وقوله : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا } أي : ليس المقصود منها ذبحها فقط . ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء ، لكونه الغني الحميد ، وإنما يناله الإخلاص فيها ، والاحتساب ، والنية الصالحة ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر ، وأن يكون القصد وجه الله وحده ، لا فخرا ولا رياء ، ولا سمعة ، ولا مجرد عادة ، وهكذا سائر العبادات ، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله ، كانت كالقشور الذي لا لب فيه ، والجسد الذي لا روح فيه .
{ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ } أي : تعظموه وتجلوه ، { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : مقابلة لهدايته إياكم ، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد ، وأعلى التعظيم ، { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } بعبادة الله بأن يعبدوا الله ، كأنهم يرونه ، فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه ، معتقدين وقت عبادتهم اطلاعه عليهم ، ورؤيته إياهم ، والمحسنين لعباد الله ، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال ، أو علم ، أو جاه ، أو نصح ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو كلمة طيبة ونحو ذلك ، فالمحسنون لهم البشارة من الله ، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم ، كما أحسنوا في عبادته ولعباده { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }
وهم حين يؤمرون بنحرها باسم الله ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها )فإن اللحوم والدماء لا تصل إلى الله سبحانه . إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجهاتها - لا كما كان مشركو قريش يلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحيات على طريقة الشرك المنحرفة الغليظة !
( كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ) . . فقد هداكم إلى توحيده والاتجاه إليه وإدراك حقيقة الصلة بين الرب والعباد ، وحقيقة الصلة بين العمل والاتجاه .
( وبشر المحسنين ) . . الذين يحسنون التصور ، ويحسنون الشعور ، ويحسنون العبادة ، ويحسنون الصلة بالله في كل نشاط الحياة .
وهكذا لا يخطو المسلم في حياته خطوة ، ولا يتحرك في ليله أو نهاره حركة ، إلا وهو ينظر فيها إلى الله .
ويجيش قلبه فيها بتقواه ، ويتطلع فيها إلى وجهه ورضاه . فإذا الحياة كلها عبادة تتحقق بها إرادة الله من خلق العباد ، وتصلح بها الحياة في الأرض وهي موصولة السبب بالسماء .
يقول تعالى : إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا ، لتذكروه عند ذبحها ، فإنه الخالق الرازق{[20277]} لا أنه يناله شيء من لحومها ولا دمائها ، فإنه تعالى هو الغني عما سواه .
وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابتنهم ، ونضحوا عليها من دمائها ، فقال تعالى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن ابن جريج قال : كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق أن ننضح ، فأنزل الله : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } أي : يتقبل ذلك ويجزي عليه .
كما جاء في الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم{[20278]} ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " {[20279]} وما جاء في الحديث : " إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض " كما تقدم الحديث . رواه{[20280]} ابن ماجه ، والترمذي وحَسّنه عن عائشة مرفوعا . فمعناه : أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله ، وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا ، والله أعلم .
وقال وَكِيع ، عن [ يحيى ]{[20281]} بن مسلم أبي الضحاك : سألت عامرًا الشعبي عن جلود الأضاحي ، فقال : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا } ، إن شئت فبع ، وإن شئت فأمسك ، وإن شئت فتصدق .
وقوله : { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } أي : من أجل ذلك سخر{[20282]} لكم البُدن ، { لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ، وما يرضاه ، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه .
وقوله : { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } أي : وبشر يا محمد المحسنين ، أي : في عملهم ، القائمين بحدود الله ، المتبعين ما شَرَع لهم ، المصدقين الرسولَ فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل .
[ مسألة ]{[20283]} .
وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول{[20284]} بوجوب الأضحية على من ملك نصابا ، وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضًا . واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات ، عن أبي هريرة مرفوعا : " من وجد سَعَة فلم يُضَحِّ ، فلا يقربن مُصَلانا " {[20285]} على أن فيه غرابة ، واستنكره أحمد بن حنبل{[20286]} .
وقال ابن عمر : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي . رواه الترمذي{[20287]} .
وقال الشافعي ، وأحمد : لا تجب الأضحية ، بل هي مستحبة ؛ لما جاء في الحديث : " ليس في المال حق سوى الزكاة " {[20288]} . وقد تقدم أنه ، عليه السلام{[20289]} ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم .
وقال أبو سَريحةَ : كنت جارًا لأبي بكر وعمر ، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما .
وقال بعض الناس : الأضحية سنة كفاية ، إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة ، سقطت عن الباقين ؛ لأن المقصود إظهار الشعار .
وقد روى الإمام أحمد ، وأهل السنن - وحسنه الترمذي - عن مِخْنَف بن سليم ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات : " على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعَتِيرة ، هل تدرون ما العتيرة ؟ هي{[20290]} التي تدعونها الرَّجبية " . وقد تكلم في إسناده{[20291]} .
وقال أبو أيوب : كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته ، يأكلون ويطعمون [ حتى تباهي ]{[20292]} الناس فصار كما ترى .
رواه الترمذي وصححه ، وابن ماجه{[20293]} .
وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله . رواه البخاري .
وأما مقدار سِنّ الأضحية ، فقد روى مسلم عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تذبحوا إلا مُسِنَّة ، إلا أن يعسر عليكم ، فتذبحوا جذعة من الضأن " {[20294]} .
ومن هاهنا ذهب الزهري إلى أن الجذَعَ لا يجزئ . وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجَذَع يجزئ من كل جنس ، وهما غريبان . وقال الجمهور : إنما يجزئ الثَّني من الإبل والبقر والمعز ، والجذع من الضأن ، فأما الثني من الإبل : فهو الذي له خمس سنين ، ودخل في السادسة . ومن البقر : ما له [ سنتان ]{[20295]} ودخل في [ الثالثة ]{[20296]} ، وقيل : [ ما له ]{[20297]} ثلاث [ ودخل في ]{[20298]} الرابعة . ومن المعز : ما له سنتان . وأما الجذع من الضأن فقيل : ما له سنة ، وقيل : عشرة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر ، وقيل : ستة أشهر ، وهو أقل ما قيل في سِنِّه ، وما دونه فهو حَمَل ، والفرق بينهما : أن الحمل شعر ظهره قائم ، والجذَع شعر ظهره نائم ، قد انعدل صدْعين ، والله أعلم .