{ 100 } { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
أي : { قُلْ } للناس محذرا عن الشر ومرغبا في الخير : { لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } من كل شيء ، فلا يستوي الإيمان والكفر ، ولا الطاعة والمعصية ، ولا أهل الجنة وأهل النار ، ولا الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة ، ولا المال الحرام بالمال الحلال .
{ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } فإنه لا ينفع صاحبه شيئا ، بل يضره في دينه ودنياه .
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فأمر أُولي الألباب ، أي : أهل العقول الوافية ، والآراء الكاملة ، فإن الله تعالى يوجه إليهم الخطاب . وهم الذين يؤبه لهم ، ويرجى أن يكون فيهم خير .
ثم أخبر أن الفلاح متوقف على التقوى التي هي موافقة الله في أمره ونهيه ، فمن اتقاه أفلح كل الفلاح ، ومن ترك تقواه حصل له الخسران وفاتته الأرباح .
ثم تختم الفقرة بميزان يقيمه الله للقيم ، ليزن به المسلم ويحكم . ميزان يرجح فيه الطيب ويشيل الخبيث . كي لا يخدع الخبيث المسلم بكثرته في أي وقت وفي أي حال ! ( قل : لا يستوي الخبيث والطيب ؛ ولو أعجبك كثرة الخبيث ، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) . .
إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق ، هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام . والحرام خبيث ، والحلال طيب . . ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب . ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف ، وبلا عقابيل من ألم أو مرض . . وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة . . والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقابة القلب له ، يختار الطيب على الخبيث ؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة :
هذه هي المناسبة الحاضرة . . ولكن النص - بعد ذلك - أفسح مدى وأبعد أفقا . وهو يشمل الحياة جمعيا ، ويصدق في مواضع شتى :
لقد كان الله الذي أخرج هذه الأمة ، وجعلها خير أمة أخرجت للناس ، يعدها لأمر عظيم هائل . . كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض ، لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط ، ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط . ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة . رياضة تخلعها أولا من جاهليتها ؛ وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية ؛ وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته . ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلا وفق قيم الإسلام في ميزان الله . . حتى تكون ربانية حقا . . وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم . . وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ؛ ولو أعجبها كثرة الخبيث ! والكثرة تأخذ العين وتهول الحس . ولكن تمييز الخبيث من الطيب ، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان الله ، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته ، وكفة الطيب ترجح على قلته . . وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة . . القوامة على البشرية . . تزن لها بميزان الله ؛ وتقدر لها بقدر الله ؛ وتختار لها الطيب ، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث !
وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان . . ذلك حين ينتفش الباطل ؛ فتراه النفوس رابيا ؛ وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته . . ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش ، فلا تضطرب يده ، ولا يزوغ بصره ، ولا يختل ميزانه ؛ ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد ؛ ولا عدة حوله ولا عدد . . إنما هو الحق . . الحق المجرد إلا من صفته وذاته ؛ وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته ؛ وإلا من جماله الذاتي وسلطانه !
لقد ربى الله هذه الأمة بمنهج القرآن ، وقوامة رسول الله [ ص ] حتى علم - سبحانه - أنها وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله . . لا في نفوسها وضمائرها فحسب ، ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض ، بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع ، وإهواء ومشارب ، وتصادم بين المصالح ، وغلاب بين الأفراد والجماعات . ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام .
لقد رباها بشتى التوجيهات ، وشتى المؤثرات ، وشتى الابتلاءات ، وشتى التشريعات ؛ وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدي دورا في النهاية واحدا ، هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها ، وبمشاعرها واستجاباتها ، وبسلوكها وأخلاقها ، وبشريعتها ونظامها ، لأن تقوم على دين الله في الأرض ، ولأن تتولى القوامة على البشر . . وحقق الله ما يريده بهذه الأمة . . والله غالب على أمره . . وقامت في واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين الله . . حلما يتمثل في واقع . . وتملك البشرية أن تترسمه في كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها الله . .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } يا محمد : { لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ } أي : يا أيها الإنسان { كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } يعني : أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار ، كما جاء في الحديث : " ما قَلَّ وكَفَى ، خَيْرٌ مما كَثُر وألْهَى " .
وقال أبو القاسم البَغَوِيُّ في معجمه : حدثنا أحمد بن زُهَيْر ، حدثنا الحَوْطِي ، حدثنا محمد بن شعيب ، حدثنا مُعان{[10426]} بن رِفاعة ، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة أنه أخبره عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " . {[10427]}
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ } أي : يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة ، وتجنبوا الحرام ودعوه ، واقنعوا بالحلال واكتفوا به { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لاّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتّقُواْ اللّهَ يَأُوْلِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لا يعتدل الرديء والجيد ، والصالح والطالح ، والمطيع والعاصي . " وَلَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ " يقول : لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله ولو كثر أهل المعاصي فعجبت من كثرتهم ، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلوا دون أهل معصيته ، وإنّ أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا . يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : فلا تعجبنّ من كثرة من يعصى الله فيمهله ولا يعاجله بالعقوبة فإن العقبى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ " قال : الخبيث : هم المشركون والطيّب : هم المؤمنون .
وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمراد به بعض أتباعه ، يدلّ على ذلك قوله : " فاتّقُوا اللّهَ يا أُولي الألْبابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ " .
القول في تأويل قوله تعالى : " فاتّقُوا اللّهَ يا أُولي الألْبابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ " .
يقول تعالى ذكره : واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم ، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث ، فتصيروا منهم . " يا أولي الألْبابِ " يعني بذلك : أهل العقول والحجا ، الذين عقلوا عن الله آياته ، وعرفوا مواقع حججه . " لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ " يقول : اتقوا الله لتفلحوا : أي كي تنجحوا في طلبتكم ما عنده .