{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
يقول تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } أي : ليس هذا هو البر المقصود من العباد ، فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف ، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ونحو ذلك .
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أي : بأنه إله واحد ، موصوف بكل صفة كمال ، منزه عن كل نقص .
{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهو كل ما أخبر الله به في كتابه ، أو أخبر به الرسول ، مما يكون بعد الموت .
{ وَالْمَلَائِكَةِ } الذين وصفهم الله لنا في كتابه ، ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم { وَالْكِتَابِ } أي : جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله ، وأعظمها القرآن ، فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام ، { وَالنَّبِيِّينَ } عموما ، خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَآتَى الْمَالَ } وهو كل ما يتموله الإنسان من مال ، قليلا كان أو كثيرا ، أي : أعطى المال { عَلَى حُبِّهِ } أي : حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس ، فلا يكاد يخرجه العبد .
فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى ، كان هذا برهانا لإيمانه ، ومن إيتاء المال على حبه ، أن يتصدق وهو صحيح شحيح ، يأمل الغنى ، ويخشى الفقر ، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة ، كانت أفضل ، لأنه في هذه الحال ، يحب إمساكه ، لما يتوهمه من العدم والفقر .
وكذلك إخراج النفيس من المال ، وما يحبه من ماله كما قال تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه .
ثم ذكر المنفق عليهم ، وهم أولى الناس ببرك وإحسانك . من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم ، وتفرح بسرورهم ، الذين يتناصرون ويتعاقلون ، فمن أحسن البر وأوفقه ، تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي ، على حسب قربهم وحاجتهم .
ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم ، وليس لهم قوة يستغنون بها ، وهذا من رحمته [ تعالى ] بالعباد ، الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده ، فالله قد أوصى العباد ، وفرض عليهم في أموالهم ، الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه ، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره ، رُحِمَ يتيمه .
{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة ، وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء ، بما يدفع مسكنتهم أو يخففها ، بما يقدرون عليه ، وبما يتيسر ، { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ، فحث الله عباده على إعطائه من المال ، ما يعينه على سفره ، لكونه مظنة الحاجة ، وكثرة المصارف ، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته ، وخوله من نعمته ، أن يرحم أخاه الغريب ، الذي بهذه الصفة ، على حسب استطاعته ، ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره ، أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها .
{ وَالسَّائِلِينَ } أي : الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج ، توجب السؤال ، كمن ابتلي بأرش جناية ، أو ضريبة عليه من ولاة الأمور ، أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة ، كالمساجد ، والمدارس ، والقناطر ، ونحو ذلك ، فهذا له حق وإن كان غنيا { وَفِي الرِّقَابِ } فيدخل فيه العتق والإعانة عليه ، وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده ، وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة .
{ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } قد تقدم مرارا ، أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة ، لكونهما أفضل العبادات ، وأكمل القربات ، عبادات قلبية ، وبدنية ، ومالية ، وبهما يوزن الإيمان ، ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان .
{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } والعهد : هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه . فدخل في ذلك حقوق الله كلها ، لكون الله ألزم بها عباده والتزموها ، ودخلوا تحت عهدتها ، ووجب عليهم أداؤها ، وحقوق العباد ، التي أوجبها الله عليهم ، والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور ، ونحو ذلك .
{ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } أي : الفقر ، لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة ، لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره .
فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم ، وإن جاع أو جاعت عياله تألم ، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم ، وإن عرى أو كاد تألم ، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم ، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم .
فكل هذه ونحوها ، مصائب ، يؤمر بالصبر عليها ، والاحتساب ، ورجاء الثواب من الله عليها .
{ وَالضَّرَّاءِ } أي : المرض على اختلاف أنواعه ، من حمى ، وقروح ، ورياح ، ووجع عضو ، حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك ، فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك ، لأن النفس تضعف ، والبدن يألم ، وذلك في غاية المشقة على النفوس ، خصوصا مع تطاول ذلك ، فإنه يؤمر بالصبر ، احتسابا لثواب الله [ تعالى ] .
{ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم ، لأن الجلاد يشق غاية المشقة على النفس ، ويجزع الإنسان من القتل ، أو الجراح أو الأسر ، فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا ، ورجاء لثواب الله [ تعالى ] الذي منه النصر والمعونة ، التي وعدها الصابرين .
{ أُولَئِكَ } أي : المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة ، والأعمال التي هي آثار الإيمان ، وبرهانه ونوره ، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية ، فأولئك هم { الَّذِينَ صَدَقُوا } في إيمانهم ، لأن أعمالهم صدقت إيمانهم ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } لأنهم تركوا المحظور ، وفعلوا المأمور ، لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير ، تضمنا ولزوما ، لأن الوفاء بالعهد ، يدخل فيه الدين كله ، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات ، ومن قام بها ، كان بما سواها أقوم ، فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون .
وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة ، من الثواب الدنيوي والأخروي ، مما لا يمكن تفصيله في [ مثل ] هذا الموضع .
وأخيرا وفي آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح ، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح ، ويحدد صفة الصادقين المتقين :
( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ؛ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ؛ وآتى المال - على حبه - ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ؛ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) . .
والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما ثار حوله من جدل طويل . ولقد سبق الكلام عن حكمة تحويل القبلة . فالآن يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول هذه القضية وحول سائر القضايا الجدلية التي يثيرها اليهود حول شكليات الشعائر والعبادات ، وكثيرا ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور .
إنه ليس القصد من تحويل القبلة ، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق ، أن يولي الناس وجوهم قبل المشرق والمغرب . . نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام . . وليست غاية البر - وهو الخير جملة - هي تلك الشعائر الظاهرة . فهي في ذاتها - مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك - لا تحقق البر ، ولا تنشىء الخير : إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك . تصور ينشىء ء أثره في ضمير الفرد والجماعة ؛ وعمل ينشىء أثره في حياة الفرد والجماعة . ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب . . سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك ؛ أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالا ، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر .
( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين . . . ) الآية .
ذلك هو البر الذي هو جماع الخير . . فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله ؟
ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ؟
إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى ، وشتى الأشياء ، وشتى الاعتبارات . . إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية ، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد ؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار . . وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه إلى القصد ، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه . فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد ، لا تعرف لها قصدا مستقيما ولا غاية مطردة ، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة ، كما يتجمع الوجود كله ، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات . . والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء ؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان . وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء . . والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان ، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان . الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه . . والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين ، وهو الإيمان بوحدة البشرية ، ووحدة إلهها ، ووحدة دينها ، ووحدة منهجها الإلهي . . ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات .
وما قيمة إيتاء المال - على حبه والاعتزاز به - لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ؟
إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة . انعتاق الروح من حب المال الذييقبض الأيدي عن الإنفاق ، ويقبض النفوس عن الأريحية ، ويقبض الأرواح عن الانطلاق . فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال . وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال . لا في الرخيص منه ولا الخبيث . فيتحرر من عبودية المال ، هذه العبودية التي تستذل النفوس ، وتنكس الرؤوس . ويتحرر من الحرص . والحرص يذل اعناق الرجال . وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام ، الذي يحاول دائما تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها ، يقينا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس ؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات ! . . ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة . . هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس ، وكرامة الأسرة ، ووشائج القربى . والأسرة هي النواة الأولى للجماعة . ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم . . وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة ، وبين الأقوياء فيها والضعفاء ؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين ؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها ، وتعرضهم للفساد ، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم برا ولا رعاية . . وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون - وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضنا بماء وجوههم - احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم ، وصيانة لهم من البوار ، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة ، التي لا يهمل فيها فرد ، ولا يضيع فيها عضو . . وهي لابن السبيل - المنقطع عن ماله وأهله - واجب للنجدة في ساعة العسرة ، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار ؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل ، وبأن الأرض كلها وطن ، يلقى فيها أهلا بأهل ، ومالا بمال ، وصلة بصلة ، وقرارا بقرار . . وهي للسائلين إسعاف لعوزهم ، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام . وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملا ، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل ، وأن يقنع ولا يسأل . فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال . . وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام - حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة . ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه ، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه . والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية ، ويطلب مكاتبته عليها - أي أداء مبلغ من المال في سبيلها ، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له ، ويصبح مستحقا في مصارف الزكاة ، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة . . كل أولئك ليسارع في فك رقبته ، واسترداد حريته . .
وإقامة الصلاة ؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير ؟
إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب . إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه ، ظاهرا وباطنا ، جسما وعقلا وروحا . إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم ، وليست مجرد توجه صوفي بالروح . فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة . إن الإسلام يعترف بالإنسان جسما وعقلا وروحا في كيان ؛ ولا يفترض أن هناك تعارضا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان ، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح ، لأن هذا الكبت ليس ضروريا لانطلاق الروح . ومن ثم يجعل عبادته الكبرى . . الصلاة . مظهرا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعا في ترابط واتساق . يجعلها قياما وركوعا وسجودا تحقيقا لحركة الجسد ، ويجعلها قراءة وتدبرا وتفكيرا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل ؛ ويجعلها توجها واستسلاما لله تحقيقا لنشاط الروح . . كلها في آن . . وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة ، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة . . في كل ركعة وفي كل صلاة . وإيتاء الزكاة ؟ . . إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقا في أموال الأغنياء للفقراء ، بحكم أنه هو صاحب المال ، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه ، من شروطه إيتاء الزكاة . وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال - على حبه - لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق ؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة ، وليست الزكاة بديلة منه . . وإنما الزكاة ضريبة مفروضة ، والإنفاق تطوع طليق . . والبر لا يتم إلا بهذه وتلك . وكلتاهما من مقومات الإسلام . وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق ، ولا تغني هي عن الإنفاق .
والوفاء بالعهد ؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها ، ويكررها القرآن كثيرا ؛ ويعدها آية الإيمان ، وآية الآدمية وآية الإحسان . وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول . تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله . وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعا قلقا لا يركن إلى وعد ، ولا يطمئن إلى عهد ، ولا يثق بإنسان ، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله ، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام .
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ؟ . . إنها تربية للنفوس وإعداد ، كي لا تطير شعاعا مع كل نازلة ، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة ، ولا تنهار جزعا أمام الشدة . إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرا . إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله . ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية ، والعدل في الأرض والصلاح ، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة . الصبر في البؤس والفقر . والصبر في المرض والضعف . والصبر في القلة والنقص . والصبر في الجهاد والحصار ، والصبر على كل حال . كي تنهض بواجبها الضخم ، وتؤدي دورها المرسوم ، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال .
ويبرز السياق هذه الصفة . . صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس . . يبرزها بإعطاء كلمة( الصابرين )وصفا في العبارة يدل على الاختصاص . فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير : " وأخص الصابرين " . . وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر . . لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم ، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال - على حبه - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد . . وهو مقام للصابرين عظيم ، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله ، يلفت الأنظار . .
وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد ، وتكاليف النفس والمال ، وتجعلها كلا لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم . وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو( البر )أو هو " جماع الخير " أو هو " الإيمان " كما ورد في بعض الأثر . والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادىء المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام .
ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم :
( أولئك الذين صدقوا ، وأولئك هم المتقون ) . .
أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم . صدقوا في إيمانهم واعتقادهم ، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة .
وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به ، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق . .
وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها ، بمنهجه الرفيع القويم . . ثم ننظر إلى الناس وهن ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه ، ويحاربونه ، ويرصدون له العداوة ، ولكل من يدعوهم إليه . . ونقلب أيادينا في أسف ، ونقول ما قال الله سبحانه : يا حسرة على العباد !
ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة ، على أمل في الله وثيق ، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع ، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل . أمل وضيء منير . أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء - بعد العناء الطويل - إلى هذا المنهج الرفيع ، وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء . . والله المستعان .
اشتملت هذه الآية الكريمة ، على جمَل عظيمة ، وقواعد عميمة ، وعقيدة مستقيمة ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عُبيد {[3086]} بن هشام الحلبي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عامر بن شُفَي ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن أبي ذر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ فتلا عليه : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية . قال : ثم سأله أيضًا ، فتلاها عليه {[3087]} ثم سأله . فقال : " إذا عملت حسنة أحبها{[3088]} قلبك ، وإذا عملت سيئة أبغضها{[3089]} قلبك " {[3090]} .
وهذا منقطع ؛ فإن{[3091]} مجاهدًا لم يدرك أبا ذر ؛ فإنه مات قديمًا .
وقال المسعودي : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، قال : جاء رجل إلى أبي ذر ، فقال : ما الإيمان ؟ فقرأ{[3092]} عليه هذه الآية : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } حتى فرغ منها . فقال الرجل : ليس عن البر سألتُكَ . فقال أبو ذر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه ، فقرأ عليه هذه الآية ، فأبى أن يرضى كما أبيت [ أنت ]{[3093]} أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأشار بيده - : " المؤمن إذا عمل حسنة سَرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها " {[3094]} .
رواه ابن مَرْدُويه ، وهذا أيضًا منقطع ، والله أعلم .
وأما الكلام على تفسير هذه الآية ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حوَّلهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ؛ ولهذا قال : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [ الحج : 37 ] .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تُصَلُّوا ولا تعملوا . فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .
وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك .
وقال أبو العالية : كانت اليهود تُقْبل{[3095]} قبل المغرب ، وكانت النصارى تُقْبل{[3096]} قبل المشرق ، فقال الله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته{[3097]} العمل . وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله .
وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله ، عز وجل .
وقال الضحاك : ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها .
وقال الثوري : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية ، قال : هذه أنواع البر كلها . وصدق رحمه الله ؛ فإن من اتصف بهذه الآية ، فقد دخل في عرى الإسلام كلها ، وأخذ بمجامع الخير كله ، وهو الإيمان بالله ، وهو أنه لا إله إلا هو ، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله { وَالْكِتَابِ } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ [ الله ]{[3098]} به كل ما سواه من الكتب قبله ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي : أخرجه ، وهو مُحب له ، راغب فيه . نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا : " أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر " .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث شعبة والثوري ، عن منصور ، عن زُبَيد ، عن مُرَّة ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أن{[3099]} تعطيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى{[3100]} وتخشى الفقر " . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[3101]} .
قلت وقد رواه وَكِيع عن الأعمش ، وسفيان عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، موقوفًا ، وهو أصح ، والله أعلم .
وقال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا } [ الإنسان : 8 ، 9 ] .
وقال تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] نمَط آخرُ أرفع من هذا [ ومن هذا ]{[3102]} وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه ، وهؤلاء أعطوا{[3103]} وأطعموا ما هم محبون له .
وقوله : { ذَوِي الْقُرْبَى } وهم : قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة ، كما ثبت في الحديث : " الصدقة على المساكين{[3104]} صدقة ، وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " . فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز .
{ وَالْيَتَامَى } هم : الذين لا كاسب{[3105]} لهم ، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب ، وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن النزال بن سبرة ، عن علي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يُتْم بعد حُلُم " .
{ وَالْمَسَاكِينَ } وهم : الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيعطون ما تُسَدُّ به حاجتهم وخلتهم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تَرده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له {[3106]} فَيُتَصَدق عليه{[3107]} .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو : المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة ، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان .
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم : الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن ، قالا حدثنا سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها{[3108]} - قال عبد الرحمن : حسين بن علي - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حق وإن جاء على فرس " . رواه أبو داود .
{ وَفِي الرِّقَابِ } وهم : المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم .
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف{[3109]} في آية الصدقات من براءة ، إن شاء الله تعالى . وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، حدثتني فاطمة بنت قيس : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت : فتلا علي { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ }{[3110]} .
ورواه ابن مَرْدُويه من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد ، كلاهما ، عن شريك ، عن أبي حمزة عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في المال حق سوى الزكاة " ثم تلا{[3111]} { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله : { وَفِي الرِّقَابِ }
[ وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي{[3112]} وضعف أبا حمزة ميمونًا {[3113]} الأعور ، قال : وقد رواه بيان{[3114]} وإسماعيل بن سالم عن الشعبي ]{[3115]} .
وقوله : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } أي : وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها ، وسجودها ، وطمأنينتها ، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي .
وقوله : { وَآتَى الزَّكَاةَ } يُحْتَمَلُ أن يكون المراد به زكاة النفس ، وتخليصها من الأخلاق الدنية{[3116]} الرذيلة ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 ، 10 ] وقول موسى لفرعون : { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [ النازعات : 18 ، 19 ] وقوله تعالى : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6 ، 7 ] .
ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال{[3117]} كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء{[3118]} هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس : أن في المال حقا سوى الزكاة ، والله أعلم .
وقوله : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } كقوله : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [ الرعد : 20 ] وعكس هذه الصفة النفاق ، كما صح في الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " . وفي الحديث الآخر : " إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " {[3119]} .
وقوله : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : في حال الفقر ، وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام ، وهو الضراء . { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : في حال القتال والتقاء الأعداء ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومُرّة الهمداني ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك ، والضحاك ، وغيرهم .
وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته ، والله أعلم ، وهو المستعان وعليه التكلان .
وقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي : هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صَدَقوا في إيمانهم ؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلََكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىَ حُبّهِ ذَوِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصّلاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولََئِكَ الّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ليس البرّ الصلاة وحدها ، ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ يعني الصلاة . يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا ، فهذا منذ تحوّل من مكة إلى المدينة ، ونزلت الفرائض ، وحدّ الحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لَيْسَ البرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمغرِبِ ولكنّ البرّ ما ثبت في القلوب من طاعة الله .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس ، قال : هذه الآية نزلت بالمدينة : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرق وَالمَغْرِبِ يعني الصلاة ، يقول : ليس البرّ أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك . قال ابن جريج وقال مجاهد : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وجوهَكم قِبَل المشرِق والمغرِبِ يعني السجود ولكنّ البرّ ما ثبت في القلب من طاعة الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو نميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم أنه قال فيها ، قال يقول : ليس البرّ أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك . وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة ، فأنزل الله الفرائض وحدّ الحدود بالمدينة ، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها .
وقال آخرون : عنى الله بذلك اليهود والنصارى ، وذلك أن اليهود تصلي فتوجّه قبل المغرب ، والنصارى تصلي فتوجّه قبل المشرق ، فأنزل الله فيهم هذه الآية يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه ولكنه ما بيناه في هذه الآية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة ، قال : كانت اليهود تصلي قبل المغرب ، والنصارى تصلي قبل المشرق ، فنزلت : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَل المَشْرِق وَالمَغْرِبِ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ ذكر لنا أن رجلاً سأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن البرّ ، فأنزل الله هذه الآية ، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه . وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجَى له ويطمع له في خير فأنزل الله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وكانت اليهود توجهت قِبَل المغرب ، والنصارى قِبَل المشرق وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِر الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : كانت اليهود تصلي قِبَل المغرب ، والنصارى قِبَل المشرق ، فنزلت : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ .
وأولى هذين القولين بتأويل الآية القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس أن يكون عنى بقوله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ اليهود والنصارى ، لأن الاَيات قبلها مضت بتوبيخهم ولومهم والخبر عنهم وعما أعدّ لهم من أليم العذاب ، وهذا في سياق ما قبلها ، إذ كان الأمر كذلك ، ليس البرّ أيها اليهود والنصارى أن يولي بعضكم وجهه قِبَل المشرق وبعضكم قِبَل المغرب ، وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتابِ الآية .
فإن قال قائل : فكيف قيل : وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنِ باللّهِ ، وقد علمت أن البرّ فعل ، و«مَنْ » اسم ، فكيف يكون الفعل هو الإنسان ؟ قيل : إن معنى ذلك غير ما توهمته ، وإنما معناه : ولكن البر كمن آمن بالله واليوم الاَخر ، فوضع «مَنْ » موضع الفعل اكتفاء بدلالته ودلالة صلته التي هي له صفة من الفعل المحذوف كما تفعله العرب فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة ، فتقول : «الجود حاتم ، والشجاعة عنترة » و«إنما الجود حاتم ، والشجاعة عنترة » ، ومعناها : الجود جود حاتم ، فتستغني بذكر حاتم إذ كان معروفا بالجود من إعادة ذكر الجود بعد الذي قد ذكرته فتضعه موضع جوده لدلالة الكلام على ما حذفته استغناء بما ذكرته عما لم تذكره ، كما قيل : واسْألِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا والمعنى : أهل القرية ، وكما قال الشاعر ، وهو ذو الخِرَق الطهوي :
حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَناقا وَما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بالعنَاقِ
يريد بغام عناق أو صوت ( عناق ) كما يقال : حسبت صياحي أخاك ، يعني به حسبت صياحي صياح أخيك . وقد يجوز أن يكون معنى الكلام : ولكن البارّ من آمن بالله ، فيكون البرّ مصدرا وضع موضع الاسم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى واليتَامَى وَالمَساكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وآتى المَالَ على حُبّهِ وأعطى ماله في حين محبته إياه وضنه به وشحه عليه . كما :
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن زبيد ، عن مرة بن شراحيل البكيلي ، عن عبد الله بن مسعود : وآتى المَالَ على حُبّهِ أي يؤتيه وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قالا جميعا ، عن سفيان ، عن زبيد اليامي ، عن مرة ، عن عبد الله : وآتى المَالَ على حُبّهِ قال : وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد اليامي ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : وآتى المَالَ على حُبّهِ قال : وأنت حريص شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر .
حدثنا أحمد بن نعمة المصري ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثنا إبراهيم بن أعين ، عن شعبة بن الحجاج ، عن زبيد اليامي ، عن مرة الهمداني ، قال : قال عبد الله بن مسعود في قول الله : وآتى المَالَ على حُبّهِ ذوي القربى ، قال : حريصا شحيحا يأمل الغنى ويخشى الفقر .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي سمعته يسأل : هل على الرجل حق في ماله سوى الزكاة ؟ قال : نعم ، وتلا هذه الآية : وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى واليَتامَى وَالمَساكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وفِي الرّقابِ وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا أبو حمزة قال : قلت للشعبي : إذا زكى الرجل ماله أيطيب له ماله ؟ فقرأ هذه الآية : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ إلى وآتى المَالَ على حُبّهِ إلى آخرها . ثم قال : حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت : يا رسول الله إن لي سبعين مثقالاً من ذهب ، فقال : «اجْعَلِيها فِي قَرابَتِكِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، قال : حدثنا أبو حمزة فيما أعلم عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول : إن في المال لحقّا سوى الزكاة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي حيان ، قال : حدثني مزاحم بن زفر ، قال : كنت جالسا عند عطاء ، فأتاه أعرابي فقال له : إن لي أبلاً فهل عليّ فيها حقّ بعد الصدقة ؟ قال : نعم قال : ماذا ؟ قال : عارية الذلول ، وطروق الفحل ، والحلب .
حدثني موسى بن هارون ، حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، ذكره عن مرة الهمداني في : وآتى المَالَ على حُبّهِ قال : قال عبد الله بن مسعود : تعطيه وأنت صحيح شحيح تطيل الأمل وتخاف الفقر . وذكر أيضا عن السدي أن هذا شيء واجب في المال حقّ على صاحب المال أن يفعله سوى الذي عليه من الزكاة .
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا سويد بن عبد الله ، عن أبي حمزة ، عن عامر ، عن فاطمة بن قيس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «فِي المَال حَقّ سوَى الزّكاة » وتلا هذه الآية : لَيْسَ البِرّ إلى آخر الآية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن زبيد اليامي ، عن مرة بن شراحيل ، عن عبد الله في قوله : ( وآتى المَالَ على حُبّهِ )قال : أن يعطى الرجل وهو صحيح شحيح به يأمل العيش ويخاف الفقر .
فتأويل الآية : وأعطى المال وهو له محبّ حريص على جمعه ، شحيح به ذوي قرابته فوصل به أرحامهم .
وإنما قلت : عنى بقوله : ذَوِي القُرْبَى ذوي قرابة مؤدّي المال على حبه للخبر الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمة بنت قيس ، وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل : أيّ الصدقة أفضل ؟ قال : «جُهْدُ المُقلّ على ذِي القَرَابَةِ الكاشِح » .
وأما اليتامى والمساكين فقد بينا معانيهما فيما مضى . وأما ابن السبيل فإنه المجتاز بالرجل .
ثم اختلف أهل العلم في صفته ، فقال بعضهم : هو الضيفُ من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وابْنَ السّبِيلِ قال : هو الضيف قال : قد ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «مَنْ كانَ يُؤْمِنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ فَلْيقُلْ خَيْرا أوْ لِيَسْكُتْ » قال : وكان يقول : «حَقّ الضّيافَةِ ثَلاثُ لَيالٍ ، فَكُلّ شَيْءٍ أضَافَهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَدقَةٌ » .
وقال بعضهم : هو المسافر يمرّ عليك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر : وابْنَ السّبِيل قال : المجتاز من أرض إلى أرض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وقتادة في قوله : وَابْنَ السّبِيلِ قال : الذي يمرّ عليك وهو مسافر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عمن ذكره ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وقتادة مثله .
وإنما قيل للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق ، والطريق هو السبيل ، فقيل لملازمته إياه في سفره ابنه كما يقال لطير الماء ابن الماء لملازمته إياه ، وللرجل الذي أتت عليه الدهور ابن الأيام والليالي والأزمنة ، ومنه قول ذي الرمة :
وَرَدْتُ اعْتِسافا والثّرَيّا كأنّها *** على قِمّةِ الرأسِ ابْنُ ماءٍ مُحَلّقُ
وأما قوله وَالسّائِلِينَ فإنه يعني به : المستطعمين الطالبين . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن عكرمة في قوله : وَالسّائِلينَ قال : الذي يسألك .
وأما قوله : وَفِي الرّقابِ فإنه يعني بذلك : وفي فكّ الرقاب من العبودة ، وهم المكاتَبُون الذين يسعون في فكّ رقابهم من العبودة بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها ساداتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وأقامَ الصّلاةَ أدام العمل بها بحدودها ، وبقوله : وآتى الزّكاةَ أعطاها على ما فرضها الله عليه .
فإن قال قائل : وهل من حقّ يجب في مال إيتاؤه فرضا غير الزكاة ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : فيه حقوق تجب سوى الزكاة واعتلوا لقولهم ذلك بهذه الآية ، وقالوا : لما قال الله تبارك وتعالى : وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى ومن سمى الله معهم ، ثم قال بعد : وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ علمنا أن المال الذي وصف المؤمنين به أنهم يؤتونه ذوي القربى ، ومن سمى معهم غير الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها لأن ذلك لو كان مالاً واحدا لم يكن لتكريره معنى مفهوم . قالوا : فلما كان غير جائز أن يقول تعالى ذكره قولاً لا معنى له ، علمنا أن حكم المال الأول غير الزكاة ، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره . قالوا : وبعد فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك .
وقال آخرون : بل المال الأول هو الزكاة ، ولكن الله وصف إيتاء المؤمنين من آتوه ذلك في أول الآية ، فعرّف عباده بوصفه ما وصف من أمرهم المواضع التي يجب عليهم أن يضعوا فيها زكواتهم ثم دلهم بقوله بعد ذلك : وآتى الزّكاة أن المال الذي آتاه القوم هو الزكاة المفروضة كانت عليهم ، إذ كان أهل سهمانها هم الذين أخبر في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم .
وأما قوله : وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا فإنه يعني تعالى ذكره : والذين لا ينقضون عهد الله بعد المعاهدة ، ولكن يوفون به ويتمونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه . كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا قال : فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه ، ومن أعطى ذمة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم غدر بها فالنبيّ صلى الله عليه وسلم خصمه يوم القيامة . وقد بينت العهد فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالّصابِرِينَ فِي البَأساءِ وَالضّرّاءِ .
قد بينا تأويل الصبر فيما مضى قبل . فمعنى الكلام : والمانعين أنفسهم في البأساء والضرّاء وحين البأس مما يكرهه الله لهم الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته .
ثم قال أهل التأويل في معنى البأساء والضرّاء بما :
حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثني أبي ، وحدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قالا جميعا : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود أنه قال : أما البأساء فالفقر ، وأما الضرّاء فالسقم .
حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قالا جميعا : حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قوله : وَالصّابِرِينَ فِي البَأساءِ وَالضّرّاءِ قال : البأساء الجوع ، والضراء المرض .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : البأساء : الحاجة ، والضرّاء : المرض .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدّث أن البأساء : البؤس والفقر ، وأن الضرّاء : السقم ، وقد قال النبيّ أيوب صلى الله عليه وسلم : أنّي مَسّنِيَ الضّرّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِين .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَالصّابِرِينَ فِي البأساءِ وَالضّرّاءِ قال : البؤس : الفاقة والفقر ، والضرّاء في النفس من وجع أو مرض يصيبه في جسده .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : البأساءِ وَالضراءِ قال : البأساء : البؤس ، والضرّاء : الزمانة في الجسد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك ، قال : البأساء والضرّاء : المرض .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : وَالصّابِرينَ فِي البَأْساءِ وَالضّرّاءِ قال : البأساء : البؤس والفقر ، والضرّاء : السقم والوجع .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبيد بن الطفيل ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية : وَالصّابِرِينَ فِي البأساءِ وَالضّرّاءِ أما البأساء : الفقر ، والضرّاء : المرض .
وأما أهل العربية : فإنهم اختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم : البأساء والضرّاء مصدر جاء على فعلاء ليس له أفعل لأنه اسم ، كما قد جاء أفعل في الأسماء ليس له فعلاء نحو أحمد ، وقد قالوا في الصفة أفعل ولم يجىء له فعلاء ، فقالوا : أنت من ذلك أوجل ، ولم يقولوا وجلاء . وقال بعضهم : هو اسم للفعل ، فإن البأساء البؤس ، والضرّاء الضر ، وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث وإن شئت لمذكر ، كما قال زهير :
فتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمانَ أشْأمَ كُلّهُمْ كأحْمَر عادٍ ثُمّ تُرْضِعْ فتَفْطِمِ
وقال بعضهم : لو كان ذلك اسما يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث لجاز إجراء أفعل في النكرة ، ولكنه اسم قام مقام المصدر والدليل على ذلك قولهم : «لئن طلبت نصرتهم لتجدنهم غير أبْعَدَ » بغير إجراء وقال : إنما كان اسما للمصدر لأنه إذا ذكر علم أنه يراد به المصدر . وقال غيره : لو كان ذلك مصدرا فوقع بتأنيث لم يقع بتذكير ، ولو وقع بتذكير لم يقع بتأنيث لأن من سُمي بأفعل لم يصرف إلى فعلى ، ومن سُمي بفعلى لم يصرف إلى أفعل ، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره ، ولكنهما لغتان ، فإذا وقع بالتذكير كان بأمر أشأم ، وإذا وقع البأساء والضرّاء ، وقع الخلة البأساء والخلة الضراء ، وإن كان لم يبن على الضراء الأضر ولا على الأشأم الشأماء ، لأنه لم يرد من تأنيثه التذكير ولا من تذكيره التأنيث ، كما قالوا : امرأة حسناء ، ولم يقولوا : رجل أحسن ، وقالوا : رجل أمرد ، ولم يقولوا : امرأة مرداء ، فإذا قيل الخصلة الضراء والأمر الأشأم دل على المصدر ، ولم يحتج إلى أن يكون اسما ، وإن كان قد كفى من المصدر .
وهذا قول مخالف تأويل من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل البأساء والضراء وإن كان صحيحا على مذهب العربية ، وذلك أن أهل التأويل تأوّلوا البأساء بمعنى البؤس ، والضرّاء بمعنى الضرّ في الجسد ، وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجهوا البأساء والضراء إلى أسماء الأفعال دون صفات الأسماء ونعوتها . فالذي هو أولى بالبأساء والضراء على قول أهل التأويل أن تكون البأساء والضراء أسماء أفعال ، فتكون البأساء اسما للبؤس ، والضراء اسما للضر .
وأما الصابرين فنصبٌ ، وهو من نعت «مَنْ » على وجه المدح ، لأن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بالمدح والذمّ بالنصب أحيانا وبالرفع أحيانا ، كما قال الشاعر :
إلى المَلِك القَرْم وَابْن الهُمام ولَيْثَ الكَتِيبَة في المُزْدَحَمْ
وذَا الرأي حِينَ تُغَمّ الأمُورُ بِذَات الصّلِيل وَذَات اللّجُمْ
فنصب ليث الكتيبة وذا الرأي على المدح ، والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحد . ومنه قول الاَخر :
فَلَيْتَ الّتِي فِيها النّجومُ تَوَاضَعَت *** على كُلّ غَثَ مِنْهُمُ وَسمينِ
غُيُوثُ الَوَرى في كُلّ مَحْلٍ وأزْمَةٍ *** أُسُودُ الشّرَى يَحْمينَ كلّ عَرين
وقد زعم بعضهم أن قوله : وَالصّابِرِينَ فِي البَأساءِ نصب عطفا على السائلين ، كأن معنى الكلام كان عنده : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين والصابرين في البأساء والضراء .
وظاهر كتاب الله يدل على خطأ هذا القول ، وذلك أن الصابرين في البأساء والضراء هم أهل الزمانة في الأبدان وأهل الإقتار في الأموال ، وقد مضى وصف القوم بإيتاء من كان ذلك صفته المال في قوله : وَالَمساكينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وأهل الفاقة والفقر هم أهل البأساء والضراء ، لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء لم يكن ممن له قبول الصدقة ، وإنما له قبولها إذا كان جامعا إلى ضرائه بأساء ، وإذا جمع إليها بأساء كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة المساكين الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله : وَالصّابرِينَ في البأساء . وإذا كان كذلك ثم نصب الصابرين في البأساء بقوله : وآتى المالَ على حُبّهِ كان الكلام تكريرا بغير فائدة معنى ، كأنه قيل : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين ، والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عباده ، ولكن معنى ذلك : ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الاَخر ، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء . والموفون رفع لأنه من صفة «مَنْ » ، و«مَنْ » رفعٌ فهو معرب بإعرابه ، والصابرين نصب وإن كان من صفته على وجه المدح الذي وصفنا قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَحِينَ البَأْسِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَحِينَ البأْسِ والصابرين في وقت البأس ، وذلك وقت شدة القتال في الحرب . كما :
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العبقري ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قول الله : وَحِينَ البأسِ قال : حين القتال .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَحِين البَأْسِ القتال .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : وَحِينَ البأّسِ أي عند مواطن القتال .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَحِين البَأْسِ القتال .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَحِينَ البَأْسِ عند لقاء العدوّ .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك : وَحِينَ البأْسِ القتال .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : وَحِينَ البأْس قال : القتال .
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتّقُون .
يعني تعالى ذكره بقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا من آمن بالله واليوم الاَخر ، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية ، يقول : فمن فعل هذه الأشياء فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم ، لا من ولّى وجهه قِبَل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره وينقض عهده وميثاقه ويكتم الناس بيان ما أمره الله ببيانه ويكذّب رسله .
وأما قوله : وأؤُلَئِكَ هُمُ المُتّقُون فإنه يعني : وأؤلئك الذين اتقوا عقاب الله فتجنبوا عصيانه وحذروا وعده فلم يتعدّوا حدوده وخافوه ، فقاموا بأداء فرائضه .
وبمثل الذي قلنا في قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا كان الربيع بن أنس يقول .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا قال : فتكلموا بكلام الإيمان ، فكانت حقيقته العمل صدقوا الله . قال : وكان الحسن يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء .
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )
وقوله تعالى : { ليس البرُّ } الآية : قرأ أكثر السبعة برفع الراء ، و «البرُّ » اسم ليس ، قال أبو علي : «ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مذهب أبي علي أن { ليس } حرف ، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «ليس البرَّ » بنصب الراء ، جعل { أن تولوا } بمنزلة المضمر ، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر ، والمضمر أولى أن يكون اسماً يخبر عنه( {[1593]} ) ، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود { ليس البرّ بأن تولوا } ، وقال الأعمش ، إن في مصحف عبد الله : ( لا تحسبن البر ) ( {[1594]} ) ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : الخطاب بهذه الآية للمؤمنين ، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها ، وقال قتادة والربيع : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها ، وقرأ الجمهور «ولكن البر » ( {[1595]} )والتقدير ولكن البر بر من ، وقيل : التقدير ولكن ذو البر من ، وقيل : { البر } بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من ، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف ، كقولك رجل عدل ورضى( {[1596]} ) .
والإيمان التصديق ، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع .
وقوله تعالى : { وآتى المال على حبه } الآية ، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة ، وبها كمال البر( {[1597]} ) ، وقيل هي الزكاة ، و { آتى } معناه أعطى ، والضمير في { حبه } عائد على { المال }( {[1598]} ) فالمصدر مضاف إلى المفعول ، ويجيء قوله { على حبه } اعتراضاً بليغاً أثناء القول( {[1599]} ) ، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة ، فإيتاء المال حبيب إليهم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى من قوله : { من آمن بالله } أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته ، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في { آتى } أي على حبه المال ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى المقصود : أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى ، كما قال صلى الله عليه وسلم( {[1600]} ) .
قال القاضي أبو محمد : والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح }( {[1601]} ) [ النساء : 128 ] ، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفاً بالشح الذي هو البخل ، و { ذوي القربى } يراد به قرابة النسب .
واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ ، وقال مجاهد وغيره : { ابن السبيل } المسافر لملازمته السبيل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة ابن زنى »( {[1602]} ) أي الملازم له ، وقيل : لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها ، وقال قتادة : { ابن السبيل } الضيف ، والأول أعم ، و { في الرقاب } : يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات ( واقام الصلاة } أتمها بشروطها ، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة ، و { الموفون } عطف على { من } في قوله : { من آمن } ، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون ، و { الصابرين } نصب على المدح أو على إضمار فعل ، وهذا مهيع( {[1603]} ) في تكرار النعوت ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «والموفين » على المدح أو على قطع النعوت ، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن { والموفون } «والصابرون » وقرأ الجحدري { بعهودهم } ، و { البأساء } الفقر والفاقة ، و { الضراء } المرض ومصائب البدن ، و { حين البأس } وقت شدة القتال .
هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة ، وتقول العرب : بئس الرجل إذا افتقر ، وبؤس إذا شجع .
ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول : صدقني المال وصدقني الربح ، ومنه عود صدق( {[1604]} ) ، وتحتمل اللفظة أيضاً صدق الإخبار ، ووصفهم الله تعالى بالتقى ، والمعنى هم الذي جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح .