ولما أمر بالقيام بحقه ، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد ، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ }{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ } أي : عهدنا إليه ، وجعلناه وصية عنده ، سنسأله عن القيام بها ، وهل حفظها أم لا ؟ فوصيناه { بِوَالِدَيْهِ } وقلنا له : { اشْكُرْ لِي } بالقيام بعبوديتي ، وأداء حقوقي ، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي . { وَلِوَالِدَيْكَ } بالإحسان إليهما بالقول اللين ، والكلام اللطيف ، والفعل الجميل ، والتواضع لهما ، [ وإكرامهما ]{[668]} وإجلالهما ، والقيام بمئونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه ، بالقول والفعل .
فوصيناه بهذه الوصية ، وأخبرناه أن { إِلَيَّ الْمَصِيرُ } أي : سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك ، وكلفك بهذه الحقوق ، فيسألك : هل قمت بها ، فيثيبك الثواب الجزيل ؟ أم ضيعتها ، فيعاقبك العقاب الوبيل ؟ .
ثم ذكر السبب الموجب لبر الوالدين في الأم ، فقال : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } أي : مشقة على مشقة ، فلا تزال تلاقي المشاق ، من حين يكون نطفة ، من الوحم ، والمرض ، والضعف ، والثقل ، وتغير الحال ، ثم وجع الولادة ، ذلك الوجع الشديد .
ثم { فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها ، أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه الشدائد ، مع شدة الحب ، أن يؤكد على ولده ، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه ؟
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة . ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة :
( ووصينا الإنسان بوالديه ، حملته أمه وهنا على وهن ، وفصاله في عامين ، أن اشكر لي ولوالديك ، إلي المصير . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ، وصاحبهما في الدنيا معروفا ، واتبع سبيل من أناب إلي . ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) . .
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم ، وفي وصايا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا . ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه . فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشىء لضمان امتداد الحياة ، كما يريدها الله ؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال ، في غير تأفف ولا شكوى ؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان ! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان ! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة ! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في أدبار الحياة ، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة ! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه ، ولو وقف عمره عليهما . وهذه الصورة الموحية : ( حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين )ترسم ظلال هذا البذل النبيل . والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر ؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق . . روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده - بإسناده - عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? قال : " لا . ولا بزفرة واحدة " . هكذا . . ولا بزفرة . . في حمل أو في وضع ، وهي تحمله وهنا على وهن .
وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول ، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ؛ ويرتب الواجبات ، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين . . ( أن اشكر لي ولوالديك ) . . ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة : ( إلي المصير )حيث ينفع رصيد الشكر المذخور .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأمرنا الإنسان ببرّ والديه "حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْنا عَلى وَهْنٍ "يقول: ضعفا على ضعف، وشدّة على شدّة... وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في المعنيّ بذلك؛
فقال بعضهم: عنى به الحمل... عن ابن عباس، قوله: "وَوَصّيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْنا عَلى وَهْنٍ" يقول: شدّة بعد شدّة، وخلقا بعد خلق... وقال آخرون: بل عنى به: وهن الولد وضعفه على ضعف الأمّ... وقوله: "وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ" يقول: وفطامه في انقضاء عامين...
وقوله: "أنِ اشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْكَ" يقول: وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك، ولوالديك تربيتهما إياك، وعلاجهما فيك ما عالجا من المشقة حتى استحكم قواك. وقوله: "إليّ المَصِيرُ" يقول: إلى الله مصيرك أيها الإنسان، وهو سائلك عما كان من شكرك له على نعمه عليك، وعما كان من شكرك لوالديك، وبرّك بهما على ما لقيا منك من العناء والمشقة في حال طفوليتك وصباك، وما اصطنعا إليك في برّهما بك، وتحننهما عليك.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه...
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن سماك بن حرب، قال: قال سعد بن مالك: نزلت فيّ: "وَإنْ جاهَدَاكَ عَلى أنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا" قال: لما أسلمت، حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا، قال: فناشدتها أوّل يوم، فأبت وصبرت فلما كان اليوم الثاني ناشدتها، فأبت فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله لو كانت لك مئة نفس لخرجت قبل أن أدع ديني هذا فلما رأت ذلك، وعرفت أني لست فاعلاً أكلت.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ووصينا الإنسان بوالديه} ولم يذكر ههنا بماذا وصاه؟ فجائز كون الوصية بما ذكر في آية أخرى حيث قال: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} [العنكبوت: 8]
ثم ذكر ما حملت الأم من المشقة والشدة، ولم يذكر من الأب شيئا. وقد كان للأب وقت احتمال الأم المشقة اللذة والسرور والفرح. فجائز أن يقال: إن كان الأب بإزاء تلك المشقة التي احتملت الأم معنى ما يؤمر أن يشكر له ويحسن إليه فهو ما يتحمل من الإنفاق عليها وعليه في حال الرضاع، وهو ما ذكر: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233] وقوله: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6] أو ما لم يجعله مطعونا في الناس بحيث لم يعرف له نسب، ينسب إليه، بل جعله معروف النسب غير مطعون في الخلق "ونحوه.
ثم ذكر الفصال، ولم يذكر الرضاع والمشقة في الإرضاع. والمشقة في الإرضاع لا في الفصال. لكنه ذكر تمام الرضاع وكماله، إذ بالفصال يتم ذلك، ويكمل.
{أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} أمر بالشكر له ولوالديه. وحاصل الشكر إليه راجع دون من يشكر له؛ إذ كل من صنع إلى آخر ما يستوجب به الشكر والثناء فبالله صنع ذلك إليه، وبنعمه كان منه ذلك. فكل من حمد دونه أو شكر فراجع إليه في حقيقة ذلك.
ثم يخرّج قوله: {أن اشكر لي ولوالديك} على وجهين: أحدهما: اشكر لي في ما تشكر والديك بإحسانهما إليك، فإنهما ما أحسنا إليك إلا بفضلي ورحمتي كقوله: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم} [البقرة: 200] أي اذكروا الله في ما تذكرون آباءكم بصنعهم، فإنهم إنما فعلوا ذلك بفضل الله.
{إلي المصير} قد ذكرنا أنه خص ذلك المصير إليه، وإن كانوا في جميع الأوقات صائرين إليه راجعين بارزين له لما المقصود من إنشائهم في هذا ذاك، وصار إنشاؤهم وخلقهم في الدنيا حكمة بذاك ما لولا ذلك لكان عبثا باطلا على ما ذكر.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
أنبأني عبدالله بن حامد الأصفهاني، عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي قال: أخبرني أبو بكر محمّد بن القاسم البلخي، عن نصير بن يحيى، عن سفيان بن عيينة في قول الله عزّ وجلّ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} قال: مَنْ صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات فقد شكر للوالدين...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وشكر الله بالحمد والطاعة، وشكر الوالدين بالبر والصلة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أوجب الله شُكرَ نفسه وشكر الوالدين، ولما حصل الإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما، وألا يُكْتَفى فيه بمجرد النطق بالثناء عليهما عُلِم أنَّ شُكْرَ الحقِّ لا يكْفي فيه مجرَّدُ القول ما لم تكن فيه موافقهُ العقل؛ وذلك بالتزام الطاعة، واستعمال النعمة في وجه الطاعة دون صَرفِها في الزَّلَّة؛ فشكرُ الحقِّ بالتعظيم والتكبير، وشكرُ الوالدين بالإنفاق والتوفير...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... يحتمل أن أشار إلى تدرج حالها في زيادة الضعف، فكأنه لم يعين ضعفين بل كأنه قال حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمره...
لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبة منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة، بل هي واجبة لغير الله في بعض الصور مثل خدمة الأبوين، ثم بين السبب فقال: {حملته أمه} يعني لله على العبيد نعمة الإيجاد ابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق وجعل بفضله للأم ما له صورة ذلك وإن لم يكن لها حقيقة فإن الحمل به يظهر الوجود، وبالرضاع يحصل التربية والبقاء فقال:" حملته أمه "أي صارت بقدرة الله سبب وجوده {وفصاله في عامين}، أي صارت بقدرته أيضا سبب بقائه، فإذا كان منها ما له صورة الوجود والبقاء وجب عليه ما له شبه العبادة من الخدمة، فإن الخدمة لها صورة العبادة.
فإن قال قائل وصى الله بالوالدين وذكر السبب في حق الأم فنقول خص الأم بالذكر وفي الأب ما وجد في الأم فإن الأب حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ.
{أن اشكر لي ولوالديك} لما كان الله تعالى بفضله جعل من الوالدين صورة ما من الله، فإن الوجود في الحقيقة من الله وفي الصورة يظهر من الوالدين جعل الشكر بينهما فقال: {أن اشكر لي ولوالديك}.
ثم بين الفرق وقال: {إلى المصير} يعني نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي في الدنيا والآخرة، فإن إلي المصير، أو نقول لما أمر بالشكر لنفسه وللوالدين قال الجزاء علي وقت المصير إلي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
إيذاناً بأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، وتفخيماً لحق الوالدين، لكونه قرن عقوقهما بالشرك، وإعلاماً بأن الوفاء شيء واحد متى نقص شيء منه تداعى سائره، ولذلك لفت الكلام إلى مظهر العظمة ترهيباً من العقوق ورفعاً لما لعله يتوهم من أن الانفصال عن الشرك لا يكون إلا بالإعراض عن جميع الخلق، ولما قد يخيله الشيطان من أن التقيد بطاعة الوالد شرك، مضمناً تلك الوصية إجادة لقمان عليه السلام في تحسين الشكر وتقبيح الشرك لموافقته لأمر رب العالمين، وإيجاب امتثال ابنه لأمره، فقال مبيناً حقه وحق كل والد غيره، ومعرفاً قباحة من أمر ابنه بالشرك لكونه منافياً للحكمة التي أبانها لقمان عليه السلام، وتحريم امتثال الابن لذلك ووجوب مخالفته لأبيه فيه تقديماً لأعظم الحقين، وارتكاباً لأخف الضررين:
{ووصينا} أي قال لقمان ذلك لولده نصحاً له والحال أنا بعظمتنا وصينا ولده به بنحو ما أوصاه به في حقنا -هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يشمل غيره فقال: {الإنسان} أي هذا النوع على لسان أول نبي أرسلنا وهلم جراً وبما ركزناه في كل فطرة من أنه ما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
{بوالديه} فكأنه قال: إن لقمان عرف نعمتنا عليه وعلى أبناء نوعه لوصيتنا لأولادهم بهم فشكرنا ولقن عنا نهيهم بذلك عن الشرك لأنه كفران لنعمة المنعم، فانتهى في نفسه ونهى ولده، فكان بذلك حكيماً. ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما للأب من العظمة بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها، نوه بها ونبه على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه عن الأب مما حصل لها من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية فقال معللاً أو مستأنفاً: {حملته أمه وهناً} أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت {على وهن} أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل.
ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك، وترجية لهما بالعول عليه وتعظيماً لحقهما بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا فيه باتساع زمنه فقال: {في عامين} تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا لله تعالى، وفي التعبير بالعام أيضاً إشارة إلى تعظيم منتها بكونها تعد أيام رضاعه- مع كونها أضعف ما يكون في تربيته -أيام سعة وسرور، والتعبير ب "في "مشيراً إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله، وتدعو إليه المصلحة من أمره.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال في (البصائر): الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره. هذه الخمسة هي أساس الشكر وبناؤه عليها، فإن عدم منها واحدة، اختلت قاعدة من قواعد الشكر. وكل من تكلم في الشكر، فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة.
ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة، وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد -وهي حالة خاصة في ظروف خاصة- ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والدي، فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها الله؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في أدبار الحياة، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما.
وهذه الصورة الموحية: (حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين) ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق.. روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده -بإسناده- عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي [صلى الله عليه وسلم] هل أديت حقها؟ قال:"لا. ولا بزفرة واحدة". هكذا.. ولا بزفرة.. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهنا على وهن. وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين؛ ويرتب الواجبات، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين.. (أن اشكر لي ولوالديك).. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة: (إلي المصير) حيث ينفع رصيد الشكر المذخور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذا درجنا على أن لقمان لم يكن نبيئاً مبلغاً عن الله وإنما كان حكيماً مرشداً كان هذا الكلام اعتراضاً بين كلامي لقمان لأن صيغة هذا الكلام مصوغة على أسلوب الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله. والضمائر ضمائر العظمة جرَّتْه مناسبة حكاية نهي لقمان لابنه عن الإشراك وتفظيعه بأنه ظلم عظيم. فذكر الله هذا لتأكيد ما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بتعميم النهي في الأشخاص والأحوال لئلا يتوهم متوهم أن النهي خاص بابن لقمان أو ببعض الأحوال فحكى الله أن الله أوصى بذلك كل إنسان وأن لا هوادة فيه ولو في أحرج الأحوال وهي حال مجاهدة الوالدين أولادَهم على الإشراك.
وأحسن من هذه المناسبة أن تجعل مناسبة هذا الكلام أنه لما حكى وصاية لقمان لابنه بما هو شكر الله بتنزيهه عن الشرك في الإلهية بيَّن الله أنه تعالى أسبق منَّة على عباده إذ أوصى الأبناء ببر الآباء فدخل في العموم المنة على لقمان جزاءً على رعيه لحق الله في ابتداء موعظة ابنه فالله أسبق بالإحسان إلى الذين أحسنوا برَعْي حقه.
ويقوي هذا التفسير اقتران شكر الله وشكر الوالدين في الأمر.
وإذا درجنا على أن لقمان كان نبيئاً فهذا الكلام مما أبلغه لقمان لابنه وهو مما أوتيه من الوحي ويكون قد حكي بالأسلوب الذي أوحي به إليه على نحو أسلوب قوله {أن اشكر لله} [لقمان: 12] وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكلام، ويرجحه اختلاف الأسلوب بينها وبين آيتي سورة العنكبوت وسورة الأحقاف لأن ما هنا حكاية ما سبق في أمة أخرى والأخريين خطاب أنف لهذه الأمة.
وقد روي أن لقمان لما أبلغ ابنه هذا قال له: إن الله رضيني لك فلم يوصِني بك ولم يرضَك لي فأوصاكَ بي. المقصود من هذا الكلام هو قوله {وإن جاهداك على أن تشرك بي} إلى آخره...
وما قبله تمهيد له وتقرير لواجب بر الوالدين ليكون النهي عن طاعتهما إذا أمرا بالإشراك بالله نهياً عنه في أوْلى الحالات بالطاعة حتى يكون النهي عن الشرك فيما دون ذلك من الأحوال مفهوماً بفحوى الخطاب مع ما في ذلك من حسن الإدماج المناسب لحكمة لقمان سواء كان هذا من كلام لقمان أو كان من جانب الله تعالى.
وعلى كلا الاعتبارين لا يحسن ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت في قضية إسلام سعد بن أبي وقاص وامتعاض أمه، لعدم مناسبته السياق، ولأنه قد تقدم أن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك، وأنها المناسبة لسبب النزول فإنها أخلِيت عن الأوصاف التي فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه، ولا وجه لنزول آيتين في غرض واحد ووقت مختلف وسيجيئ بيان الموصَى به.
جملة {حملته أمه وهناً على وهن}...لما ذكرت هنا الحالة التي تقتضي البر بالأم من الحمل والإرضاع كانت منبهة إلى ما للأب من حالة تقتضي البرَّ به على حساب ما تقتضيه تلك العلة في كليهما قوة وضعفاً. ولا يقدح في القياس التفاوت بين المقيس والمقيس عليه في قوة الوصف الموجب للإلحاق، وقد نبَّه على هذا القياس تشريكهما في التحكم عقب ذلك بقوله {أن اشكر لي ولوالديك} وقوله {وصاحبهما في الدنيا معروفاً}.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ... الله تعالى يذكرنا هنا بدور الأم خاصة، لأنها تصنع لك وأنت صغير لا تدرك صنعها، فهو مستور عنك لا تعرفه، أما أفعال الأب وصنعه لك فجاء حال كبرك وإدراكك للأمور من حولك، لذلك ذكره الحق تبارك وتعالى هنا {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ...