشامل، نطق به القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا، وقد شرعه الإسلام في وقت لم يعترف أي قانون من قوانين العالم بأن للمرأة أي حق من حقوق، وفرضت عليها القوانين في العصور الغابرة كل الواجبات، فجاء الإسلام ووضع تلك القاعدة العادلة، وهي أن الحقوق يجب أن تكون متكافئة مع الواجبات، فما على الإنسان من واجبات يكافئ ماله من حقوق، وما من حق إلا تعلق به واجب، فإذا كان للرجل سلطان في البيت وعلى المرأة واجب الطاعة، فلها حق، وهو العدل.. وإذا كانت المرأة قارة في البيت قائمة بشئونه، وفرض عليها ذلك الواجب فلها حق الإنفاق.. وإذا كان عليها أن تعد البيت إعدادا حسنا بمقتضى العرف فلها حق المهر.. وإذا كان عليها أن تؤنس زوجها، فعليه ألا يوحشها، وقد أدرك ذلك المعنى الجليل، وهو التساوي بين الحقوق والواجبات الصحابة الأولون، هذه هي الدرجة التي جعلها الإسلام للرجل، وهي درجة تجعل له حقوقا، وتجعل عليه واجبات أكثر، فهي موائمة كل المواءمة لصدر النص الكريم فإذا كان للرجل فضل درجة، فعليه فضل واجب.
و لقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: {و الله عزيز حكيم} وفي ذلك دلالة على ثلاثة أمور:
أولها – أن تلك المماثلة بين الحقوق والواجبات في الحقوق الزوجية بل في كل شئون الاجتماع الإنساني، هي مقتضى الحكمة الإلهية والعدل الرباني، وإن ذلك أقصى ما تصل إليه المعاملة الإنسانية من سمو.
ثانيها – إن الله سبحانه وتعالى القاهر القادر العزيز هو الذي أعز المرأة بعد ذلها، وأعطاها حقوقها بعد هضمها، وليس لها أن تطلب العزة من غير شرع الله فهو الملجأ والمعاذ لكل ذي حق مهضوم، ولقد أعلاها بعد خفض، وكرمها بعد المهانة، فما يسوغ لامرأة مسلمة من بعد أن تتمرد على حكم العزيز الحكيم، وإن حكمته اقترنت بعزته، فما للرجل من درجة هو مقتضى الحكمة، والله بكل شيء محيط.
ثالثها – إشعار الرجل بأن الله فوقه، وهو القادر القوي الغالب، وهو المعز المذل، الحكم العدل اللطيف الخبير، فإن تجاوز الرجل شرعه، وعدا ما حده له الكبير المتعال، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وناله عقابه وحرم من ثوابه...
وليعلم أن الله عزيز لا يحب أن يستذل رجل امرأة هي مخلوق لله، والله حكيم قادر على أن يقتص للمرأة لو فهم الرجل أن درجته فوق المرأة هي للاستبداد، أو فهمت المرأة أن وجودها مع الرجل هي منة منها عليه، فلا استذلال في الزواج؛ لأن الزواج أساسه المودة والمعرفة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فالرّجل والمرأة يلتقيان في خطّ المسؤولية على صعيد واحد، فليس هناك أيُّ انتقاصٍ من شخصية المرأة كإنسان في ما أوجبه اللّه وما حرّمه، وفي ما أباحه وما دعا إليه... فالمرأة الزانية والسارقة في نص القرآن، كالرّجل الزاني والسارق في ما ألزمهما به من حدّ وعقوبة؛ والمرأة الصالحة كالرّجل الصالح في ما أعدّ اللّه لهما من ثواب. فلا زيادة لثواب الرّجل على صلاته وصومه وصدقه وعفته على ثواب المرأة في ذلك كلّه. وهذا ما نصت عليه الآية الكريمة: فإننا نستشف من هذه الآية وغيرها أنَّ الرّجل والمرأة سواء في التقييم من حيث طبيعة المسؤولية كمبدأ، ومن حيث نتائجها العامة والخاصة... ما يعني تسوية مطلقة في هذا المجال.
وتبقى القضية، في مجال العلاقات بينهما، تتخذ سبيلاً آخر في حساب المسؤولية المشتركة، من حيث توزيع الأدوار في نطاق نظام العائلة وفي غيره. فقد جعل الإسلام للرّجل امتيازاً نابعاً من بعض الخصائص الذاتية التي قد تجعله أكثر قدرة على الممارسة، ومن تحمله المسؤولية المالية للعلاقة، وذلك على أساسٍ تنظيمي لقانون الأسرة؛ وذلك ما أوضحته الآية الكريمة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِما أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. فإنَّ الآية تحدّد الموقع للرّجل في نطاق العائلة، في مركز القوامة التي تعني الإدارة والرعاية والإشراف... أمّا خارج نطاق العائلة، فلا قوامة ولا رعاية ولا تمييز؛ فللمرأة الحرية في أن تمارس كلّ ما تستطيع ممارسته في الحياة كإنسانة في حدود التشريع الإسلامي العام، كما كان للرّجل أن يمارس الدور نفسه من غير فرق في ذلك بين مجالات العلم والعمل ومراكز المسؤولية في الحياة، مع بعض الاستثناءات التي تقتضيها طبيعة الاحتياط للعدالة، وذلك في مجالات القضاء والشهادة والحكم... وربما كانت الدراسة لهذه الاستثناءات تضع القضية في الموضع الدقيق للفكرة الإسلامية، التي يلاحظ الإنسان معها أنَّ بعض هذه الاستثناءات قد وردت في نطاق مسؤولية الرّجل من حيث صفاته الأخلاقية والعلمية والعملية، على أساس الاحتياط لحقوق النّاس في شهادة أمينة، وقضاء متزن، وحكم قوي عادل... وفي ضوء ذلك، نفهم أنَّ الدرجة التي جعلت للرّجل في نطاق التشريع الإسلامي العام، لا تعتبر امتيازاً للرّجل على حساب كرامة المرأة وإنسانيتها، بالمستوى الذي يبرّر هذا التمايز الاجتماعي الذي يضغط على المرأة لحساب الرّجل، بحيث تتحوّل إلى أداة للمتعة، أو كميةٍ مهملة لا تمثّل شيئاً كبيراً في مقياس الإنسانية... فإنَّ دراسة المساحة الواقعية بين ما هو التشريع الإسلامي في عدالته وإنسانيته، وبين ما هي الممارسة العملية في ظلمها وانحرافها؛ تبين لنا البون الشاسع بين معنى الإسلام، وبين سلوك المسلمين الذي لا يتحمل الإسلام سلبياته في أي حال.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
{والله عزيز حكيم} ان الحكمة الإلهيّة والتدبير الرّباني يستوجبان أن يكون لكلّ شخص في المجتمع وظائف وحقوق معيّنة من قبل قانون الخلقة ويتناسب مع قدراته وقابليّاته الجسميّة والرّوحيّة، وبذلك فإنّ الحكمة الإلهيّة تستوجب أن تكون للمرأة في مقابل الوظائف والمسؤوليّات الملقاة على عاتقها حقوقاً مسلّمة كيما يكون هناك تعادل بين الوظيفة والحقّ... وهنا تقول الآية مورد البحث: أنّ على النّساء العدّة والصبر ريثما تهدأ تلك الأمواج النفسيّة وتنقشع سحب النّزاع والعداوة عن سماء الحياة المشتركة، وخاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار حكم الإسلام في وجوب بقاء المرأة وعدم خروجها من بيت زوجها طيلة مدّة العادة حيث يبعث ذلك على حُسن التفكّر وإعادة النّظر في قرار الطّلاق ممّا يؤثّر ذلك كثيراً في رسم وصياغة علاقاتها مع زوجها، ولذلك نقرأ في سورة الطّلاق آية {لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ... لا تدري لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرا}. هنا يشير القرآن الكريم إلى أصل أساس، وهو أنه كلّما كانت هناك وظيفة ومسؤوليّة كان هناك حقّ إلى جانبها، يعني أنّ الوظيفة والحقّ لا ينفصلان أبداً...
{ولهنَّ مثلُ الذي عليهنَّ بالمعروف}، فالمرأة بموجب هذه الآية تتمتّع بحقوق تعادل ما عليها من واجبات ثقيلة في المجتمع. [و] الإسلام اعتبر الرجل كالمرأة كائناً ذا روح إنسانيّة كاملة، وذا إرادة واختيار، ويطوي طريقه على طريق تكامله الذي هو هدف الخلقة، ولذلك خاطب الرجل والمرأة معاً في بيان واحد حين قال: {يا أيّها النَّاس... ويا أيّها الذين آمنوا}. [و] وضع لهما منهجاً تربوياً وأخلاقياً وعلمياً ووعدهما معاً بالسعادة الأبدية الكاملة في الآخرة، كما جاء في قوله تعالى: {وَ مَنْ عَمِلَ صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمنٌ فأُولئك يدخلون الجنّة}. فالمرأة في مفهوم الإسلام ركن المجتمع الأساسي، ولا يجوز التعامل معها على أنّها موجود تابع عديم الإرادة يحتاج إلى قيّم.