{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
هذا خطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العدة ، وأراد زوجها أن ينكحها ، ورضيت بذلك ، فلا يجوز لوليها ، من أب وغيره ، أن يعضلها ، أي : يمنعها من التزوج به حنقا عليه ، وغضبا ، واشمئزازا لما فعل من الطلاق الأول .
وذكر أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإيمانه يمنعه من العضل ، فإن ذلك أزكى لكم وأطهر وأطيب مما يظن الولي أن عدم تزويجه هو الرأي : واللائق وأنه يقابل بطلاقه الأول بعدم التزويج له{[146]} كما هو عادة المترفعين المتكبرين .
فإن كان يظن أن المصلحة في عدم تزويجه ، فالله { يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فامتثلوا أمر من هو عالم بمصالحكم ، مريد لها ، قادر عليها ، ميسر لها من الوجه الذي تعرفون وغيره .
وفي هذه الآية ، دليل على أنه لا بد من الولي في النكاح ، لأنه نهى الأولياء عن العضل ، ولا ينهاهم إلا عن أمر ، هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق .
كذلك ينهاهم أن يعضلوا المطلقة - حين توفي العدة - ويمنعوها أن تتراجع مع زوجها إذا تراضيا بالمعروف :
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ) . .
وقد أورد الترمذي عن معقل بن يسار ، أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله [ ص ] فكانت عنده ما كانت . ثم طلقها تطليقة لم يراجعها ، حتى انقضت عدتها ؛ فهويها وهويته ؛ ثم خطبها مع الخطاب . فقال له : يا لكع ابن لكع ! أكرمتك بها وزوجتكها ، فطلقتها . والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك . قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله : ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن )إلى قوله : ( وأنتم لا تعلمون ) . . فلما سمعها معقل قال : سمع لربي وطاعة . ثم دعاه ، فقال : أزوجك وأكرمك . .
وهذه الاستجابة الحانية من الله - سبحانه - لحاجات القلوب التي علم من صدقها ما علم ، تكشف عن جانب من رحمة الله بعباده . . أما الآية بعمومها فيبدو فيها التيسير الذي أراده الله بالعباد ، والتربية التي أخذ بها المنهج القرآني الجماعة المسلمة ، والنعمة التي أفاضها عليها بهذا المنهج القويم ، الذي يواجه الواقع من حياة الناس في جميع الأحوال .
وهنا كذلك يستجيش الوجدان والضمير بعد النهي والتحذير :
( ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
والإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب . حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض ؛ وحين تتطلع إلى الله ورضاه فيما تأخذ وما تدع . . والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة ، واغتنام الزكاة والطهر . لنفسه وللمجتمع من حوله . ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام .
وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة ، ويعلقه بعروة الله ، ويطهره من شوائب الأرض ، وأدران الحياة ، وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق . .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ، فتنقضي عدتها ، ثم يبدو له أن يتزوجها{[3982]} وأن يراجعها ، وتريد المرأة ذلك ، فيمنعها أولياؤها من ذلك ، فنهى الله أن يمنعوها . وكذا{[3983]} روى العوفي ، عنه ، وكذا قال مسروق ، وإبراهيم النخعي ، والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك . وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية ، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها ، وأنه لا بد في تزويجها{[3984]} من ولي ، كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية ، كما جاء في الحديث : لا تزوج المرأةُ المرأةَ ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها{[3985]} . وفي الأثر الآخر : لا نكاح إلا بولي مرشد ، وشاهدي عدل . وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع ، وقد قررنا ذلك في كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .
وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته ، فقال البخاري ، رحمه الله ، في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية :
حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا الحسن قال : حدثني معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب إلي - قال البخاري : وقال إبراهيم ، عن يونس ، عن الحسن : حدثني معقل بن يسار . وحدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يونس ، عن الحسن : أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ، فتركها حتى انقضت عدتها ، فخطبها ، فأبى معقل ،
فنزلت : { فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ }{[3986]} .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن مردويه من طرق متعددة ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار ، به{[3987]} . وصححه الترمذي أيضًا ، ولفظه عن معقل ابن يسار : أنه زوج أخته رجلا من المسلمين ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة ، فهويها وهويته ، ثم خطبها مع الخطاب ، فقال له : يا لكع{[3988]} أكرمتك بها وزوجتكها ، فطلقتها ! والله لا ترجع إليك أبدًا ، آخر ما عليك قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } فلما سمعها معقل قال : سَمْعٌ لربي وطاعة ثم دعاه ، فقال : أزوجك وأكرمك ، زاد ابن مردويه : وكفرت عن يميني .
وروى ابن جرير{[3989]} عن ابن جريج قال : هي جمل بنت يسار كانت تحت أبي البداح ، وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي قال : هي فاطمة بنت يسار . وهكذا ذكر غير واحد من السلف : أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته . وقال السدي : نزلت في جابر بن عبد الله ، وابنة عم له ، والصحيح الأول ، والله أعلم .
وقوله : { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ } أيها الناس { يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : يؤمن بشرع الله ، ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة{[3990]} وما فيها من الجزاء { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي : اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن ، وترك الحمية في ذلك ، أزكى لكم وأطهر لقلوبكم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } أي : من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( 232 )
وقوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } الآية خطاب للمؤمنين الذين منهم الأزواج ومنهم الأولياء ، لأنهم المراد في { تعضلوهن }( {[2200]} ) ، وبلوغ الأجل في هذا الموضع تناهيه ، لأن المعنى يقتضي ذلك( {[2201]} ) ، وقد قال بعض الناس في هذا الموضع : إن المراد ب { تعضلوهنّ } ، الأزواج ، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلاً عن نكاح الغير ، فقوله { أزواجهن } على هذا يعني به الرجال ، إذ منهم الأزواج ، وعلى أن المراد ب { تعضلوهن } الأولياء فالأزواج هم الذين كنَّ في عصمتهم( {[2202]} ) ، والعضل المنع من الزواج ، وهو من معنى التضييق والتعسير ، كما يقال أعضلت الدجاجة إذا عسر بيضها ، والداء العضال العسير البرء ، وقيل : نزلت هذه الآية في معقل بن يسار وأخته ، وقيل : في جابر بن عبد الله ، وذلك أن رجلاً طلق أخته ، وقيل بنت عمه( {[2203]} ) ، وتركها حتى تمت عدتها ، ثم أراد ارتجاعها فغار جابر ، وقال : «تركتها وأنت أملك بها ، لا زوجتكما أبداً » ، فنزلت الآية ، وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليته ، وأن النكاح يفتقر إلى ولي ، خلاف قول أبي حنيفة إن الولي ليس من شروط النكاح ، وقوله { بالمعروف } معناه المهر والإشهاد .
وقوله تعالى : { ذلك يوعظ به من كان منكم } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : ثم رجوع إلى خطاب الجماعة : والإشارة في { ذلكم أزكى } إلى ترك العضل ، و { أزكى } و { أطهر } معناه أطيب للنفس وأطهر للعرض والدين ، بسبب العلاقات التي تكون بين الأزواج ، وربما لم يعلمها الولي فيؤدي العضل إلى الفساد والمخالطة على ما لا ينبغي ، والله - تعالى - يعلم من ذلك ما لا يعلم البشر .