ثم ذكر له كمالا آخر وفضلا زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل ، فقال { ورسولا إلى بني إسرائيل } فأرسله الله إلى هذا الشعب الفاضل الذين هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى الله ، وأقام له من الآيات ما دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال { أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين } طيرا ، أي : أصوره على شكل الطير { فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله } أي : طيرا له روح تطير بإذن الله { وأبرى الأكمه } وهو الذي يولد أعمى { والأبرص } بإذن الله { وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } وأي : آية أعظم من جعل الجماد حيوانا ، وإبراء ذوي العاهات التي لا قدرة للأطباء في معالجتها ، وإحياء الموتى ، والإخبار بالأمور الغيبية ، فكل واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها ، فكيف بها إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها ؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان .
( ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله . وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم . إن كنتم مؤمنين )
ويفيد هذا النص أن رسالة عيسى - عليه السلام - كانت لبني إسرائيل ، فهو أحد أنبيائهم . ومن ثم كانت التوراة التي نزلت على موسى - عليه السلام - وفيها الشريعة المنظمة لحياة الجماعة الإسرائيلية ، والمتضمنة لقوانين التعامل والتنظيم ، هي كتاب عيسى كذلك ، مضافا إليها الإنجيل الذي يتضمن إحياء الروح وتهذيب القلب وإيقاظ الضمير .
والآية التي بشر الله أمه مريم أنها ستكون معه ، والتي واجه بها بالفعل بني إسرائيل هي معجزة النفخ في الموات فيدخله سر الحياة ، وإحياء الموتى من الناس ، وإبراء المولود الأعمى ، وشفاء الأبرص ، والإخبار بالغيب - بالنسبة له - وهو المدخر من الطعام وغيره في بيوت بني إسرائيل ، وهو بعيد عن رؤيته بعينه . .
وحرص النص على أن يذكر على لسان المسيح - عليه السلام - كما هو مقدر في غيب الله عند البشارة لمريم ، وكما تحقق بعد ذلك على لسان عيسى - أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها ، إنما جاءهم بها من عند الله . وذكر إذن الله بعد كل واحدة منها تفصيلا وتحديدا ؛ ولم يدع القول يتم ليذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط !
وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردها ، أو رد العافية وهي فرع عن الحياة . ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية . . وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى ؛ ومنحه الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم - عليه السلام - وإذا كان الله قادرا أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه ، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال . . ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى رد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ولم يقيد الإنسان الله - سبحانه - بمألوف الإنسان !
وقوله : { وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : [ و ]{[5054]} يجعله رسولا إلى بني إسرائيل ، قائلا لهم : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ } وكذلك كان يفعل : يصور من الطين شكل طير ، ثم ينفخُ فيه ، فيطير عيانًا بإذن الله ، عز وجل ، الذي جعل هذا معجزة يَدُلّ على أن الله أرسله .
{ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ } قيل : هو الذي يبصر نهارًا ولا يبصر ليلا . وقيل بالعكس . وقيل : هو الأعشى . وقيل : الأعمش . وقيل : هو الذي يولد أعمى . وهو أشبه ؛ لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي { والأبرص } معروف .
{ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ } قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تناسب أهل زمانه ، فكان الغالب على زمان موسى ، عليه السلام ، السحر وتعظيم السحرة . فبعثه الله بمعجزة بَهَرَت الأبصار وحيرت كل سحار ، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام ، وصاروا من الأبرار . وأما عيسى ، عليه السلام ، فبُعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة ، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه ، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة . فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه ، والأبرص ، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد ؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعثه [ الله ]{[5055]} في زمن الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء ، فأتاهم بكتاب من الله ، عز وجل ، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدًا ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبدًا .
وقوله : { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } أي : أخبركم بما أكل أحدكم الآن ، وما هو مدخر [ له ]{[5056]} في بيته لغده { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في ذلك كله { لآيَةً لَكُمْ } أي : على صدْقي فيما جئتكم به . { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
{ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم } منصوب بمضمر على إرادة القول تقديره : ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ، أو بالعطف على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فكأنه قال : وناطقا بأني قد جئتكم ، وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم . { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير } نصب بدل من أني قد جئتكم ، أو جر بدل من آية ، أو رفع على هي أني أخلق لكم والمعنى : أقدر لكم وأصور شيئا مثل صورة الطير ، وقرأ نافع { إني } بالكسر { فأنفخ فيه } الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل . { فيكون طيرا بإذن الله } فيصير حيا طيارا بأمر الله ، نبه به على أن إحياءه من الله تعالى لا منه . وقرأ نافع هنا وفي المائدة " طائرا " بالألف والهمزة . { وأبرئ الأكمه والأبرص } الأكمه الذي ولد أعمى أو الممسوح العين . روي : أن ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداوي إلا بالدعاء . { وأحيي الموتى بإذن الله } كرر بإذن الله دفعا لتوهم الألوهية ، فإن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية . { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها . { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } موفقين للإيمان فإن غيرهم لا ينتفع بالمعجزات ، أو مصدقين للحق غير معاندين .
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ }
وقوله : { ورسولاً } حال معطوفة على { ويعلمه } إذ التقدير ، ومعلماً الكتاب ، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله { وجيهاً } [ آل عمران : 45 ] ، ويحتمل أن يكون التقدير ، ويجعله رسولاً{[3181]} ، وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ، مبيناً حكم التوراة ونادباً إلى العمل بها ومحللاً أشياء مما حرم فيها ، كالشحوم ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير . ومن أول القول لمريم إلى قوله { إسرائيل } خطاب لمريم . ومن قوله : { أني قد جئتكم } إلى قوله : { مستقيم } يحتمل أن يكون خطاباً لمريم على معنى يكون من قوله لبني إٍسرائيل : كيت وكيت ، ويكون في آخر الكلام متروكا يدل عليه الظاهر ، تقديره فجاء عيسى بني إسرائيل رسولاً فقال لهم ما تقدم ذكره { فلما أحس } ، ويحتمل أن يكون المتروك مقدراً في صدر الكلام بعد قوله : { إلى بني إسرائيل } ، فيكون تقديره فجاء عيسى كما بشر الله رسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم ، ويكون قوله : { أني قد جئتكم } ليس بخطاب لمريم ، والأول أظهر .
وقرأ جمهور الناس «أني قد جئتكم » بفتح الألف ، تقديره بأني وقرىء في الشاذ «إني قد جئتكم » . وجمهور الناس قرؤوا بآية على الإفراد وفي مصحف ابن مسعود «بآيات » ، وكذلك في قوله بعد هذا { وجئتكم بآيات من ربكم } واختلف القراء في فتح الألف وكسرها من قوله : { أني أخلق } ، فقرأ نافع وجماعة من العلماء ، «إني » بكسر الألف ، وقرأ باقي السبعة وجماعة من العلماء ، «أني » بفتح الألف ، فوجه قراءة نافع ، إما القطع والاستئناف وإما أنه فسر الآية بقوله ، «إني » كما فسر المثل في قوله { كمثل آدم } بقوله : { خلقه من تراب }{[3182]} إلى غير ذلك من الأمثلة ووجه قراءة الباقين البدل من آية ، كأنه قال : «وجئتكم بأني أخلق » ، وقيل : هي بدل من { أني } الأولى ، وهذا كله يتقارب في المعنى و { أخلق } معناه ، أقدر وأُهيىء بيدي ، ومن ذلك قول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] {[3183]} : [ الكامل ]
وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْتَ وَبَعْ . . . ضُ الْقَوْمِ يَخْلقُ ثمّ لا يفْري
وقوله { لكم } تقييد لقوله ، { أخلق } لأنه يدل دلالة ما ، على أنه لم يرد الإيجاد من العدم ، ويصرح بذلك قوله { بإذن الله } وحقيقة الخلق في الأجرام ، ويستعمل في المعاني ، ومنه قوله تعالى : { وتخلقون إفكاً }{[3184]} ومنه قول الشاعر{[3185]} : [ مجزوء الكامل مرفّل ]
من كان يخلق ما يقو . . . ل فحيلتي فيه قليله
وجمهور الناس قرأ «كهيئة » على وزن فعلة بفتح الفاء وهو مصدر من قولك ، هاء الشيء يهاء هيئاً وهيئة ، إذا ترتب واستقر على حال ما ، وهو الذي تعديه فتقول : هيأت ، وقرأ الزهري «كهِيَّئة الطير » ، بكسر الهاء وياء مفتوحة مشددة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائراً » على الإفراد في الموضعين ، فالأول اسم الجنس والثاني مفرد ، أي يكون طائراً من الطيور ، وقرأ نافع وحده ، «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً » بالإفراد في الأخير ، وهكذا قرأ في المائدة الباقون «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً » بالجمع فيهما ، وكذلك في سورة المائدة ، ومعاني هذه القراءات بينة ، و { الطير } اسم جمع وليس من أبنية الجموع ، وإنما البناء في جمع طائر أطيار ، وجمع الجمع طيور ، وحكاه أبو علي بن أبي الحسن ، وقوله { فأنفخ فيه } ذكر الضمير هنا لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيأ . ويحتمل أن يريد فانفخ في المذكور ، وأنث الضمير في سورة المائدة في قوله : { فتنفخ فيها } [ المائدة : 110 ] لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة أو على تأنيث لفظ الجماعة في قوله { الطير } وكون عيسى عليه السلام خالقاً بيده ونافخاً بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة ، وأنها جاءت من قبله ، وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن الله تعالى وحده لا شريك له .
وقوله { بإذن الله } ، معناه بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك وتمكين منه لي ، وحقيقة الإذن في الشيء هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك ، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في الإذن وأبلغ ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبداً في قسم الإباحة ، وتأمل قوله تعالى :
{ فهزموهم بإذن الله }{[3186]} ، وقول النبي عليه السلام : { وإذنها صماتها }{[3187]} ، وروي في قصص هذه الآية ، أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل : أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى ؟ فيقولون : الخفاش ، لأنه طائر لا ريش له ، فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير ، وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم ، فكانوا يقولون : هذا ساحر .
{ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
{ أبرىء } ، معناه أزيل المرض يقال برأ المريض وأبرأه غيره ، ويقال : برىء المريض أيضاً كما يقال في الذنب والدين{[3188]} ، واختلف المفسرون في { الأكمه } فقال مجاهد : { الأكمه } هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، وقال ابن عباس والحسن والسدي : { الأكمه } الأعمى على الإطلاق ، وقال عكرمة : { الأكمه } الأعمش ، وحكى النقاش قولاً : أن { الأكمه } هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم ، الميت الفؤاد ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : { الأكمه } الذي يولد أعمى مضموم العين .
قال القاضي : وقد كان عيسى عليه السلام يبرىء بدعائه ومسح يده كل علة ، ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه ، فليس يتخلص من هذه الأقوال في { الأكمه } إلا القول الأخير ، إذ { الأكمه } في اللغة هو الأعمى ، وكمهت العين عميت ، ولولا ضبط اللغة لكان القول الذي حكى النقاش حسناً في معنى قيام الحجة به ، { والأبرص } معروف ، وهو داء لا يبرأ منه إذا تمكن ، وروي في إحيائه الموتى ، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة ، فيحيي الإنسان ويكلمه ، وروي في أنه أحيى سام بن نوح عليه السلام ، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته ، وروي أنه كان يعود لموته سريعاً ، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها ، وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي ، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص على التحدي بها ، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب ، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب ، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله ، وهذا كأمر السحرة مع موسى ، والفصحاء مع محمد عليه السلام .
ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس ، كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وأنبئكم } الآية ، فقال السدي وسعيد بن جبير وابن إسحاق ومجاهد وعطاء : كان عيسى من لدن طفولته وهو في الكتّاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل لأبنائهم لا تخالطوا هذا الساحر ، وكذلك إلى أن نبىء ، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى ، أكلت البارحة كذا ، وادخرت كذا ، قال ابن إسحاق ، وكان معلمه يريد أن يعلمه الشيء فيسبقه إليه عيسى فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس ، وقال قتادة معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم . وذلك أنها لما أنزلت أخذ عليهم عهداً أن يأكلوا ولا يخبىء أحد شيئاً ولا يدخره ويحمله إلى بيته فخانوا وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة . فكان عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على ذلك ، وما في قوله { بما تأكلون } يحتمل أن تكون بمعنى الذي وتحتمل المصدرية وكذلك { وما تدخرون } ، وقرأ الجمهور ، «تدّخِرون » بدال مشددة وخاء مكسورة ، وهو تفتعلون من ذخرت أصله ، «تذخرون » استثقل النطق بالذال والتاء ، لتقاربهما في المخرج فأبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال في الدال ، كما صنع في مدكر ، ومطلع ، بمعنى مضطلع وغير ذلك نحو قول الشاعر : [ زهير ] [ البسيط ]
إن الكَريمَ الذي يُعطيكَ نَائِلَهُ . . . عَفْواً وَيظْلِمُ أحْياناً فَيَطَّلِمُ{[3189]}
بالطاء غير منقوطة ، وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال «تدْخَرون » - بدال - ساكنة وخاء مفتوحة ، وقوله : { إن في ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء والإنباء ، وفي مصحف ابن مسعود «لآيات » على الجمع ، وقوله { إن كنتم مؤمنين } ، توقيف والمعنى ، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا هادية ، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا ، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن - بعد - وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل ، وإن كان خطابه لمؤمنين ، أو لما{[3190]} كانوا مؤمنين بموسى ، فمعنى الآية التثبيت وهز النفس كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء : ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال .
{ ورسولاً } عطف على جملة ( يُعلّمه ) لأنّ جملة الحال ، لكونها ذات محل من الإعراب ، هي في قوة المفرد فنصب رسولاً على الحال ، وصاحب الحال هو قوله بكلمة ، فهو من بقية كلام الملائكة .
وفتح همزة أنّ في قوله : { أنى قد جئتكم } لتقدير باء الجر بعد رسولاً ، أي رسولاً بهذا المقال لما تضمنه وصف رسولاً من كونه مبْعوثاً بكلام ، فهذا مبدأ كلام بعد انتهاء كلام الملائكة .
ومعنى { جئتكم } أُرسلت إليكم من جانب الله ونظيرة قوله تعالى : { ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة } [ الزخرف : 63 ] .
وقوله : { بآية } حال من ضمير { جئتكم } لأنّ المقصود الإخبار بأنه رسول لا بأنه جاء بآية . شبه أمر الله إياه بأن يبلّغ رسالة بمجيء المرسَل من قوم إلى آخرين ولذلك سميّ النبي رسولاً .
والباء في قوله { بآية } للملابسة أى مقارناً للآيات الدالة على صدقي في هذه الرسالة المعبّر عنها بفعل المجيء . والمجرور متعلق بجئتكم على أنه ظرف لغو ، ويجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من { جئتكم } لأن معنى جئتكم : أرسلت إليكم ، فلا يحتاج إلى ما يتعلق به . وقوله : { إني أخلق بكسر الهمزة استئناف لبيان آية وهي قراءة نافع ، وأبي جعفر . وقرأه الباقون بفتح همزة { أنّي } على أنه بدل من { أني قد جئتكم } .
والخلق : حقيقته تقدير شيء بقدْر ، ومنه خلق الأديم تقديره بحسب ما يراد من قِطعَه قبل قطع القطعة منه قال زهير :
ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وبَعْــض القَوْم يَخْلُق ثُم لا يَفْرِي
يريد تقدير الأديم قبل قطعه والقطع هو الفري ، ويُستعمل مجازاً مشهوراً أو مشتركاً في الإنشاء ، والإبداع على غير مثال ولا احتذاءٍ ، وفي الإنشاء على مثال يُبْدَع ويقدّر ، قال تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صَوّرناكم } [ الأعراف : 11 ] فهو إبداع الشيء وإبرازه للوجود والخلق هنا مستعمل في حقيقته أيْ : أقدّر لكم من الطين كهيئة الطير ، وليس المراد به خلق الحيوان ، بدليل قوله فأنفُخ فيه .
وتقدم الكلام على لفظ الطّيْر في قوله تعالى : { فخذ أربعة من الطير } في سورة [ البقرة : 360 ] . والكاف في قوله : { كهيئة الطير } بمعنى مثل ، وهي صفة لِموصوف محذوف دل عليه أخلُق ، أي شيئاً مقدّراً مثلَ هيئة الطير . وقرأ الجمهور « الطَّير » وهو اسم يقع على الجمع غالباً وقد يقع على الواحد . وقرأه أبو جعفر « الطائر » .
والضمير المجرور بفي من قوله : { فأنفخ فيه } عائد إلى ذلك الموصوف المحذوف الذي دلت عليه الكاف .
وقرأ نافع وحده فيكون طائراً بالإفراد وقرأ الباقون فيكون طَيْراً بصيغة اسم الجمع فقراءة نافع على مراعاة انفراد الضمير ، وقراءة الباقين على اعتبار المعنى . جعل لنفسه التقدير ، وأسند لله تكوين الحياة فيه .
والهيئة : الصورة والكيفية أي أصَوِّر من الطين صورةً كصورة الطير . وقرأ الجميع كهيئة بتحتية ساكنة بعدها همزة مفتوحة .
وزاد قوله : { بإذن الله } لإظهار العبودية ، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات . والأكمه : الأعمى ، أو الذي ولد أعمى .
والأبرص : المصاب بداء البرص وهو داء جلدي له مظاهر متنوّعة منها الخفيف ومنها القوي وأعراضه بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البَهق ثم تنتشر على الجلد فربما عمّت الجلد كله حتى يصير أبيض ، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد .
وأسبابه مجهولة ، ويأتي بالوراثة ، وهو غير مُعْد ، وشوهد أنّ الإصابة به تكثر في الذين يقللون من النظافة أو يسكنون الأماكن القذرة . والعرب والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادىء الجذام فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بَدَتْ أعراضه على واحد منهم . فأما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلاّ من وراءِ حجاب ، كما وقع في قصّة الحارث بن حلزة الشاعر مع الملك عمرو بن هند . وأما العبرانيون فهم أشدّ في ذلك . وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص ، وأطالت في بيانها ، وكرّرته مراراً ، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل ، وقد وصفه الوحي لِموسى ليعَلِّمه الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه ، ومن أحكامهم أنّ المصاب يُعزل عن القوم ويجعل في محل خاص وأحكامه مفصّلة في سفر اللاويين . ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهمّ المعجزات فائدة عندهم ديناً ودنيا .
وقد ذكر فقهاء الإسلام البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار وفصّلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه .
وإحياء الموتى معجزة للمسيح أيضاً ، كنفخ الروح في الطير المصوّر من الطين ، فكان إذا أحيا ميتاً كلّمه ثم رجع ميّتاً ، وورد في الأناجيل أنّه أحيا بنتاً كانت ماتت فأحياها عقب موتها . ووقع في إنجيل متَّى في الإصحاح 17 أنّ عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم ، وكلّ ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك .
ومعنى قوله : { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخون في بيوتكم } أنّه يخبرهم عن أحوالهم التي لا يطّلع عليها أحد فيخبرهم بما أكلوه في بيوتهم ، وما عندهم مدّخر فيها ، لتكون هاته المتعاطفات كلّها من قبيل المعجزات بقرينة قوله أنبّئكم لأنّ الإنباء يكون في الأمور الخفيةِ .
وقوله : { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } جعل هذه الأشياء كلّها آيات تدعو إلى الإيمان به ، أي إن كنتم تريدون الإيمان ، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة . والخطاب موجّه منه إلى بني إسرائيل فإنهم بادروا دعوته بالتكذيب والشتم .
وتعرُّض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذين جعلوا منها دليلاً على ألوهية عيسى ، بعلة أنّ هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر ، فمن قدر عليها فهو الإله ، وهذا دليل سفسطائي أشار الله إلى كشفه بقوله : { بآية من ربكم } وقوله : { بإذن الله } مرتين . وقد روى أهل السِّير أنّ نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبي صلى الله عليه وسلم .