تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (61)

{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }

أي : واذكروا ، إذ قلتم لموسى ، على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها ، { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } أي : جنس من الطعام ، وإن كان كما تقدم أنواعا ، لكنها لا تتغير ، { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا } أي : نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه ، { وَقِثَّائِهَا } وهو الخيار { وَفُومِهَا } أي : ثومها ، والعدس والبصل معروف ، قال لهم موسي { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } وهو الأطعمة المذكورة ، { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وهو المن والسلوى ، فهذا غير لائق بكم ، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم ، أي مصر هبطتموه وجدتموها ، وأما طعامكم الذي من الله به عليكم ، فهو خير الأطعمة وأشرفها ، فكيف تطلبون به بدلا ؟

ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه ، جازاهم من جنس عملهم فقال : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } التي تشاهد على ظاهر أبدانهم { وَالْمَسْكَنَةُ } بقلوبهم ، فلم تكن أنفسهم عزيزة ، ولا لهم همم عالية ، بل أنفسهم أنفس مهينة ، وهممهم أردأ الهمم ، { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي : لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا ، إلا أن رجعوا بسخطه عليهم ، فبئست الغنيمة غنيمتهم ، وبئست الحالة حالتهم .

{ ذَلِكَ } الذي استحقوا به غضبه { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالات على الحق الموضحة لهم ، فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم ، وبما كانوا { يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ }

وقوله : { بِغَيْرِ الْحَقِّ } زيادة شناعة ، وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق ، لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم .

{ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا } بأن ارتكبوا معاصي الله { وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } على عباد الله ، فإن المعاصي يجر بعضها بعضا ، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير ، ثم ينشأ عنه الذنب الكبير ، ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك ، فنسأل الله العافية من كل بلاء .

واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن ، وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم ، ونسبت لهم لفوائد عديدة ، منها : أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم ، ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به ، فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم ، ما يبين به لكل أحد [ منهم ] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق ، ومعالي الأعمال ، فإذا كانت هذه حالة سلفهم ، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين ؟ " .

ومنها : أن نعمة الله على المتقدمين منهم ، نعمة واصلة إلى المتأخرين ، والنعمة على الآباء ، نعمة على الأبناء ، فخوطبوا بها ، لأنها نعم تشملهم وتعمهم .

ومنها : أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم ، مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها ، حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد ، وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع .

لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع ، وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع .

ومنها : أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها ، والراضي بالمعصية شريك للعاصي ، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (61)

40

لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها ، والسماء بشواظها ورجومها . فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء ، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى : عسلا وطيرا . . ولكن البنية النفسية المفككة ، والجبلة الهابطة المتداعية ، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر ، ومن أجلها ضربوا في الصحراء . . لقد أخرجهم الله - على يدي نبيهم موسى - عليه السلام - من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة ، وليرفعهم من المهانة والضعة . . وللحرية ثمن ، وللعزة تكاليف ، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية . ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن ، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف ، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية . حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة . حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم ، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة ، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة . إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في مصر . يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء . . وما إليها ! وهذا ما يذكرهم القرآن به . وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة :

( وإذ قلتم : يا موسى لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها . قال : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم . . وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباؤوا بغضب من الله ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) . .

ولقد تلقى موسى - عليه السلام - طلبهم بالاستنكار :

( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ ) . .

أتريدون الدنية وقد أراد الله لكم العلية ؟

( اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) . .

إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد ، لا يستحق الدعاء ؛ فهو موفور في أي مصر من الأمصار ، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها . . وإما بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها . . عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة . إلى حياتكم الخانعة الذليلة . . حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء ! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها . . ويكون هذا من موسى - عليه السلام - تأنيبا لهم وتوبيخا .

وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين ، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى :

( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ) . .

فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، وعودتهم بغضب الله ، لم يكن - من الناحية التاريخية - في هذه المرحلة من تاريخهم ؛ إنما كان فيما بعد ، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها :

( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير الحق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .

وقد وقع هذا منهم متأخرا بعد عهد موسى بأجيال . إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء ! فناسب أن يكون قول موسى لهم ، ( اهبطوا مصرا ) هو تذكير لهم بالذل في مصر ، وبالنجاة منه ، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (61)

يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى ، طعامًا طيبًا نافعًا هنيئًا سهلا واذكروا دَبَرَكم وضجركم مما رزَقتكم{[1888]} وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيّة من البقول ونحوها مما سألتم . وقال الحسن البصري رحمه الله : فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم{[1889]} الذي كانوا فيه ، وكانوا قومًا أهل أعداس وبصل وبقل وفوم ، فقالوا : { يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } [ وهم يأكلون المن والسلوى ، لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو كأكل واحد ]{[1890]} . فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة . وأما " الفوم " فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود " وثومها " بالثاء ، وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم ، عنه ، بالثوم . وكذا الربيع بن أنس ، وسعيد بن جبير .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : { وَفُومِهَا } قال : قال ابن عباس : الثوم .

قالوا : وفي اللغة القديمة : فَوِّمُوا لنا بمعنى : اختبزوا . وقال ابن جرير : فإن كان ذلك صحيحًا ، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم : وقعوا في " عاثُور شَرّ ، وعافور شر ، وأثافي وأثاثي ، ومغافير ومغاثير " . وأشباه{[1891]} ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما ، والله أعلم .

وقال آخرون : الفوم الحنطة ، وهو البر الذي يعمل منه الخبز .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب قراءة ، حدثني نافع بن أبي نعيم : أن ابن عباس سئِل عن قول الله : { وَفُومِهَا } ما فومها ؟ قال : الحنطة . قال ابن عباس : أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :

قد كنتُ أغنى الناس شخصًا واحدًا *** وَرَدَ المدينة عن زرَاعة فُوم{[1892]}

وقال ابن جرير : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا مسلم الجرمي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كُرَيْب ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى : { وَفُومِهَا } قال : الفوم الحنطة بلسان بني هاشم .

وكذا قال علي بن أبي طلحة ، والضحاك{[1893]} وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم : الحنطة .

وقال سفيان الثوري ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد وعطاء : { وَفُومِهَا } قالا وخبزها .

وقال هُشَيْم عن يونس ، عن الحسن ، وحصين ، عن أبي مالك : { وَفُومِهَا } قال : الحنطة .

وهو قول عكرمة ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، والله أعلم{[1894]} .

[ وقال الجوهري : الفوم : الحنطة . وقال ابن دريد : الفوم : السنبلة ، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز . قال : وقال بعضهم : هو الحمص لغة شامية ، ومنه يقال لبائعه : فامي مغير عن فومي ]{[1895]} .

وقال البخاري : وقال بعضهم : الحبوب التي تؤكل كلها فوم .

وقوله تعالى : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } فيه تقريع لهم وتوبيخ{[1896]} على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيّة مع ما هم فيه من العيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع .

وقوله : { اهْبِطُوا مِصْرًا } هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور بالصرف .

قال ابن جرير : ولا أستجيز{[1897]} القراءة بغير ذلك ؛ لإجماع المصاحف على ذلك .

وقال ابن عباس : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قال : مصرًا من الأمصار ، رواه ابن أبي حاتم ، من حديث أبي سعيد{[1898]} البقال سعيد بن المرزبان ، عن عكرمة ، عنه .

قال : وروي عن السدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس نحو ذلك .

وقال ابن جرير : وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : " اهبطوا مصر " من غير إجراء يعني من غير صرف . ثم روى عن أبي العالية ، والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون .

وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية ، وعن الأعمش أيضًا .

وقال ابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضًا . ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف ، كما في قوله تعالى : { قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا } [ الإنسان : 15 ، 16 ] . ثم توقف في المراد ما هو ؟ أمصر فرعون أم مصر من الأمصار ؟

وهذا الذي قاله فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره ، والمعنى على ذلك لأن موسى ، عليه السلام يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ؛ ولهذا قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } أي : ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم{[1899]} هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه ، لم يجابوا إليه ، والله أعلم .

يقول تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } أي : وضعت عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا ، أي : لا يزالون مستذلين ، من وجدهم استذلهم وأهانهم ، وضرب عليهم الصغار ، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون{[1900]} .

قال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } قال : هم أصحاب النيالات{[1901]} يعني أصحاب الجزية .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ } قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون{[1902]} ، وقال الضحاك : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } قال : الذل . وقال الحسن : أذلهم الله فلا منعة لهم ، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين . ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية .

وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي : المسكنة الفاقة . وقال عطية العوفي : الخراج . وقال الضحاك : الجزية .

وقوله تعالى : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } قال الضحاك : استحقوا الغضب من الله ، وقال الربيع بن أنس : فحدَثَ عليهم غضب من الله . وقال سعيد بن جبير : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } يقول : استوجبوا سخطًا ، وقال ابن جرير : يعني بقوله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال : باؤوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر ، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءًا وبواء . ومنه قوله تعالى : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [ المائدة : 29 ] يعني : تنصرف متحملهما وترجع بهما ، قد صارا عليك دوني . فمعنى الكلام إذًا : فرجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم من الله سخط .

وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } يقول تعالى : هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة ، وإحلال الغضب بهم{[1903]} بسبب استكبارهم عن اتباع الحق ، وكفرهم بآيات الله ، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم ، فانتقصوهم إلى{[1904]} أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم ، فلا كبْر أعظم من هذا ، أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكبر بَطَر الحق ، وغَمْط الناس " {[1905]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، عن حميد بن عبد الرحمن ، قال : قال ابن مسعود : كنت لا أحجب عن النَّجْوى ، ولا عن كذا ولا عن كذا قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته{[1906]} من آخر حديثه ، وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أن أحدًا من الناس فَضَلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي ؟ فقال : " لا ليس ذلك من البغي ، ولكن البغي مَنْ بطر - أو قال : سفه الحق - وغَمط الناس " . يعني : رد الحق وانتقاص الناس ، والازدراء بهم والتعاظم عليهم . ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم ، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد ، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقًا{[1907]} .

قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبان ، حدثنا عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي ، أو قتل نبيًا ، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين " {[1908]} .

وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به ، أنهم كانوا يعصون ويعتدون ، فالعصيان فعل المناهي ، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به . والله أعلم .


[1888]:في جـ: "مما رزقناكم".
[1889]:في جـ: "شيمهم".
[1890]:زيادة من جـ.
[1891]:في و: "وما أشبه".
[1892]:البيت في تفسير الطبري (2/129).
[1893]:في ط: "عن الضحاك".
[1894]:في جـ، ط، أ، و: "فالله أعلم".
[1895]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[1896]:في جـ: "وتوبيخ لهم".
[1897]:في أ: "ولا أستحسن".
[1898]:في جـ: "أبي سعد".
[1899]:في جـ، ط: "كان سألهم".
[1900]:في جـ: "مستذلين"، وفي ط، أ، و: "مستكينين".
[1901]:في جـ، طـ، و: "القبالات"، وفي أ: "السالات".
[1902]:تفسير عبد الرزاق (1/ 69).
[1903]:في جـ: "عليهم".
[1904]:في جـ، ط، أ، و: "حتى".
[1905]:رواه مسلم في صحيحه برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[1906]:في جـ، ط: "قال فأدركت".
[1907]:المسند (1/385).
[1908]:المسند (1/407).