فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم فقال : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : لا ينهاكم الله عن البر والصلة ، والمكافأة بالمعروف ، والقسط للمشركين ، من أقاربكم وغيرهم ، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم ، فليس عليكم جناح أن تصلوهم ، فإن صلتهم في هذه الحالة ، لا محذور فيها ولا مفسدة{[1056]} كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } .
وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم . ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم ، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئا . ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم . وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون . . ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) . . وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن ، ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف !
وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، بل نظرته الكلية لهذا الوجود ، الصادر عن إله واحد ، المتجه إلى إله واحد ، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي ، من وراء كل اختلاف وتنويع .
وهي أساس شريعته الدولية ، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا هي الحالة الثابتة ، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء ؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد . وهو كذلك اعتداء . وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين .
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها . فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، وإعلاء كلمة الله .
وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون . فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم . ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه .
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته ، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله . فلا خصومة على مصلحة ، ولا جهاد في عصبية - أي عصبية - من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب . إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة .
ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . . الخ ) . . فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة . بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل ، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة . ولكن هذا إنما كان بعدما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون ! فانطبقت القاعدة الأخرى : ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) . . وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية - وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها - من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود . وهي حالة اعتداء في صميمها . تنطبق عليها حالة الاعتداء . وبخاصة أن الأمبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره ، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية . فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك .
وقوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين ، كالنساء والضعفة منهم ، { أَنْ تَبَرُّوهُمْ } أي : تحسنوا إليهم { وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } أي : تعدلوا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أسماء - هي بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما - قالت : قَدَمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا ، فأتيتُ النبي{[28676]} صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : " نعم ، صلي أمك " أخرجاه{[28677]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه قال : قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : صِنَاب وأقط{[28678]} وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها تدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ، عز وجل : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } إلى آخر الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها ، وأن تدخلها بيتها .
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث مصعب بن ثابت ، به {[28679]} . وفي رواية لأحمد وابن{[28680]} جرير : " قُتَيلة بنت عبد العزي بن [ عبد ] {[28681]} أسعد ، من بني مالك بن حسل{[28682]} . وزاد ابن أبي حاتم : " في المدة التي كانت بين قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو قتادة العدوي ، عن ابن أخي الزهري ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وأسماء أنهما قالتا : قدمت علينا أمنا المدينة ، وهي مشركة ، في الهدنة التي كانت بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ، إن أمنا قدمت علينا المدينة راغبةً ، أفنصلها ؟ قال : " نعم ، فَصِلاها " {[28683]} .
ثم قال : وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة إلا من هذا الوجه .
قلت : وهو منكر بهذا السياق ؛ لأن أم عائشة هي أم رومان ، وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها ، كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } تقدم تفسير ذلك في سورة " الحجرات " ، وأورد الحديث الصحيح : ( المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم ، وأهاليهم ، وما وَلُوا ) {[28684]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.