تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (194)

ولما ذكروا توفيق الله إياهم للإيمان ، وتوسلهم به إلى تمام النعمة ، سألوه الثواب على ذلك ، وأن ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة رسله من النصر ، والظهور في الدنيا ، ومن الفوز برضوان الله وجنته في الآخرة ، فإنه تعالى لا يخلف الميعاد ، فأجاب الله دعاءهم ، وقبل تضرعهم ، فلهذا قال :

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (194)

180

وختام هذا الدعاء . توجه ورجاء . واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد :

( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد )

فهو استنجاز لوعد الله ، الذي بلغته الرسل ، وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد ، ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة ، يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء ، ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي ، وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه . مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله .

والدعاء في مجموعة يمثل الاستجابة الصادقة العميقة ، لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه ، في القلوب السليمة المفتوحة . .

ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء ، من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء . .

إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر ، فيه ليست حرفا متحدا ، ولكنها إيقاع متشابه - مثل : " بصير . حكيم . مبين . مريب " . . " الألباب ، الأبصار ، النار . قرار " . . " خفيا . شقيا . شرقيا . شيئا . " . . . إلخ .

وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير . والثانية في مواضع الدعاء . والثالثة في مواضع الحكاية .

وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى . ولم تبعد عنها إلا في موضعين : أولهما في أوائل السورة وفيه دعاء . والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد . .

وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني . . فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية ، وعذوبة صوتية . تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال .

وهناك ظاهرة فنية أخرى . . إن عرض هذا المشهد : مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم ، عميق النبرات . فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته ، على الأعصاب والأسماع والخيال ، فيؤثر في الوجدان ، بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف . . وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضا أصيلا من أغراض التعبير القرآني ، ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (194)

{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } قيل : معناه : على الإيمان برسلك . وقيل : معناه : على ألسنة رسلك . وهذا أظهر .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن محمد ، عن أبي عِقَال ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَسْقَلان أحد العروسين ، يبعث الله منها يوم القيامة سبعين{[6372]} ألفًا لا حساب عليهم ، ويبعث منها خمسين{[6373]} ألفا شهداء وُفُودًا إلى الله ، وبها صُفُوف الشهداء ، رؤوسهم مُقَّطعة في أيديهم ، تَثِجّ أوداجهم دما ، يقولون : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } فيقول : صَدَق عبدي ، اغسلوهم بنهر البيضة . فيخرجون منه نقاء بيضًا ، فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا " .

وهذا الحديث يُعد من غرائب المسند ، ومنهم من يجعله موضوعا ، والله أعلم{[6374]} .

{ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : على رؤوس الخلائق { إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي : لا بد من الميعاد الذي أخبرتَ عنه رسُلَك ، وهو القيام يوم القيامة بين يديك .

وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سُرَيْج{[6375]} حدثنا المعتمر ، حدثنا الفضل بن عيسى ، حدثنا محمد بن المنكدر ؛ أن جابر بن عبد الله حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العار والتخزية تبلغ{[6376]} من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله ، عز وجل ، ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار " حديث غريب{[6377]} .

/خ194


[6372]:في ر: "سبعون".
[6373]:في جـ، ر، أ: "خمسون".
[6374]:المسند (3/225) وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (2/54) وقال: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع طرقه تدور على أبي عقال واسمه: هلال بن زيد بن يسار. قال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة ما حدث أنس بها قط، لا يجوز الاحتجاج به بحال"، وذكره الذهبي في الميزان (4/313) وقال: "باطل". وانظر كلام الحافظ ابن حجر في: القول المسدد برقم (8) فقد ذكر أن الحديث في فضائل الأعمال والتحريض على الرباط في سبيل الله وأن التسامح في رواية مثله طريقة الإمام أحمد - رحمه الله - ثم ساق له شواهد، فراجعها إن شئت.
[6375]:في جـ، ر: "شريح".
[6376]:في جـ، ر: "يبلغ".
[6377]:مسند أبي يعلى (3/311) وقال الهيثمي في المجمع (10/350): "وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو مجمع على ضعفه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (194)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىَ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } .

إن قال لنا قائل : وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربهم أن يؤتيهم ما وعدهم ، وقد علموا أن الله منجز وعده ، وغير جائز أن يكون منه إخلاف موعد ؟ قيل : اختلف في ذلك أهل البحث ، فقال بعضهم : ذلك قول خرج مخرج المسألة ، ومعناه الخبر ، قالوا : وإنما تأويل الكلام : ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا ، وتوفنا مع الأبرار ، لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، قالوا : وليس ذلك على أنهم قالوا : إن توفيتنا مع الأبرار فانجز لنا ما وعدتنا لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد ، وأن ما وعد على ألسنة رسله ليس يعطيه بالدعاء ، ولكنه تفضل بإيتائه ، ثم ينجزه .

وقال آخرون : بل ذلك قول من قائله على معنى المسألة والدعاء لله ، بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله ، لا أنهم كانوا قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم ، ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم ، فيكون ذلك منهم مسألة لربهم أن لا يخلف وعده ، قالوا : ولو كان القوم إنما سألوا ربهم أن يؤتيهم ما وعد الأبرار ، لكانوا قد زكوا أنفسهم ، وشهدوا لها أنها ممن قد استوجب كرامة الله وثوابه ، قالوا : وليس ذلك صفة أهل الفضل من المؤمنين .

وقال آخرون : بل قالوا هذا القول على وجه المسألة ، والرغبة منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر ، والظفر بهم ، وإعلاء كلمة الحق على الباطل ، فيعجل ذلك لهم ، قالوا : ومحال أن يكون القوم مع وصف الله إياهم بما وصفهم به كانوا على غير يقين من أن الله لا يخلف الميعاد ، فيرغبوا إلى الله جل ثناؤه في ذلك ، ولكنهم كانوا وعدوا النصر ، ولم يوقت لهم في تعجيل ذلك لهم ، لما في تعجله من سرور الظفر وراحة الجسد .

والذي هو أولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي : أن هذه الصفة ، صفة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه وداره ، مفارقا لأهل الشرك بالله إلى الله ورسوله ، وغيرهم من تباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نصرتهم على أعداء الله وأعدائهم ، فقالوا : ربنا آتنا ما وعدتنا من نصرتك عليهم عاجلاً ، فإنك لا تخلف الميعاد ، ولكن لا صبر لنا على أناتك وحلمك عنهم ، فعجل حربهم ، ولنا الظفر عليهم . يدل على صحة ذلك آخر الاَية الأخرى ، وهو قوله : { فاسْتَجابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أنّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فالّذِينَ هاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأُوذُوا في سَبِيلي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا } . . . الاَيات بعدها . وليس ذلك مما ذهب إليه الذين حكيت قولهم في شيء ، وذلك أنه غير موجود في كلام العرب أن يقال : افعل بنا يا رب كذا وكذا ، بمعنى : افعل بنا لكذا الذي ولو جاز ذلك ، لجاز أن يقول القائل لاَخر : أقبل إليّ وكلمني ، بمعنى : أقبل إليّ لتكلمني ، وذلك غير موجود في الكلام ، ولا معروف جوازه ، وكذلك أيضا غير معروف في الكلام : آتنا ما وعدتنا ، بمعنى : اجعلنا ممن آتيته ذلك وإن كان كلّ من أعطى شيئا سنيا فقد صير نظيرا لمن كان مثله في المعنى الذي أعطيه ، ولكن ليس الظاهر من معنى الكلام ذلك ، وإن كان قد يؤول معناه إليه .

فتأويل الكلام إذًا : ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسن رسلك أنك تعلى كلمتك كلمة الحق ، بتأييدنا على من كفر بك وحادّك وعبد غيرك ، وعجّل لنا ذلك ، فإنا قد علمنا أنك لا تخلف ميعادك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، فتفضحنا بذنوبنا التي سلكت منا ، ولكن كفّرها عنا واغفرها لنا . وقد :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { رَبّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا على رُسُلِكَ } قال : يستنجز موعود الله على رسله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (194)

{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } أي ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب . لما أظهر امتثاله لما أمر به سأل ما وعد عليه لا خوفا من إخلاف الوعد بل مخافة أن لا يكون من الموعودين لسوء عاقبة ، أو قصور في الامتثال أو تعبدا واستكانة . ويجوز أن يعلق على بمحذوف تقديره : ما وعدتنا منزلا على رسلك ، أو محمولا عليهم . وقيل معناه على ألسنة رسلك . { ولا تخزنا يوم القيامة } بأن تعصمنا عما يقتضيه . { إنك لا تخلف الميعاد } بإثابة المؤمن وإجابة الداعي وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الميعاد البعث بعد الموت . وتكرير ربنا للمبالغة في الابتهال والدلالة على أن استقلال المطالب وعلو شأنها . وفي الآثار ( من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف ) .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (194)

وقوله : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } معناه : على ألسنة رسلك ، وقرأ الأعمش «رسْلك » بسكون السين ، وطلبوا من الله تعالى إنجاز الوعد ، وهو تعالى من لا يجوز عليه خلفه من حيث في طلبه الرغبة أن يكونوا ممن يستحقه ، فالطلبة والتخويف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا ، فمعنى قول المرء : اللهم أنجز لي وعدك ، إنما معناه : اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد ، وقيل : معنى دعائهم الاستعجال مع ثقتهم بأن الوعد منجز ، وقال الطبري وغيره : معنى الآية ما وعدتنا على ألسنة رسلك من النصر على الأعداء فكأن الدعوة إنما هي في حكم الدنيا ، وقولهم : { ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } ، إشارة إلى قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه }{[3798]} فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود{[3799]} .


[3798]:- من الآية (8) من سورة التحريم.
[3799]:- قال أبو حيان: "وانظر إلى حسن محاورة هؤلاء الذاكرين المتفكرين- فإنهم خاطبوا الله تعالى بلفظه: (ربنا) فهي إشارة إلى أنه أصلحهم وهيأهم للعبادة- وقد أخبروا أولا بنتيجة الفكر [ما خلقت هذا باطلا]- ثم نزهوه، ثم سألوه أن يقيهم النار- ثم ذكروا ما أنتجه لهم الفكر من إجابة الداعي للإيمان لأن ذلك مترتب على أنه سبحانه لم يخلق ذلك باطلا، ثم سألوه المغفرة والوفاة على الإيمان، ثم سألوه الجنة، وألا يفضحهم يوم القيامة- وتكرر لفظ [ربنا] خمس مرات للاستعطاف- وفي التكرار دليل على جواز الإلحاح في المسألة من الله]. بتصرف.