ولما ذكر تعالى مادة خلق الأقوات ، ذكر منته بتهيئة المساكن ، وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد ، من الضياء والظلمة ، وما يترتب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح فقال : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } أي : كما أنه فالق الحب والنوى ، كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي ، الشامل لما على وجه الأرض ، بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا ، حتى تذهب ظلمة الليل كلها ، ويخلفها الضياء والنور العام ، الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم ، ومعايشهم ، ومنافع دينهم ودنياهم .
ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة ، التي لا تتم بوجود النهار والنور { جَعَلَ } الله { اللَّيْلَ سَكَنًا } يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم ، والأنعام إلى مأواها ، والطيور إلى أوكارها ، فتأخذ نصيبها من الراحة ، ثم يزيل الله ذلك بالضياء ، وهكذا أبدا إلى يوم القيامة { و } جعل تعالى { الشمس وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } بهما تعرف الأزمنة والأوقات ، فتنضبط بذلك أوقات العبادات ، وآجال المعاملات ، ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر ، وتناوبهما واختلافهما - لما عرف ذلك عامة الناس ، واشتركوا في علمه ، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس ، بعد الاجتهاد ، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت .
{ ذَلِكَ } التقدير المذكور { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات العظيمة ، فجرت مذللة مسخرة بأمره ، بحيث لا تتعدى ما حده الله لها ، ولا تتقدم عنه ولا تتأخر { الْعَلِيمُ } الذي أحاط علمه ، بالظواهر والبواطن ، والأوائل والأواخر .
ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمه ، تسخير هذه المخلوقات العظيمة ، على تقدير ، ونظام بديع ، تحيُّرُ العقول في حسنه وكماله ، وموافقته للمصالح والحكم .
( فالق الإصباح ، وجعل الليل سكنا ، والشمس والقمر حسبانا . ذلك تقدير العزيز العليم )
إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضا ، وهو الذي جعل الليل للسكون ، وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما . . مقدرا ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء ، وبعلمه الذي يحيط بكل شيء .
وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة . وانبثاق النور في تلك الحركة ، كانبثاق البرعم في هذه الحركة . . وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة ، ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك . .
وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى . . إن الإصباح والإمساء ، والحركة والسكون ، في هذا الكون - أو في هذه الأرض - ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة .
إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس ؛ وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض ؛ وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة . . هي تقديرات من ( العزيز ) ذي السلطان القادر( العليم ) ذي العلم الشامل . . ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو ، ولما انبثق النبت والشجر ، من الحب والنوى . .
إنه كون مقدر بحساب دقيق . ومقدر فيه حساب الحياة ، ودرجة هذه الحياة ، ونوع هذه الحياة . . كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه - وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب
والذين يقولون : إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون . وأن الكون لا يحفلها . بل يبدو أنه يعاديها . وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله . بل يقول بعضهم : إن هذه الضآلة توحي بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة ! . . إلى آخر ذلك اللغو ، الذي يسمونه أحيانا " علمًا ! " ويسمونه أحيانا " فلسفة " ! وهو لا يستأهل حتى مناقشته !
إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم ؛ ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم ! ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفا ألا يواجهوها ! . . إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه ! وكلما سلكوا طريقا يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها ، فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى . ليواجهوا الله - سبحانه - في نهايتها كذلك !
إنهم مساكين ! بائسون ! لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب . . فروا( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ) . . ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرآن . . دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم . أم انقطعت منها - كما انقطعت منهم - الأنفاس .
إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضا . . فإلى أين الفرار ؟ . .
يقول " فرانك أللن " العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة :
" إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية . فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها ، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار ، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام ، فيكون في ذلك تتابع الفصول ، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة . ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغارات اللازمة للحياة ، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير [ يزيد على 500ميل ] .
" ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يوميا إلينا ، منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية . والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة ، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات ، حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها . والمطر مصدر الماء العذب ، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة . ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة " . .
إن الأدلة " العلمية " تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزا كاملا عن تعليل نشأة الحياة ، بما يلزم لهذه النشأة - وللنمو والبقاء والتنوع بعدها - من موافقات لا تحصى في تصميم الكون . . منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق ، ووراءها من نوعها كثير . فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم . الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجعل الليل سكنا} لخلقه يسكنون فيه لراحة أجسادهم، {و} جعل {والشمس والقمر حسبانا}، يقول: جعلهما في مسيرهما كالحسبان في الفلك، يقول: لتعلموا عدد السنين والحساب، وذلك أن الله قدر لهما منازلهما في السماء الدنيا، فذلك قوله: {ذلك تقدير العزيز} في ملكه يصنع ما أراد، {العليم} بما قدر من خلقه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فالِقُ الإصْباحِ": شاقّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده. والإصباح: مصدر من قول القائل: أصبحنا إصباحاً...
وقال آخرون: معنى ذلك: خالق الليل والنهار...
"وَجاعِلُ اللّيْلِ سَكَناً"... أخبر جلّ ثناؤه أنه جعل الليل سكناً، لأنه يسكن فيه كلّ متحرك بالنهار ويهدأ فيه، فيستقرّ في مسكنه ومأواه.
"والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً": اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب...عن بن عباس: "والشّمْسَ والقَمَرَ حُسْباناً "يعني: عدد الأيام والشهور والسنين... [وعنه]: يجريان إلى أجل جُعِل لهما.
وقال آخرون: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر ضياء...
وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب تأويل من تأوّله: وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب وعدد لبلوغ أمرهما ونهاية آجالهما، ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذِكره ذكر قبله أياديه عند خلقه وعظم سلطانه، بفلقه الإصباح لهم وإخراج النبات والغراس من الحبّ والنوى، وعقب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البرّ والبحر، فكان وصفه إجراء الشمس والقمر لمنافعهم أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما لأنه قد وصف ذلك قبلُ قوله: "فالِقُ الإصْباحِ "فلا معنى لتكريره مرّة أخرى في آية واحدة لغير معنى. والحسبان في كلام العرب: جمع حساب، كما الشبهان جمع شهاب وقد قيل: إن الحسبان في هذا الموضع مصدر من قول القائل: حَسَبْتُ الحِساب أحْسُبه حِساباً وحُسْباناً. وحُكي عن العرب على الله حُسْبان فلان وحِسْبَته: أي حسابه... "ذلك تَقْدِيرُ العَزِيرِ العَلِيمِ": يقول تعالى ذكره: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله، وهو فَلْقُه الإصباح وَجَعْلُه الليل سكَناً والشمس والقمر حُسباناً، تقدير الذي عزّ سلطانه، فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام من الامتناع منه، العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم، لا تقدير الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه شيئاً ولا تعقله ولا تضرّ ولا تنفع، وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها به. يقول جلّ ثناؤه: وأخلِصوا أيها الجهلة عبادتكم لفاعل هذه الأشياء، ولا تشركوا في عبادته شيئاً غيره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فالق الإصباح}... يحتمل الشق أي: يشق النهار من الليل والليل من النهار بعد ما تلف كل واحد منهما، ولم يبق له أثر. ففيه دليل البعث والإحياء بعد الموت؛ أي إن الذي قدر على إنشاء النهار من الليل، والليل من النهار بعد ما تلف، وذهب أثره لقادر على إنشاء الخلق وبعثهم بعد الموت وذهاب آثارهم {ذلك تقدير العزيز العليم}: ذلك الجريان الذي ذكر، وتلك المنافع التي جعلت فيهما {تقدير العزيز} قال الحسن: {العزيز} هو الذي لا يعجزه شيء، و {العزيز} هو الذي يعز كل عزيز. وقال بعضهم أهل التأويل {العزيز}: المنيع في سلطانه المنتقم من أعدائه. {العليم} بمصالح الخلق وبما كان، ويكون، وبحوائجهم، وبالله التوفيق.
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته، فالنوع المتقدم كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان، والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية، وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية،... {والشمس والقمر حسبانا}... معناه أنه قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين كما ذكره في سورة يونس في قوله: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} وقال في سورة الرحمن: {الشمس والقمر بحسبان} وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى قدر حركة الشمس مخصوصة بمقدار من السرعة والبطء بحيث تتم الدورة في سنة، وقدر حركة القمر بحيث يتم الدورة في شهر، وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة، وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار، وحصول الغلات، ولو قدرنا كونها أسرع أو أبطأ مما وقع، لاختلت هذه المصالح فهذا هو المراد من قوله: {والشمس والقمر حسبانا}...
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {ذلك تقدير العزيز العليم} والعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه، ومعناه أن تقدير إجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار. والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} جمع تعالى في هذه الآية المنزلة بين ثلاث آيات سماوية، بعد الجمع فيما قبلها بين ثلاث آيات أرضية، (فالآية الأولى) "فالق الإصباح"، والمراد به الصبح وأصله مصدر «أصبح الرجل» إذا دخل في وقت الصباح... وفلق الإصباح عبارة عن فلق ظلمة الليل وشقها بعمود الصبح الذي يبدو في جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا، فلا يعتد به حتى يصير مستطيرا، تتفرى الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه إلى أن تنقشع وتزول، ولذلك سمي فجرا فإن الفجر بمعنى الفلق كما تقدم آنفا. والله تعالى هو فالق الإصباح بنور الشمس الذي يتقدمها، إذ هو خالقها ومقدر مواقع الأرض منها في سيرها، كما نبينه في الآية الثالثة من آيات هذه الآية فإنها معللة للآيتين قبلها، والمراد من التذكير بالآية الأولى التأمل في صنع الله بتفري الليل إذا عسعس، عن صبحه إذا تنفس، وإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود، ومبدأ زمن تقلب الأحياء في القيام والقعود، والركوع والسجود، ومضيهم في تجلي النهار، إلى ما يسروا له من الأعمال، وما لله في ذلك من نعم وحكم وأسرار. ويدل على ذلك ذكر الآية الثانية بفائدتها، وهي آية الليل يجعله الله سكنا، فهذا المذكور، يدل على مقابلة المحذوف وهو جعل النهار وقتا للحركة بالسعي للمعاش، والعمل الصالح للمعاد.
وقد صرح بنوعي الفائدتين في آيات كقوله تعالى: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} [القصص: 73] فهذه الآية على إيجازها جامعة للفوائد الدنيوية والدينية، وفيها اللف والنشر، أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا الرزق من فضل الله في النهار، وليعدكم لشكر نعمه عليكم بهما، وبمنافعكم في كل منهما، ومن الآيات المصرحة بذكرهما ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدنيوية فقط كقوله تعالى: {وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا} [النبأ: 10] ومنها ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدينية فقط كقوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} [الفرقان: 62] فيا لله من إيجاز القرآن وبلاغته في اختلاف عبارته!!...
والسَّكَن (بالتحريك): السكون وما يسكن فيه من مكان كالبيت وزمان كالليل، وكذا ما يسكن إليه، وهو ما اختاره الكشاف هنا قال: السكن ما يسكن إليه الرجل (أي وغيره) ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب، ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها، ألا تراهم سموها المؤنسة، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه. ويجوز أن يراد وجعل الليل مسكونا فيه من قوله: « لتسكنوا فيه) اه. وهذا الأخير المرجوح عنده هو الراجح المختار عندنا إلا أنه يجوز الجمع بينهما، ودليل الترجيح نص (لتسكنوا فيه) وكون السكون فيه أعم وأظهر من السكون إليه، فإن كثيرا من الناس يستوحشون من الليل ولا يأنسون به، وإن كان له على آخرين أياد جلية أو خفية...
والمراد بالسكون فيه ما يعم سكون الجسم وسكون النفس. أما سكون الجسم فبراحته من تعب بالنهار، وأما سكون النفس فبهدوء الخواطر والأفكار، والليل زمن السكون لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر في النهار، لما خص به الأول من الإظلام والثاني من الإبصار، {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب} [الإسراء: 12] فأكثر الأحياء من إنسان وحيوان تترك العمل والسعي في الليل، وتأوي إلى مساكنها للراحة التي لا تتم وتكمل إلا بالنوم، الذي تسكن به الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية، كما تسكن به الأعضاء الرئيسية سكونا نسبيا بقلة حركتها الطبيعية... وقد علل النوم تعليلات كثيرة ولما يصل العلماء إلى كشف سره، واستجلاء كنه سببه.
وأما الآية الثالثة الكونية في الآية فهي جعل الشمس والقمر حسبانا أي علمي حساب، لأن طلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما كل ذلك بحساب، كما قال تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمان 3] فما هنا بمعنى آية الإسراء (17:12) التي ذكرت آنفا وآية يونس {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} [يونس: 5] فالحساب بالكسر والحسبان بالضم مصدران لحسب يحسب (من باب نصر) وهو استعمال العدد في الأشياء والأوقات. وأما الحسبان بالكسر فهو مصدر حسب (بوزن علم) وفضل الله تعالى في ذلك عظيم فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منها في جملتها، وعند خواص العلماء من ذلك ما ليس عند غيرهم...
{ذلك تقدير العزيز العليم} أي ذلك الجعل العالي الشأن، البعيد المدى في الإبداع والإتقان، فوق بعد النيرات عن الإنسان، المترتب على ما ذكر من سبب اختلاف الأيام والفصول وتقدير السنين الشمسية، ومن تشكلات القمر التي نعرف بها الشهور القمرية، هو تقدير الخالق الغالب على أمره في تنظيم ملكه، الذي وضع المقادير والأنظمة الفلكية وغيرهما بما اقتضاه واسع علمه، فهذا النظام والإبداع من آثار عزته وعلمه عز وجل، فليس في ملكه جزاف ولا خلل، (إنا كل شيء خلقناه بقدر).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فالق الإصباح} يجوز أن يكون خبراً رابعاً عن اسم (إنّ)، ويجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة المخبر به عن اسم الإشارة، فيكون قوله: {فأنّى تؤفكون} اعتراضاً.
والإصباح بكسر الهمزة في الأصل مصدر أصبح الأفُق، إذا صار ذا صباح، وقد سمّي به الصباح، وهو ضياء الفجر فيقابل اللّيلَ وهو المراد هنا.
وفلْق الإصباح استعارة لظهور الضّياء في ظلمة اللّيل، فشبّه ذلك بفلق الظلمة عن الضّياء، كما استعير لذلك أيضاً السّلخ في قوله تعالى: {وآية لهم اللّيل نسلخ منه النّهار} [يس: 37]. فإضافة {فالق} إلى {الإصباح} حقيقيّة وهي لأدنى ملابسة على سبيل المجاز. وسنبيّنه في الآية الآتية لأنّ اسم الفاعل له شائبة الاسميّة فيضاف إضافة حقيقيّة، وله شائبة فعلية فيضاف إضافة لفظيّة. وهو هنا لمّا كان دالاً على وصف في الماضي ضعف شبهه بالفعل لأنّه إنّما يشبه المضارع في الوزن وزمننِ الحال أو الاستقبال. وقد يعتبر فيه المفعوليّة على التّوسّع فحُذف حرف الجرّ، أي فالق عن الإصباح فانتصب على نزع الخافض، ولذلك سمَّوْا الصّبح فَلَقاً بفتحتين بزنة ما بمعنى المفعول كما قالوا مسكَن، أي مسكون إليه فتكون الإضافة على هذا لفظية بالتأويل وليست إضافته من إضافة الوصف إلى معموله إذ ليس الإصباح مفعول الفلْق والمعنى فالق عن الإصباح فيعلم أنّ المفلوق هو الليل ولذلك فسّروه فالق ظلمة الإصباح، أي الظلمة التي يعقبها الصبح وهي ظلمة الغَبَش، فإنّ فلق الليل عن الصبح أبدع في مظهر القدرة وأدخل في المنّة بالنعمة، لأنّ الظلمة عدم والنور وجود. والإيجاد هو مظهر القدرة ولا يكون العدم ومظهراً للقدرة إلاّ إذا تسلّط على موجود وهو الإعدام، وفلق الإصباح نعمة أيضاً على النّاس لينتفعوا بحياتهم واكتسابهم.
{وجاعل اللّيل سكناً} عطف على {فالق الإصباح}.
وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل وجرّ {اللّيلِ} لمناسبة الوصفين في الاسميّة والإضافة. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلَف. {وجَعَل} بصيغة فعل الماضي وبنصب {اللّيل}.
وعُبّر في جانب اللّيل بمادة الجعل لأنّ الظلمة عدم فتعلّق القدرة فيها هو تعلّقها بإزالة ما يمنع تلك الظلمة من الأنوار العارضة للأفق. والمعنى أنّ الله فلق الإصباح بقدرته نعمة منه على الموجودات ولم يجعل النّور مستمراً في الأفق فجعله عارضاً مجزءاً أوقاتاً لتعود الظّلمة إلى الأفق رحمة منه بالموجودات ليسكنوا بعد النّصَب والعمل فيستجمّوا راحتهم.
والسكَن بالتَّحريك على زنة مُرادف اسم المفعول مثل الفَلَق على اعتباره مفعولاً بالتوسّع بحذف حرف الجرّ وهو ما يسكن إليه، أي تسكن إليه النّفس ويطمئنّ إليه القلب، والسّكون فيه مجاز. وتسمّى الزّوجة سكَناً والبيتُ سكناً قال تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً} [النحل: 80]، فمعنى جَعْل اللّيل سكناً أنّه جعل لتحصل فيه راحة النّفس من تعب العمل.
وعُطف {الشمس والقمر} على {اللّيل} بالنّصب رعياً لمحلّ اللّيل لأنّه في محلّ المفعول ل {جاعل} بناء على الإضافة اللّفظيّة. والعطف على المحلّ شائع في مواضع من كلام العرب مثل رفع المعطوف على اسم (إنّ)، ونصب المعطوف على خبَر ليس المجرور بالباء.
والحسبان في الأصل مصدر حَسَب بفتح السّين كالغُفران، والشُّكران، والكفران، أي جعلها حساباً، أي علامة حساببٍ للنّاس يحسبون بحركاتها أوقات اللّيل والنّهار، والشّهور، والفصول، والأعوام. وهذه منّة على النّاس وتذكير بمظهر العلم والقدرة، ولذلك جعل للشّمس حسبان كما جُعل للقمر، لأنّ كثيراً من الأمم يحسبون شهورهم وأعوامهم بحساب سير الشّمس بحلولها في البروج وبتمام دورتها فيها. والعرب يحسبون بسير القمر في منازله. وهو الذي جاء به الإسلام، وكان العرب في الجاهليّة يجعلون الكبس لتحويل السنة إلى فصول متماثلة، فموقع المنّة أعمّ من الاعتبار الشّرعي في حساب الأشهر والأعوام بالقمري، وإنّما استقام ذلك للنّاس بجعل الله حركات الشّمس والقمر على نظام واحد لا يختلف، وذلك من أعظم دلائل علم الله وقدرته، وهذا بحسب ما يظهر للنّاس منه ولو اطّلعوا على أسرار ذلك النّظام البديع لكانت العبرة به أعظم.
والإخبار عنهما بالمصدر إسناد مجازي لأنّه في معنى اسم الفاعل، أي حاسبين. والحاسب هم النّاس بسبب الشّمس والقمر.
والإشارة ب {ذلك} إلى الجعل المأخوذ من {جاعل}.
والتّقدير: وضع الأشياء على قدْر معلوم كقوله تعالى: {وخلق كلّ شيء فقدّره تقديراً} [الفرقان: 2].
والعزيز: الغالب، القاهر، والله هو العزيز حقّاً لأنّه لا تتعاصى عن قدرته الكائنات كلّها. والعليم مبالغة في العلم، لأنّ وضع الأشياء على النّظام البديع لا يصدر إلاّ عن عالم عظيم العلم.