ثم قال تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } أي : طلاقا رجعيا بواحدة أو ثنتين .
{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : قاربن انقضاء عدتهن .
{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : إما أن تراجعوهن ، ونيتكم القيام بحقوقهن ، أو تتركوهن بلا رجعة ولا إضرار ، ولهذا قال : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } أي : مضارة بهن { لِتَعْتَدُوا } في فعلكم هذا الحلال ، إلى الحرام ، فالحلال : الإمساك بمعروف{[145]} والحرام : المضارة ، { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار .
{ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } لما بين تعالى حدوده غاية التبيين ، وكان المقصود ، العلم بها والعمل ، والوقوف معها ، وعدم مجاوزتها ، لأنه تعالى لم ينزلها عبثا ، بل أنزلها بالحق والصدق والجد ، نهى عن اتخاذها هزوا ، أي : لعبا بها ، وهو التجرؤ عليها ، وعدم الامتثال لواجبها ، مثل استعمال المضارة في الإمساك ، أو الفراق ، أو كثرة الطلاق ، أو جمع الثلات ، والله من رحمته جعل له واحدة بعد واحدة ، رفقا به وسعيا في مصلحته .
{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } عموما باللسان ثناء وحمدا ، وبالقلب اعترافا وإقرارا ، وبالأركان بصرفها في طاعة الله ، { وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } أي : السنة اللذين بيّن لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها ، وطرق الشر وحذركم إياها ، وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه ، وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
وقيل : المراد بالحكمة أسرار الشريعة ، فالكتاب فيه ، الحكم ، والحكمة فيها ، بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه ، وكلا المعنيين صحيح ، ولهذا قال { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي : بما أنزل عليكم ، وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة ، أسرار الشريعة ، لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة ، والترغيب ، أو الترهيب ، فالحكم به ، يزول الجهل ، والحكمة مع الترغيب ، يوجب الرغبة ، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } في جميع أموركم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فلهذا بيّن لكم هذه الأحكام بغاية الإحكام والإتقان التي هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان ، [ فله الحمد والمنة ] .
بعد ذلك يجيء التوجيه الإلهي للأزواج المطلقين . توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى بعد الطلاق في جميع الأحوال :
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ؛ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا ؛ واذكروا نعمة الله عليكم ، وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ؛ واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) .
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة . سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها . ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها . ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس ، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية . عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن ، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير . . هو عنصر الإيمان بالله . والإيمان باليوم الآخر . وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان - أرفع النعم - إلى نعمة الصحة والرزق . واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة . . وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان هنا عن إيثار المعروف والجميل والحسنى ، سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها .
ولقد كانت المرأة في الجاهلية تلاقي من العنت ما يتفق وغلظ الجاهلية وانحرافها . كانت تلقى هذا العنت طفلة توأد في بعض الأحيان ، أو تعيش في هون ومشقة وإذلال ! وكانت تلقاه زوجة هي قطعة من المتاع للرجل ، أغلى منها الناقة والفرس وأعز ! وكانت تلقاه مطلقة . تعضل فتمنع من الزواج حتى يسمح مطلقها ويأذن ! أو يعضلها أهلها دون العودة إلى مطلقها ، إن أرادا أن يتراجعا . . وكانت النظرة إليها بصفة عامة نظرة هابطة زرية ، شأنها في هذا شأن سائر الجاهليات السائدة في الأرض في ذلك الأوان .
ثم جاء الإسلام . . جاء ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية التي نرى هنا نماذج منها . وجاء يرفع النظرة إليها فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها . . وجاء يرتفع بالعلاقات الزوجية إلى مرتبة العبادة عند الإحسان فيها . . هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه . ولم يطلب الرجل شيئا من هذا ولا كان يتصوره . إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعا ، على الحياة الإنسانية جميعا . .
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف . ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) . .
والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة . فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الاصلاح - والمعاملة بالمعروف - وهذا هو الإمساك بالمعروف . . وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة - وهذا هو التسريح بإحسان ، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء . .
( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) . .
وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته : والله لا آويك ولا أفارقك ! فهذا هو الإمساك بغير إحسان . إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام . وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق ؛ لأنه فيما يبدو كان شائعا في البيئة العربية : ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم الإسلام ، ولم يرفعها الإيمان . .
وهنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر ؛ كما يستجيش عاطفة الحياء من الله ، وشعور الخوف منه في آن . ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها ؛ ويرتفع بها إلى المستوى الكريم الذي يأخذ بيدها إليه :
( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا . واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به . واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) . .
إن الذي يمسك المطلقة ضرارا واعتداء يظلم نفسه . فهي أخته . من نفسه . فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه . وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية ، والجموح بها عن طريق الطاعة . . وهذه هي اللمسة الأولى .
وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة ، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق ؛ فإذا هو استغلها في الحاق الإضرار والأذى بالمرأة ، متلاعبا بالرخص التي جعلها الله متنفسا وصمام آمن ، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها ، في إمساكالمراة لإيذائها وإشقائها . . إذا فعل شيئا من هذا فقد اتخذ آيات الله هزوا - وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام ، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد . ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام - وويل لمن يستهزيء بآيات الله دون حياء من الله .
ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة . وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم ، شاملة لهذه الحياة . .
وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم ، هو وجودهم ذاته كأمة . . فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام ؟ أنهم لم يكونوا شيئا مذكورا . لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم . كانوا فرقا ومزقا لا وزن لها ولا قيمة . لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به . بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم . لم يكن لديهم شيء على الإطلاق . لا مادي ولا معنوي . . كانوا فقراء يعيشون في شظف . إلا قلة منهم تعيش في ترف ، ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس ! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير . عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة . وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود . واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة ، والثارات الحادة ، واللهو والشراب والقمار ، والمتاع الساذج الصغير على كل حال !
ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام . بل أنشأهم إنشاء . أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير ، الذي تعرفهم به الإنسانية كلها . أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية . أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط ؛ والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة . وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجودا بين الأمم والدول ، ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود . وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حسابا ، وكانوا قبلها خدما للإمبراطوريات من حولهم ، أو مهملين لا يحس بهم أحد . وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة . . وأكثر من هذا أعطاهم السلام ، سلام النفس . وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه . أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق . . وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض ؛ فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين . .
فإذا ذكرهم الله بالنعمة هنا ، فهم يذكرون شيئا حاضرا في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر . وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد . وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر . . وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . والقرآن يقول لهم : ( وما أنزل عليكم ) . . بضمير المخاطب ؛ ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم ، والله ينزل عليهم هذه الآيات ، التي يتألف منها المنهج الرباني ، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة . .
ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية ، وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم :
( واتقوا الله ، واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) . .
فيستجيش شعور الخوف والحذر ، بعد شعور الحياء والشكر . . ويأخذ النفس من أقطارها ، ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل . .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإذا طلقتم أيها الرجال نساءكم "فبلغن أجلهن": يعني ميقاتهن الذي وقته لهن من انقضاء الأقراء الثلاثة إن كانت من أهل الأقراء وانقضاء الأشهر، إن كانت من أهل الشهور، "فأَمْسِكُوهُنّ": فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة، وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين كما قال تعالى ذكره: "الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ".
"بِمَعْرُوفٍ": بما أذن به من الرجعة من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة دون الرجعة بالوطء والجماع، لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة، وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس. "أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ": أو خلّوهن يقضين تمام عدتهنّ وينقضي بقية أجلهنّ الذي أجلته لهنّ لعددهن "بمعروف": بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم.
"وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا": ولا تراجعوهنّ إن راجعتموهنّ في عددهنّ مضارة لهنّ لتطوّلوا عليهنّ مدة انقضاء عددهنّ، أو لتأخذوا منهنّ بعض ما آتيتموهنّ بطلبهنّ الخلع منكم لمضارّتكم إياهنّ بإمساككم إياهنّ، ومراجعتكموهنّ ضرارا واعتداء.
"لِتَعْتَدُوا": لتظلموهنّ بمجاوزتكم في أمرهنّ حدودي التي بينتها لكم.
عن مسروق: "وَلا تُمْسِكوهُن ضِرَارا "قال: يطلقها حتى إذا كادت تنقضي راجعها، ثم يطلقها، فيدعها، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها، ولا يريد إمساكها، فذلك الذي يضارّ ويتخذ آيات الله هزوا...
"وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ": ومن يراجع امرأته بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة ضرارا بها ليعتدي حدّ الله في أمرها، "فقد ظلم نفسه"، يعني فأكسبها بذلك إثما، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك.
"وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا": ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه وأمره ونهيه في وحيه وتنزيله استهزاءً ولعبا، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه ما لكم من الرجعة على نسائكم في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس لكم منها، وما الوجه الجائز لكم منها وما الذي لا يجوز، وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة وما ليس لكم ذلك فيه، وكيف وجوه ذلك رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم، ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج والمخلص بالطلاق والفراق، وجعل ما جعل لكم عليهنّ من الرجعة سبيلاً لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه بعد فراقه إياهن منهن، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن، إنعاما منه بذلك عليكم، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي تفضلاً مني ببيانه عليكم، وإنعاما ورحمة مني بكم لعبا وسخريا.
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّوبَةَ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أيوب بن سليمان، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم، أن الحسن حدثهم: أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطّلق الرجل أو يعتق، فيقال: ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعبا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلّق لاعِبا أوْ أعْتَق لاعِبا فَقَدْ جاز عَلَيْهِ» قال الحسن: وفيه نزلت: وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا.
"واذْكُرُوا نِعْمَة اللّهِ عَلَيْكُمْ وَما أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ": واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام، الذي أنعم عليكم به، فهداكم له، وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه، واذكروا أيضا مع ذلك، ما أنزل عليكم من كتابه ذلك، القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واذكروا ذلك فاعلموا به، واحفظوا حدوده فيه. والحكمة: يعني: وما أنزل عليكم من الحكمة، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لكم.
"يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ": يَعِظُكُمْ بِهِ يعظكم بالكتاب الذي أنزل عليكم. والهاء التي في قوله «به» عائدة على الكتاب.
"وَاتّقُوا اللّهَ": وخافوا الله فيما أمركم به، وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنزله عليكم، وفيما أنزله فبينه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم أن تضيعوه وتتعدوا حدوده، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه، ونكال عذابه. "وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ": واعلموا أيها الناس أن ربكم الذي حدّ لكم هذه الحدود، وشرع لكم هذه الشرائع، وفرَض عليكم هذه الفرائض في كتابه وفي تنزيله، على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما أنتم عاملوه من خير وشرّ، وحسن وسيئ، وطاعة ومعصية، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره شيء، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا، وبالسيئ سيئا، إلا أن يعفو ويصفح فلا تتعرّضوا لعقابه، ولا تظلموا أنفسكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تتخذوا آيات الله هزوا} معناه، والله أعلم، أي لا تعملوا بآيات الله عمل من يخرج فعله بها مخرج فعل الهازئ، لأنه معقول أن أهل الإيمان والتوحيد لا يتخذون آيات الله هزوا، ولا يقصدون إلى ذلك...
ثم اختلف في {آيات الله}، قيل: حجج الله، وقيل: أحكام [الله]، وقيل: دين الله، ويحتمل {آيات الله} الآيات المعروفة.
{واذكروا نعمت الله عليكم} يحتمل وجوها: تحتمل النعمة ههنا محمدا صلى الله عليه وسلم وهو من أعظم النعم، [وتحتمل النعمة الإسلام وشرائعه] وتحتمل النعمة [النعم] التي أنعمها على خلقه. والنعمة على ثلاثة أوجه: النعمة بالإسلام تقتضي منه المحافظة، والنعمة الخاصة تقتضي الشكر، والنعم العامة جملة تقتضي منه التوحيد...
{وما أنزل عليكم من الكتاب} وهو القرآن، ففيه دلالة أن الكتاب هو منزل...
{والحكمة} اختلف فيه، قيل: الحكمة والفقه، وقيل: الحلال و الحرام، وقيل: الحكمة هي الإصابة إصابة موضع كل شيء منه، وقيل: الحكمة والمواعظ، وقيل: الحكمة القرآن، وهو من الإحكام والإتقان، كأنه قال عز وجلا اذكروا ما أعطاكم من الفقه والإصابة والكتاب المحكم والمتقن الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42].
{واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} فيه تخويف وتحذير يعلموا أن كل شيء في علمه، وأنه لا يعزب عنه شيء، وبالله العصمة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تضمنت الآية الأمر بحسن العِشْرة، وتَرْكِ المغايظَة مع الزوجة، والمحك على وجه اللجاج؛ فإِمَّا تخلية سبيلٍ من غير جفاء، أو قيامٌ بحق الصحبة على شرط الوفاء.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
{ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} أي: أضر بنفسه لا بغيره.
{ولا تتخذوا آيات الله هزوا} قالت عائشة وهو الأصح: هو النهي عن قصد الإضرار بالرجعة، فإن كل من خالف أمر الشرع فهو متخذ آيات الله هزوا...
قال أبو الدرداء وهو قول الحسن: هو أن الرجل منهم كان يطلق، ثم يقول: ما كنت جادا، ويعتق، ثم يقول: ما كنت جادا، كنت لاعبا...
وفيه قول ثالث: أنه نهى عن الزيادة على قدر الطلاق الثلاث...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها. والأجل يقع على المدّة كلها، وعلى آخرها، يقال لعمر الإنسان: أجل، وللموت الذي ينتهي به: أجل، وكذلك الغاية والأمد، يقول النحويون «من» لابتداء الغاية، و «إلى» لانتهاء الغاية...
{وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا} أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها، وإلا فقد اتخذتموها هزواً ولعباً. ويقال لمن لايجدّ في الأمر: إنما أنت لاعب وهازئ...
أول ما يجب تقديمه في هذه الآية أن لقائل أن يقول: لا فرق بين هذه الآية وبين قوله: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فتكون إعادة هذه الآية بعد ذكر تلك الآية تكريرا لكلام واحد في موضع واحد من غير فائدة وأنه لا يجوز.
والجواب:... [أن] تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق، وهذه الآية في بيان كيفية الرجعة... [ثم] إن من ذكر حكما يتناول صورا كثيرة، وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهم لم يبعد أن يعيد بعد ذلك الحكم العام تلك الصورة الخاصة مرة أخرى، ليدل ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ما ليس في غيرها وههنا كذلك وذلك لأن قوله: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فيه بيان أنه لا بد في مدة العدة من أحد هذين الأمرين، وأما في هذه الآية ففيه بيان أن عند مشارفة العدة على الزوال لا بد من رعاية أحد هذين الأمرين ومن المعلوم أن رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبل هذا الوقت، وذلك لأن أعظم أنواع الإيذاء أن يطلقها، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل حتى تبقى في العدة تسعة أشهر، فلما كان هذا أعظم أنواع المضارة لم يقبح أن يعيد الله حكم هذه الصورة تنبيها على أن هذه الصورة أعظم الصور اشتمالا على المضارة وأولاها بأن يحترز المكلف عنها... {ولا تمسكوهن ضرارا} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: فلا فرق بين أن يقول: {فأمسكوهن بمعروف} وبين قوله: {ولا تمسكوهن ضرارا} لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فما الفائدة في التكرار؟.
والجواب: الأمر لا يفيد إلا مرة واحدة، فلا يتناول كل الأوقات، أما النهي فإنه يتناول كل الأوقات، فلعله يمسكها بمعروف في الحال، ولكن في قلبه أن يضارها في الزمان المستقبل، فلما قال تعالى: {ولا تمسكوهن ضرارا} اندفعت الشبهات وزالت الاحتمالات.
المسألة الثانية: قال القفال: الضرار هو المضارة قال تعالى: {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا} أي اتخذوا المسجد ضرارا ليضاروا المؤمنين، ومعناه رجع إلى إثارة العداوة وإزالة الألفة وإيقاع الوحشة، وموجبات النفرة، وذكر المفسرون في تفسير هذا الضرار وجوها... [منها] سوء العشرة و تضييق النفقة. واعلم أنهم كانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال رجاء أن تختلع المرأة منه بمالها...
الأول: المراد لا تضاروهن فتكونوا معتدين، يعني فتكون عاقبة أمركم ذلك وهو كقوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} أي فكان لهم وهي لام العاقبة والثاني: أن يكون المعنى: لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن، فحينئذ تصيرون عصاة الله، وتكونون متعمدين قاصدين لتلك المعصية، ولا شك أن هذا أعظم أنواع المعاصي...
{ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه}... فيه وجوه أحدها: ظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله وثانيها: ظلم نفسه بأن فوت عليها منافع الدنيا والدين، أما منافع الدنيا فإنه إذا اشتهر فيما بين الناس بهذه المعاملة القبيحة لا يرغب في التزوج به ولا معاملته أحد، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل والثواب الحاصل على الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر الطلاق رجعية وبائنة عقبه ببيان وصف الرجعة من الحل والحرمة وبيان وقتها وتحديده والإشارة إلى تصوير بعض صور المضارة ترهيباً منها فليست الآية مكررة فقال: {وإذا طلقتم النساء} أي طلاقاً رجعياً والمراد من يملك نكاحها من هذا النوع الشامل للقليل والكثير ولم يقل: نساءكم، لئلا تفهم الإضافة أن لطلاقهم غير نسائهم حكماً مغايراً لهذا في بلوغ الأجل مثلاً ونحوه.
ولما كانت إباحة الرجعة في آخر العدة دالة على إباحتها فيما قبل ذلك بطريق الأولى وكان من المقطوع به عقلاً أن لما بعد الأجل حكماً غير الحكم الذي كان له قبله لم يكن التعبير بالبلوغ ملبساً وكان التعبير به مفيداً أقصى ما يمكن به المضارة فقال: {فبلغن أجلهن} أي شارفن انقضاء العدة، بدليل الأمر بالإمساك لأنه لا يتأتى بعد الأجل...
قال الحرالي: ولما كان للحد المحدود الفاصل بين أمرين متقابلين بلوغ وهو الانتهاء إلى أول حده وقرار وهو الثبات عليه ومجاوزة لحده ذكر سبحانه وتعالى البلوغ الذي هو الانتهاء إلى أول الحد دون المجاوزة والمحل، والأجل مشارفة انقضاء أمد الأمر حيث يكون منه ملجأ الذي هو مقلوبه كأنه مشارفة فراغ المدة...
{فأمسكوهن} أي بالمراجعة إن أردتم ولو في آخر لحظة من العدة {بمعروف} أي بحال حسنة تحمد عاقبتها... {أو سرحوهن بمعروف} بأن تتركوهن حتى تنقضي العدة فيملكن أنفسهن من غير تلبيس بدعوى ولا تضييق في شيء من الأشياء...
قال الحرالي: هذا معروف الإمتاع والإحسان وهو غير معروف الإمساك، ولذلك فرقه الخطاب ولم يكن: فأمسكوهن أو سرحوهن بمعروف...
ولما كان المعروف يعم كل خير وكان الأمر به لا يفيد التكرار خص ترك الشر اهتماماً به معبراً بما يتناول جميع الأوقات فقال: {ولا تمسكوهن} أي بالمراجعة في آخر العدة {ضراراً} كما كان في الجاهلية {لتعتدوا} أي قاصدين بذلك التوصل إلى شيء من مجاوزة الحدود التي بينت لكم مثل أن يريد تطويل العدة عليها فإنه قد يفضي إلى اعتدادها تسعة أشهر.
ولما كان التقدير: فمن يفعل ذلك فقد ظلم زوجه عطف عليه زيادة في التنفير عنه قوله: {ومن يفعل ذلك} أي الفعل البعيد عن الخير، وفي التعبير بالمضارع إشعار بأن في الأمة من يتمادى على فعله {فقد ظلم نفسه} أي بتعريضها لسخط الله عليه ونفرة الناس منه.
ولما كان قد لا يقصد شيئاً من انتهاك الحرمات ولا من المصالح فكان مقدماً على ما لا يعلم أو يظن له عاقبة حميدة تهاوناً بالنظر وكان فاعل ذلك شبيهاً بالهازئ كما يقال لمن لا يجد في أمر: هو لاعب، قال: {ولا تتخذوا آيات الله} أي مع ما تعلمون من عظمتها بعظمة ناصبها {هزواً} بإهمالها عن قصد المصالح...
ولما كان على العبد أن يقتفي أثر السيد في جميع أفعاله قال: {واذكروا نعمة الله} أي الذي له الكمال كله ثم عبر بأداة الاستعلاء إشارة إلى عموم النعم وغلبتها فقال: {عليكم} هل ترون فيها شيئاً من وادي العبث بخلوه عن حكمة ظاهرة {وما} أي وخصوا بالذكر الذي {أنزل عليكم من الكتاب} الذي فاق جميع الكتب وعلا عن المعارضة فغلب جميع الخلق بما أفادته أداة الاستعلاء {والحكمة} التي بثها فيه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم حال كونه {يعظكم} أي يذكر بما يرقق قلوبكم {به} أي بذلك كله {واتقوا الله} أي بالغوا في الخوف ممن له الإحاطة بجميع صفات الكمال باستحضار ما له من العظمة التي لا تتناهى.
ونبه على عظيم أمره بقوله: {واعلموا} وبتكرير الاسم الأعظم في قوله: {أن الله} فلم يبق وراء ذلك مرمى {بكل شيء} أي من أمور النكاح وغيرها {عليم} أي بالغ العلم فاحذروه حذر من يعلم أنه بحضرته وكل ما يعمله من سر وعلن فبعينه. قال الحرالي: والتهديد بالعلم منتهى التحديد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا حكم جديد غير ما تقدم في قوله {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فهذه الآية بيان للواجب في معاملة المطلقات ونهي عن ضده ووعيد على هذا الضد وإرشاد إلى المصلحة، والحكمة في الائتمار بذلك الأمر والانتهاء عن هذا النهي. وتلك بيان لكيفية الطلاق المشروع وعدده وكون الأصل فيه أن يكون بغير عوض، وكون أخذ العوض من المرأة لا يحل إلا بشرط. ولا ينافي هذا ما ورد في سبب نزولها... وهو أليق بهذه، فإن هذه الآيات كلها نزلت في إبطال ما كان عليه الناس من سوء معاملة النساء في الطلاق، فجميع الوقائع التي كانت تقع على عادات الجاهلية كانت تعد من أسباب النزول لها...
[و] الأجل في قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} هو زمن العدة ومعنى {بلغن أجلهن} قاربن إتمام العدة، قال القرطبي هذا إجماع لم يفهم أحد من الآية غيره، وهو مبني على قاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه تجوزا قرينته العرف: يقول المسافر بلغنا البلد أو وصلنا إليه إذا دنا منه وشارفه.
وقوله {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} معناه فاعزموا أحد الأمرين إمساك المرأة بالمراجعة أو إطلاق سبيلها وليكن ما تختارونه من أحد الأمرين بالمعروف الذي شرع لكم في آية الطلاق مرتان.
{ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا} أي ولا تراجعوهن إرادة مضارتهن وإيذائهن للاعتداء عليهن بتعمد ذلك، فالضرار بمعنى الضرر وذكر بالصيغة التي تأتي للمشاركة للإشعار بأن ضره إياها يستلزم ضرها إياه، فالرجال يضرون أنفسهم بإيذاء النساء.
ويؤيد هذا قوله {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} في الدنيا بسلوك طرق الشر والاعتداء التي لا راحة لضمير صاحبها، وبجعل المرأة وعصبتها أعداء له يناصبونه ويناوئونه، والعدو القريب أقدر على الإيذاء من العدو البعيد، وبتنفير الناس منه حتى يوشك أن لا يصاهره أحد، وظلم نفسه في الأخرى أيضا بما خالف أمر الله وتعرض لسخطه.
{ولا تتخذوا آيات الله هزوا} وهذا وعيد بعد وعيد، وتهديد لمن يتعدى حدود الله في هذه الأحكام أي تهديد، والسبب فيه حمل المسلمين على احترام صلة الزوجية، وتوقي ما كانوا عليه في عهد الجاهلية، فقد كانوا يتخذون النساء لعبا، ويعبثون بطلاقهن وإمساكهن عبثا... والمعنى لا تتهاونوا بحدود الله تعالى التي شرعها لكم في الآية جريا على سنن الجاهلية، فإن هذا التهاون والاعتداء للحدود بعد هذا البيان والتأكيد من الله تعالى يعد استهزاء بآياته ومن هنا قال بعض السلف: المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه. ولا شك أن الذي يخالف أمر الله وينقض هذه العهود يعد توثيقها طلبا لشهوة من شهواته، أو استمساكا بعادة من عاداته، فهو جدير بأن يعد مستهزئا بآيات الله غير مذعن لها.
[و] بعد التحذير من التهاون بحقوق النساء وجعل العابث بأحكام الله فيها مستهزئا بآياته وفي ذلك من الوعيد والترهيب ما فيه أراد تعالى أن يقرر هذه الأحكام في النفوس بباعث الترغيب فيها بالتذكير بفوائدها ومزاياها، وبيان المنة في هداية الدين التي هي منها، فقال {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} أي امتثلوا ما ذكر آنفا من أمر ونهي، وتذكروا نعمة الله تعالى عليكم بالفطرة السليمة في الرابطة الزوجية المعبر عنها قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الروم: 21) وما أنزله عليكم من آيات الأحكام المكملة للفطرة في الزوجية والحكمة فيها، حال كونه يعظكم بالجمع بينهما "أي الأحكام وحكمتها "فإن معرفة الشيء مع حكمته هي التي تحدث العظة والعبرة الباعثة على الامتثال.
ولا يبعد أن تكون هذه الآيات النفسية هي المراد بقوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزوا}. وقد أفسد على الناس تلك المودة والرحمة، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة، وأضعف في نفوس الأزواج ذلك السكون والارتياح، غرور الرجال بالقوة وطغيانهم بالغنى، وكفران النساء لنعمة الرجال، وحفظ سيئاتهم، وتماديهن في الذم لها والتبرم بها، وما مضت به عادات الجاهلية في بعض المتقدمين وعادات التفرنج في المعاصرات والمعاصرين، وقلد به الناس بعضهم بعضا، فالله سبحانه وتعالى ذكرنا أولا بنعمه علينا في أنفسنا لنزيح عن الفطرة السليمة ما غشيها بسوء القدوة واتباع الهوى، ونشكرها له سبحانه بالمحافظة عليها بتمكن صلة الزوجية واحترامها وتوثيقها. وثانيا بهذا الدين القويم الذي هدانا إلى ذاك، وحد لنا كتابه الحدود ووضع الأحكام مبينا حكمها وأسرارها، مؤيدا لها بالوعظ السائق إلى اتباعها، وما ذكرنا بالكتاب هنا إلا لنجعله إماما لنا في تقويم الفطرة، على ما مضت به السنة وعززته الحكمة.
ولكننا قد أعرضنا عنه، فمن نظر في شيء من هذه الأحكام فإنما ينظر فيما كتبه بعض البشر مما هو خلو من حكمة التشريع، غير مقرون بشيء من الترغيب والترهيب، فهو لا يحدث للنفوس عظة ولا ذكرى، ولا يبعث في القلوب هداية ولا تقوى، على أن أكثر المسلمين لا ينظر فيها، ولا يسأل العارفين بها عنها، إلا أن يكون لأجل الاستعانة على حقوق يهضمها، أو صلات يقطعها وعرى يفصمها، فهو يستفتي غالبا ليأمن مؤاخذة الحكام، لا ليقيم حدود الإسلام، وإذا قام فيهم داع يدعوا إلى الله، ويذكر المؤمنين بآيات الله، رماه الرؤساء بسهام الملام، وأغروا به الساسة وهاجوا عليه العوام، خائفين أن يحيي ما أماتوه من الاجتهاد في فهم الكتاب والسنة، زاعمين أنه يبطل مذاهب الأئمة، على أن التذكير هو الذي يحيي علم المجتهدين، لأنهم كانوا مذكرين به ومبينين، لا صادين عنه ولا ناسخين، وما كل من اهتدى بهديهم في التذكير والتبيين، يلحقهم في الاستنباط والتدوين، فيا أيها العلماء أحيوا كتاب الله، فوالله إنه لا حياة لهذه الأمة بسواه، ولذلك عادت بترك هديه إلى عادات الجاهلية، وما هو شر منها من إباحة الإفرنج العصرية، اتباعا للهوى ونزغات البهيمية.
هذا وإن جمهور المفسرين فسروا نعمة الله هنا بالدين والرسالة وجعلوا ما أنزل من الكتاب والحكمة تفصيلا للنعمة المجملة قال الأستاذ الإمام {واذكروا نعمة الله عليكم} بإرسال هذا الرسول، وبيان الحدود والحقوق التي تحفظ لكم الهناء في الدنيا، وتضمن لكم السعادة في الآخرة. وذكر أن ما بعد هذا تفصيل له. وفسر الحكمة بسر الكتاب، ثم قال وفي النعمة وجه آخر وهي هذه الرحمة التي جعلها الله بين الرجال والنساء، وامتن بها علينا في قوله {وجعل بينكم مودة ورحمة} وإنما أوردنا هذا الوجه أولا بالبيان والتفصيل، لأنه هو المختار عندنا، وذهب بعضهم إلى أن النعمة هنا عامة تشمل نعم الدنيا والدين.
{واتقوا الله} أمر بعد كل ما تقدم من التأكيد والتشديد والتهديد بتقواه بامتثال أمره ونهيه زيادة في العناية بأمر النساء وصلة الزوجية وهو ما تقتضيه البلاغة في هذا المقام، مقاومة لما ملك النفوس قبل ذلك من عدم المبالاة بعقد الزوجية، إذ كانوا يرونه كعقد الرق والبيع والإجارة في المتاع الخسيس والنفيس بل كانوا يرونه دون ذلك لأن الرجل لم يكن يشتري متاعا ثم يرمي به في الطريق زهدا فيه، ولم يكن يمسك قنه ليعذبه وينتقم منه، ولكنهم كانوا يطلقون المرأة لأدنى سبب، كالملل والغضب، ثم يعودون إليها يفعلون ذلك المرة بعد المرة وكانوا يمسكونها للضرر والإهانة كما تقدم آنفا، وقد يستبدل الواحد منهم امرأة الآخر بامرأته. فاعتياد هذه المعاملة السوءى والأنس بها لا تكون مقاومته إلا بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة في تأكيده بالترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، إذ لا يسهل على الرجل الذي كان يرى المرأة مثل الأمة أو دونها أن يساويها بنفسه بمجرد الأمر، ويرى لها عليه مثل ما له عليها ويحظر على نفسه مضارتها وإيذاءها ويلتزم معاملتها بالمعروف في حال إمساكها عنده وفي حال تسريحها إن اضطر إليه.
ولكن هذه العظات والتشديدات المشتملة على الإقناع وبيان المصلحة هي التي تعمل في نفسه، وتؤثر بتكرارها في قلبه، وإن كان كالحجارة في القسوة. نعم إنه قد كان له أحسن التأثير في أولئك الخارجين من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، وفي من اتبعهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف أعرضوا عن القرآن، وجهلوا ما فيه من الحكم والأحكام، حتى صاروا شرا مما كان عليه أهل الجاهلية وسائر الأمم من ظلم النساء، فلم يتقوا الله في ذلك ولا تدبروا قوله بعد ما تقدم.
وقوله {واعلموا أن الله بكل شيء عليم} وهو أبلغ في موضعه من كل ما تقدم من التأكيد والتشديد في حقوق النساء لأن الإنسان قد راعى الأحكام الظاهرة بقدر الإمكان بغير إخلاص فيطبق على الحكم على وجه يعلم أن من ورائه ضررا. فهذه الجملة تذكره بأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء مما يسره العبد أو يعلنه، فلا يرضيه إلا التزام حدوده والعمل بأحكامه، مع الإخلاص وحسن النية، حتى يكون ظاهره كباطنه في الخير، ولا يتم له ذلك إلا بمراقبة الله تعالى في عمله، والعلم اليقين بأنه مطلع عليه فيه: لا يبيت قولا أو فعلا، ولا ينوي خيرا أو شرا، ولا يطوف في ذهنه خاطر، ولا تختلج في قلبه خلجة، إلا وهو سبحانه عالم بذلك ومطلع عليه فلا طريق له إلى مرضاة ربه إلا بتطهير قلبه، وإخلاص نيته في معاملة زوجته، وفي سائر المعاملات.
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: من حسنت نيته حسن عمله غالبا بل كان موفقا دائما. أقول: ومن التوفيق أن يستفيد من خطئه الذي لم يرد به سوءا فيعرف كيف يتوقى مثل هذا الخطأ، ويزداد بصيرة في الخير.
فليزن المؤمنون أنفسهم بميزان هذه الآية الكريمة وأمثالها وهي موازين القسط، ليعلموا أن منشأ فساد البيوت وشقاء المعيشة هو الإعراض عن هدي الكتاب المبين، وأنه لا سبيل إلى السعادة إلا بالرجوع إليه، وفقنا الله لذلك بمنه وكرمه...
{واتقوا الله} أمر بعد كل ما تقدم من التأكيد والتشديد والتهديد بتقواه بامتثال أمره ونهيه زيادة في العناية بأمر النساء وصلة الزوجية وهو ما تقتضيه البلاغة في هذا المقام، مقاومة لما ملك النفوس قبل ذلك من عدم المبالاة بعقد الزوجية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة. سواء [أتصلت] حبالها [أم] انفصمت عراها. ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها. ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية. عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير.. هو عنصر الإيمان بالله. والإيمان باليوم الآخر. وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان -أرفع النعم- إلى نعمة الصحة والرزق. واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة...
والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة. فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الاصلاح -والمعاملة بالمعروف- وهذا هو الإمساك بالمعروف.. وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة -وهذا هو التسريح بإحسان، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء.. {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه. ولا تتخذوا آيات الله هزوا. واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به. واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم}.. إن الذي يمسك المطلقة ضرارا واعتداء يظلم نفسه. فهي أخته. من نفسه. فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه. وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية، والجموح بها عن طريق الطاعة.. وهذه هي اللمسة الأولى. وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق؛ فإذا هو استغلها في الحاق الإضرار والأذى بالمرأة، متلاعبا بالرخص التي جعلها الله متنفسا وصمام آمن، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها، في إمساك المرأة لإيذائها وإشقائها.. إذا فعل شيئا من هذا فقد اتخذ آيات الله هزوا- وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد. ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام -وويل لمن يستهزئ بآيات الله دون حياء من الله. ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة. وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.. وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم، شاملة لهذه الحياة.. فإذا ذكرهم الله بالنعمة هنا، فهم يذكرون شيئا حاضرا في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر. وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد. وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر.. وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.. والقرآن يقول لهم: {وما أنزل عليكم}.. بضمير المخاطب؛ ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم، والله ينزل عليهم هذه الآيات، التي يتألف منها المنهج الرباني، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فقد ظلم نفسه} جعل ظلمهم نساءهم ظلماً لأنفسهم، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة واضطراب حال البيت وفوات المصالح بشغب الأذهان في المخاصمات. وظلم نفسه أيضاً بتعريضها لعقاب الله في الآخرة...
{واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم}. فإياكم أن تتهموا دينكم بأنه قد فاته شيء من التشريع لكم، فكل تشريع جاهز في الإسلام، لأن الله عليم بما تكون عليه أحوال الناس، فلا يستدرك كون الله في الواقع على ما شرع الله في كتابه، لأنه سبحانه خالق الكون ومنزل التشريع...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآية نداء للأزواج الذين يستغلون الحقّ في الرجوع في العدّة، وسيلة من وسائل الإضرار بالزوجة... فهو لا يريد أن يرجع إليها ليساكنها ويعاشرها بالمعروف، كما يعيش الزوج مع زوجته بالطريقة الإنسانية السمحة، بل يحاول أن يضارّها ليجعلها في ما يشبه السجن من الحياة الزوجية المضغوطة بضغوط العدوان والحقد، وليمنعها من أن تجد لنفسها السبيل في حياة جديدة، في تجربة أخرى مع زوج آخر... وهكذا يتصرّف لينفّس عمّا يحمله في داخله من عوامل الحقد. إنَّ اللّه يخاطب من يفعل ذلك، بأنه ممن ظلم نفسه بمعصيته ربه؛ لأنَّ في ذلك إثماً وانحرافاً عن خطّ اللّه، واستهزاءً بآيات اللّه من ناحية عملية، وإن لم يكن كذلك من ناحية شكلية. فإنه لا فرق بين من لا يحترم آيات اللّه بالكلمة، وبين من لا يحترمها بالعمل. ثُمَّ يذكرهم اللّه بنعمته عليهم في ما أولاهم إياه من ضروب النعم، ويثير أمامهم التفكير الواعي في ما أنزله اللّه عليهم بواسطة أنبيائه من الكتاب الذي يهدي الإنسان السبيل إلى النور ويبعده عن الظلمة، ومن الحكمة التي تخلق للإنسان الرؤية الواضحة والفهم المستقيم والوقوف عند العلامات الثابتة للأشياء... ففي ذلك كلّه الموعظة، كلّ الموعظة، التي تدعو إلى التقوى، وتدفع إلى النجاة، وتبعث على الشعور العميق بالرقابة الشاملة الواعية من قبل اللّه الذي لا بُدَّ للعباد من أن يعلموا بأنه عليم بكلّ شيء؛ فهو الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السَّماء. وقد يكون في هذا التأكيد في ترديد الكلمات التي تعبّر عن ضرورة الالتزام من الوجه الإيجابي والسلبي، والدعوة إلى التجاوب مع موعظة اللّه للإنسان في ذلك كلّه، والدعوة إلى التقوى واستشعار أثر النعمة في نفسه وفي ما أنزله اللّه عليه... قد يكون في هذا التأكيد إشارة إلى أنَّ مثل هذه الأمور التي تدخل في النوازع النفسية المعقّدة التي تلتقي بالقيم المنحطّة للإنسان، قد تحتاج إلى جهدٍ كبير في أساليب المعالجة والإصلاح لقوّة تأثيرها على النفس الإنسانية بالمستوى الكبير...