تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

{ يَتَجَرَّعُهُ } من العطش الشديد { وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ } فإنه إذا قرب إلى وجهه شواه وإذا وصل إلى بطنه قطع ما أتى عليه من الأمعاء ، { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } أي : يأتيه العذاب الشديد من كل نوع من أنواع العذاب ، وكل نوع منه من شدته يبلغ إلى الموت ولكن الله قضى أن لا يموتوا كما قال تعالى : { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها }

{ وَمِنْ وَرَائِهِ } أي : الجبار العنيد { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي : قوي شديد لا يعلم وصفه وشدته إلا الله تعالى .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

( يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ )

يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها ، ولا يكاد يسيغه ، لقذارته ومرارته ، والتقزز والتكره باديان نكاد نلمحها من خلال الكلمات ! ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان ، ولكنه لا يموت ، ليستكمل عذابه . ومن ورائه عذاب غليظ .

إنه مشهد عجيب ، يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع . وتشترك كلمة( غليظ )في تفظيع المشهد ، تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين .

/خ27

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

وقوله : يَتَجَرّعُهُ يتحسّاه ، وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ يقول : ولا يكاد يزدرده من شدّة كراهته ، وهو يسيغه من شدّة العطش . والعرب تجعل «لا يكاد » فيما قد فُعِل ، وفيما لم يفعل . فأما ما قد فعل فمنه هذا ، لأن الله جلّ ثناؤه جعل لهم ذلك شرابا وأما ما لم يُفْعل وقد دخلت فيه «كاد » فقوله : حتى إذَا أخرْجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها فهو لا يراها .

وبنحو ما قلنا من أن معنى قوله : وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وهو يسيغه ، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الرواية بذلك :

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالَقانيّ ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبيد الله بن بسر ، عن أبي أمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : وَيُسْقَى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرّعُهُ : «فإذَا شَرِبَهُ قَطّعَ أمْعاءَهُ حتى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ » يقول الله عزّ وجلّ : وَسَقُوا ماءً حَمِيما فَقَطّعَ أمْعاءَهُمْ ، ويقول : وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا معمر ، عن ابن المبارك ، قال : حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبيد الله بن بُسْر ، عن أبي أمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله : وَيُسْقَى مِنْ ماءِ صَدِيدٍ فذكر مثله ، إلا أنه قال سُقُوا ماءَ حَمِيما .

حدثني محمد بن خلف العَسْقلاني ، قال : حدثنا حَيْوة بن شُرَيْحِ الحِمْصِيّ ، قال : حدثنا بقية ، عن صفوان ابن عمرو ، قال : ثني عبيد الله بن بسر ، عن أبي أمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله سواء .

وقوله : وَيأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيّت فإنه يقول : ويأتيه الموت من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وشماله ، ومن كلّ موضع من أعضاء جسده . وَما هُوَ بِمَيّتِ لأنه لا تخرج نَفْسه فيموت فيستريح ، ولايحيا لتعلق نفسه بالحناجر ، فلا ترجع إلى مكانها . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ماهد ، في قوله : يَتَجَرّعُهُ وَلا يَكادُ يُسيغُهُ وَيَأَتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيّتٍ قال : تعلق نفسه عند حنجرته ، فلا تخرج من فيه فيموت ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيجد لذلك راحة فتنفعه الحياة .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم التيميّ قوله : وَيأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلّ مَكانٍ قال : من تحت كلّ شعرة في جسده . وقوله : وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَليظٌ يقول : ومن وراء ما هو فيه من العذاب ، يعني أمامَه وقدامَه عذاب غليظ .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

التجرع : تكلف الجَرْع ، والجرع ؛ بلع الماء .

ومعنى { يُسيغه } يفعل سوغه في حلقه . والسوغ ؛ انحدار الشراب في الحلق بدون غصة ، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح ، يقال ساغ الشراب ، وشراب سائغ .

ومعنى { لا يكاد يسيغه } لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن أن يسيغه بالفعل ، كما تقدم في قوله تعالى : { وما كادوا يفعلون } في سورة البقرة ( 71 ) .

وإتيان الموت : حلوله ، أي حلول آلامه وسكراته ، قال قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة *** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

بقرينة قوله : وما هو بميت } ، أي فيستريح .

والكلام على قوله : { ومن وراءه عذاب غليظ } مثل الكلام في قوله : { من ورائه جهنم } ، أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه .

والغليظ : حقيقته الخشن الجسم ، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل ، أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه . وتقدم عند قوله : { ونجيناهم من عذاب غليظ } في سورة هود ( 58 ) .