فإذا فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد مشاهد العذاب . .
( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .
وقد وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية التي نزلت من قبل . أما هنا فهو مجرد التذكير لقوم يعرفون القصة . سواء من القرآن المكي ، أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة . إنما يذكرهم بها في صورة مشهد ، ليستعيدوا تصورها ، ويتأثروا بهذا التصور ، وكأنهم هم الذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر ، ونجاة بني إسرائيل بقيادة موسى - عليه السلام - على مشهد منهم ومرأى ! وخاصية الاستحياء هذه من أبرز خصائص التعبير القرآني العجيب .
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
أما تأويل قوله : وَإذْ فَرَقْنا بكُمُ فإنه عطف على : وَإذْ نَجّيْناكُمْ بمعنى : واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون ، وإذ فرقنا بكم البحر . ومعنى قوله : فَرَقْنا بِكُمْ : فصلنا بكم البحر ، لأنهم كانوا اثني عشر سبطا ، ففرق البحر اثني عشر طريقا ، فسلك كل سبط منهم طريقا منها . فذلك فرق الله بهم جل ثناؤه البحر ، وفصله بهم بتفريقهم في طرقه الاثني عشر . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : لما أتى موسى البحر كناه أبا خالد ، وضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، فدخلت بنو إسرائيل ، وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط .
وقد قال بعض نحويي البصرة : معنى قوله : وَإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ فرقنا بينكم وبين الماء : يريد بذلك : فصلنا بينكم وبينه وحجزناه حيث مررتم به . وذلك خلاف ما في ظاهر التلاوة لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنه فرق البحر بالقوم ، ولم يخبر أنه فرق بين القوم وبين البحر ، فيكون التأويل ما قاله قائلو هذه المقالة ، وفرقه البحر بالقوم ، إنما هو تفريقه البحر بهم على ما وصفنا من افتراق سبيله بهم على ما جاءت به الاَثار .
القول في تأويل قوله تعالى : فأنْجَيْناكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ .
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف أغرق الله جل ثناؤه آل فرعون ، ونَجّى بني إسرائيل ؟ قيل له : كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهْم الخيل سوى ما في جنده من شُهْبِ الخيل وخرج موسى ، حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف ، طلع فرعون في جنده من خلفهم ، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لَمُدْرَكُونَ قال موسى : كَلاّ إنّ مَعِي رَبي سَيَهْدِينِ أي للنجاة ، وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : أوحى الله إلى البحر فيما ذكر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلقْ له ، قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضا فَرَقا من الله وانتظار أمره ، فأوحى الله جل وعزّ إلى موسى : أنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه ، فانْفَلَقَ فَكانَ كُلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيمِ أي كالجبل على يبس من الأرض . يقول الله لموسى : اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا في البَحْرِ يَبَسا لاَ تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى فلما استقرّ له البحر على طريق قائمة يَبَسٍ سلك فيه موسى ببني إسرائيل ، وأتبعه فرعون بجنوده .
762وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي ، قال : حدثت أنه لما دخل بنو إسرائيل البحر ، فلم يبق منهم أحد ، أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل حتى وقف على شفير البحر ، وهو قائم على حاله ، فهاب الحصان أن ينفذه فعرض له جبريل على فرس أنثى وَدِيق ، فقرّبها منه فشمها الفحل ، فلما شمها قدّمها ، فتقدم معها الحصان عليه فرعون ، فلما رأى جند فرعون فرعونَ قد دخل دخلوا معه وجبريل أمامه ، وهم يتبعون فرعون وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم ، يقول : الحقوا بصاحبكم . حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد ، ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى وليس خلفه أحد ، طبق عليهم البحر ، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله عزّ وجلّ وقدرته ما رأى وعرف ذلته وخذلته نفسه : آمَنْتُ أنّهُ لاَ إلَهَ إِلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وأنا مِنَ المُسْلِمِينَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله : وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ فَأنْجَيْنَاكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال : لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون ، فقال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك . قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا فدعا بشاة فذبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط . فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط . ثم سار ، فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون : أين أمرك ربك يا موسى ؟ قال : أمامك يشير إلى البحر . فأقحم يوشك فرسه في البحر حتى بلغ الغمر ، فذهب به ثم رجع ، فقال : أين أمرك ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت ففعل ذلك ثلاث مرات ، ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى : أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْر فانْفَلَقَ فَكانَ كُل فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيم يقول : مثل جبل . قال : ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم ، فلذلك قال : وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال معمر : قال قتادة : كان مع موسى ستمائة ألف ، وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان .
وحدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أوحى الله جل وعز إلى موسى أنْ أسْرِ بعِبادِي لَيْلاً إنّكُمْ مُتّبَعُونَ قال : فسرى موسى ببني إسرائيل ليلاً ، فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث وكان موسى في ستمائة ألف ، فلما عاينهم فرعون قال : إنّ هؤلاءِ لِشَرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وإنّهُمْ لَنا لَغَائِظُونَ وإنّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ . فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر ، فالتفتوا فإذا هم برَهْج دوابّ فرعون فقالوا : يا موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أنْ تأتِيَنَا ومِن بعدِ ما جِئْتَنا هذا البحر أمامنا ، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه . قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكم فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ . قال : فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البحر وأوحى إلى البحر : أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك . قال : فبات/ فثاب البحر له أفكل يعني له رعدة لا يدرى من أيّ جوانبه يضربه ، قال : فقال يوشع لموسى : بماذا أمرت ؟ قال : أمرت أن أضرب البحر . قال : فاضربه قال : فضرب موسى البحر بعصاه ، فانفلق ، فكان فيه اثنا عشر طريقا ، كل طريق كالطود العظيم ، فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه . فلما أخذوا في الطريق ، قال بعضهم لبعض : ما لنا لا نرى أصحابنا ؟ قالوا لموسى : أين أصحابنا لا نراهم ؟ قال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم . قالوا : لا نرضى حتى نراهم قال سفيان ، قال عمار الدهني : قال موسى : اللهمّ أعني على أخلاقهم السيئة . قال : فأوحى الله إليه : أن قل بعصاك هكذا وأومأ إبراهيم بيده يديرها على البحر قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا ، فصار فيها كُوًى ينظر بعضهم إلى بعض ، قال سفيان : قال أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : فساروا حتى خرجوا من البحر ، فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه ، وكان فرعون على فرس أدهم ذَنُوب حصان . فلما هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر ، فتمثل له جبريل على فرس أنثى وَدِيق . فلما رآها الحصان تقحّم خلفها ، وقيل لموسى : اترك البحر رَهْوا قال : طرقا على حاله قال : ودخل فرعون وقومه في البحر ، فلما دخل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى أطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقوا .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ، فقال : أسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إنّكُمْ مُتَبّعُونَ فخرج موسى وهارون في قومهما ، وأُلقي على القبط الموت فمات كل بكر رجل . فأصبحوا يدفنونهم ، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : فأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فكان موسى على ساقة بني إسرائيل ، وكان هارون أمامهم يقدُمُهم . فقال المؤمن لموسى : يا نبيّ الله ، أين أمرت ؟ قال : البحر . فأراد أن يقتحم ، فمنعه موسى . وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل ، لا يعدّون ابنَ العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره ، وإنما عدوّا ما بين ذلك سوى الذرية . وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ما ذبانه ، يعني الأنثى وذلك حين يقول الله جل ثناؤه : فأرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ إنّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ يعني بني إسرائيل . فتقدم هارون ، فضرب البحر ، فأبى البحر أن ينفتح ، وقال : من هذا الجبار الذي يضربني ؟ حتى أتاه موسى ، فكناه أبا خالد وضربه فانفلق فكانَ كلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيم يقول : كالجبل العظيم . فدخلت بنو إسرائيل . وكان في البحر اثنا عشر طريقا ، في كل طريق سبط ، وكانت الطرق انفلقت بجدران ، فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا : فلما رأى ذلك موسى ، دعا الله ، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطّيقان . فنظر آخرهم إلى أولهم ، حتى خرجوا جميعا . ثم دنا فرعون وأصحابه ، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا ، قال : ألا ترون البحر فرق مني قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم ؟ فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : وأزْلَفْنا ثَمّ الاَخرِينَ يقول : قرّبنا ثم الاَخرين يعني آل فرعون . فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم ، فنزل جبريل على ماذبانه ، فشامّ الحصان ريح الماذبانه ، فاقتحم في أثرها ، حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم ، أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لما أخذ عليهم فرعون الأرض إلى البحر قال لهم فرعون : قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين . فلما رآهم أصحاب موسى ، قالوا : إنّا لَمُدْرَكُونَ قال كَلاّ إنّ مَعِي رَبي سَيَهْدِينِ فقال موسى للبحر : ألست تعلم أني رسول الله ؟ قال : بلى . قال : وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم ؟ قال : بلى . قال : أتعلم أن هذا عدوّ الله ؟ قال : بلى . قال : فانفرقْ لي طريقا ولمن معي . قال : يا موسى ، إنما أنا عبد مملوك ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى . فأوحى الله عزّ وجل إلى البحر : إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق ، وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر ، وقرأ قول الله تعالى : فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا في البَحْرِ يَبَسا لاَ تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى وقرأ قوله : وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوا سَهَلاً ليس فيه تعدّ . فانفرق اثنتي عشرة فرقة ، فسلك كل سبط في طريق . قال : فقالوا لفرعون : إنهم قد دخلوا البحر . قال : ادخلوا عليهم ، قال : وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم : ليلحق آخركم أولكم . وفي أول آل فرعون ، يقول لهم : رويدا يلحق آخركم أولكم . فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم : قد هلكوا . فلما دخل ذلك قلوبهم ، أوحى الله جلّ وعزّ إلى البحر ، فجعل لهم قناطر ينظر هؤلاء إلى هؤلاء ، حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء .
ويعني بقوله : وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي تنظرون إلى فَرْقِ الله لكم البحر وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجاكم فيه ، وإلى عظيم سلطانه في الذي أراكم من طاعة البحر إياه من مصيره رُكاما فَلِقا كهيئة الأطواد الشامخة غير زائل عن حدّه ، انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته ، وهو سائل ذائب قبل ذلك . يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليهم ، ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم ، ويحذرهم في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحلّ بهم ما حلّ بفرعون وآله في تكذيبهم موسى صلى الله عليه وسلم .
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله : وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ كمعنى قول القائل : «ضُربت وأهلك ينظرون ، فما أتوك ولا أعانوك » بمعنى : وهم قريب بمرأى ومسمع ، وكقول الله تعالى : ألَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وليس هناك رؤية ، إنما هو علم . والذي دعاه إلى هذا التأويل أنه وجه قوله : وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ : أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون . فقال : قد كانوا في شغل من أن ينظروا مما اكتنفهم من البحر إلى فرعون وغرقه . وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام ، إنما التأويل : وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم على ما قد وصفنا آنفا ، والتطام أمواج البحر بآل فرعون في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا ، وذلك كان لا شك نظر عيان لا نظر علم كما ظنه قائل هذا القول الذي حكينا قوله .
هذا زيادة في التفصيل بذكر نعمة أخرى عظيمة خارقة للعادة ، بها كان تمام الإنجاء من آل فرعون ، وفيها بيان مقدار إكرام الله تعالى لهم ومعجزة لموسى عليه السلام وتعدية فعل { فرقنا } إلى ضمير المخاطبين بواسطة الحرف جار على نحو تعدية فعل { نجيناكم } [ البقرة : 49 ] إلى ضميرهم كما تقدم .
وفَرَق وفرَّق بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد إذ التشديد يفيده تعدية ومعناه الفصل بين أجزاء شيء متصل الأجزاء ، غير أن فرق يدل على شدة التفرقة وذلك إذا كانت الأجزاء المفرقة أشد اتصالاً ، وقد قيل إن فرّق للأجسام وفرق للمعاني نقله القرافي عن بعض مشايخه وهو غير تام كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بدليل هذه الآية ، فالوجه أن فَرَّقَ بالتشديد لما فيه علاج ومحاولة وأن المخفف والمشدد كليهما حقيقة في فصل الأجسام وأما في فصل المعاني الملتبسة فمجاز .
وقد اتفقت القراءات المتواترة العشر على قراءة { فرقنا } بالتخفيف والتخفيف منظور فيه إلى عظيم قدرة الله تعالى فكان ذلك الفرق الشديد خفيفاً .
* وتصغر في عين العظيم العظائم *
وأل في { البحر } للعهد وهو البحر الذي عهدوه أعني بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر وسمته التوراة بحر سوف .
والباء في { بكم } إما للملابسة كما في طارت به العنقاء وعدا به الفرس ، أي كان فرق البحر ملابساً لكم والمراد من الملابسة أنه يفرق وهم يدخلونه فكان الفرق حاصلاً بجانبهم . وجوز صاحب « الكشاف » كون الباء للسببية أي بسببكم يعني لأجلكم .
والخطاب هنا كالخطاب في قوله : { وإذ نجيناكم من آل فرعون } [ البقرة : 49 ] .
وقوله : { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون } هو محل المنة وذكر النعمة وهو نجاتهم من الهلاك وهلاك عدوهم ، قال الفرزدق :
كيف تراني قَاليا مجنى *** قد قتل الله زياداً عني
فكون قوله : { وإذ فرقنا بكم البحر } تمهيداً للمنة لأنه سبب الأمرين النجاة والهلاك وهو مع ذلك معجزة لموسى عليه السلام .
وقد أشارت الآية إلى ما حدث لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من لحاق جند فرعون بهم لمنعهم من مغادرة البلاد المصرية وذلك أنهم لما خرجوا ليلاً إما بإذن من فرعون كما تقول التوراة في بعض المواضع ، وإما خفية كما عبرت عنه التوراة بالهروب ، حصل لفرعون ندم على إطلاقهم أو أغراه بعض أعوانه بصدهم عن الخروج لما في خروجهم من إضاعة الأعمال التي كانوا يسخرون فيها أو لأنه لما رآهم سلكوا غير الطريق المألوف لاجتياز مصر إلى الشام ظنهم يرومون الانتشار في بعض جهات مملكته المصرية فخشى شرهم إن هم بعدوا عن مركز ملكه ومجتمع قوته وجنده .
إن بني إسرائيل ما خرجوا من جهات حاضرة مصر وهي يومئذ مدينة منفيس{[124]} لم يسلكوا الطريق المألوف لبلاد الشام إذ تركوا أن يسلكوا طريق شاطىء بحر الروم ( المتوسط ) فيدخلوا برية سينا من غير أن يخترقوا البحر ولا يقطعوا أكثر من اثنتي عشرة مرحلة أعني مائتين وخمسين ميلاً وسلكوا طريقاً جنوبية شرقية حول أعلى البحر الأحمر لئلا يسلكوا الطريق المألوفة الآهلة بقوافل المصريين وجيوش الفراعنة فيصدوهم عن الاسترسال في سيرهم أو يُلحق بهم فرعون من يردهم لأن موسى علم بوحي كما قال تعالى : 0{ وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنك متبعون } [ الشعراء : 52 ] إن فرعون لا يلبث أن يصدهم عن المضي في سيرهم فلذلك سلك بهم بالأمر الإلهي طريقاً غير مطروقة فكانوا مضطرين للوقوف أمام البحر في موضع يقال له « فم الحيروث » فهنالك ظهرت المعجزة إذ فلق الله لهم البحر بباهر قدرته فأمر موسى أن يضربه بعَصاه فانفلق وصار فيه طريق يبس مرت عليه بنو إسرائيل وكان جند فرعون قد لحق بهم ورام اقتحام البحر وراءهم فانطبق البحر عليهم فغرقوا .
وقوله : { وأغرقنا آل فرعون } أي جنده وأنصاره . ولم يذكر في هاته الآية غرق فرعون لأن محل المنة هو إهلاك الذين كانوا المباشرين لتسخير بني إسرائيل وتعذيبهم والذين هم قوة فرعون وقد ذكر غرق فرعون في آيات أخرى نتكلم عليها في موضعها إن شاء الله ، وكان ذلك في زمن الملك « منفتاح » ويقال له « منفطة » أو « مينيتاه » من فراعنة العائلة التاسعة عشرة في ترتيب فراعنة مصر عند المؤرخين .
قوله : { وأنتم تنظرون } جملة حالية من الفاعل وهو ضمير الجلالة في { فرقنا } و { أنجينا } و { أغرقنا } مقيدة للعوامل الثلاثة على سبيل التنازع فيها ، ولا يتصور في التنازع في الحال إضمار في الثاني على تقدير إعمال الأول لأن الجملة لا تضمر كما لا يضمر في التنازع في الظرف نحو سكن وقرأ عندك ولعل هذا مما يوجب إعمال الأول وهذا الحال زيادة في تقرير النعمة وتعظيمها فإن مشاهدة المنعم عليه للنعمة لذة عظيمة لا سيما ومشاهدة إغراق العدو أيضاً نعمة زائدة كما أن مشاهدة فرق البحر نعمة عظيمة لما فيها من مشاهدة معجزة تزيدهم إيماناً وحادث لا تتأتى مشاهدته لأحد . ويجوز أن تكون الجملة حالاً من المفعول وهو ( آل فرعون ) أي تنظرونهم ، ومفعول { تنظرون } محذوف ولا يستقيم جعله منزلاً منزلة اللازم . وإسناد النظر إليهم باعتبار أن أسلافهم كانوا ناظرين ذلك لأن النعمة على السلف نعمة على الأبناء لا محالة فضمير الخطاب مجاز .