{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا } النفقات الواجبة والمستحبة { لَمْ يُسْرِفُوا } بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا في قسم التبذير وإهمال الحقوق الواجبة ، { وَلَمْ يَقْتُرُوا } فيدخلوا في باب البخل والشح { وَكَانَ } إنفاقهم { بَيْنَ ذَلِكَ } بين الإسراف والتقتير { قَوَامًا } يبذلون في الواجبات من الزكوات والكفارات والنفقات الواجبة ، وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا ضرار وهذا من عدلهم واقتصادهم .
وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن :
( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ، وكان بين ذلك قواما ) . .
وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ؛ ويتجه إليها في التربية والتشريع ، يقيم بناءه كله على التوازن والإعتدال .
والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة - ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء - كما هو الحال في النظام الرأسمالي ، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان . إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير . فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع ؛ والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية . والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي ، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب . ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق .
والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد ، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } .
يقول تعالى ذكره : والذين إذا أنفقوا أموالهم لم يسرفوا في إنفاقها .
ثم اختلف أهل التأويل في النفقة التي عناها الله في هذا الموضع ، وما الإسراف فيها والإقتار . فقال بعضهم : الإسرافُ ما كان من نفقة في معصية الله ، وإن قلّت . قال : وإياها عني الله ، وسماها إسرافا قالوا : والإقتار المنع من حقّ الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ، وكانَ بينَ ذلك قَوَاما قال : هم المؤمنون لا يسرفون فينفقون في معصية الله ، ولا يُقترون فيمنعون حقوق الله تعالى .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : لو أنفقت مثل أبي قُبيس ذهبا في طاعة الله ما كان سرفا ، ولو أنفقت صاعا في معصية الله كان سرفا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا قال : في النفقة فيما نهاهم وإن كان درهما واحدا ، ولم يقتروا ولم يُقَصّرُوا عن النفقة في الحقّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرفوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بينَ ذلكَ قَوَاما قال : لم يسرفوا فينفقوا في معاصي الله . كلّ ما أنفق في معصية الله ، وإن قلّ فهو إسراف ، ولم يقتروا فيمسكوا عن طاعة الله . قال : وما أُمْسِكَ عن طاعة الله وإن كثر فهو إقتار .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني إبراهيم بن نشيط ، عن عمر مولى غُفرة أنه سئل عن الإسراف ما هو ؟ قال : كلّ شي أنفقته في غير طاعة الله فهو سرف .
وقال آخرون : السرف : المجاوزة في النفقة الحدّ والإقتار : التقصير عن الذي لا بدّ منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قوله وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قال : لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس أبو عبد الله المخزومي المكي ، قال : سمعت وهيب بن الورد أبي الورد مولى بني مخزوم ، قال : لقي عالم عالما هو فوقه في العلم ، فقال : يرحمك الله أخبرني عن هذا البناء الذي لا إسراف فيه ما هو ؟ قال : هو ما سترك من الشمس ، وأكنّك من المطر ، قال : يرحمك الله ، فأخبرني عن هذا الطعام الذي نصيبه لا إسراف فيه ما هو ؟ قال : ما سدّ الجوع ودونَ الشبع ، قال : يرحمك الله ، فأخبرني عن هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ما هو ؟ قال : ما ستر عورتك ، وأدفأك من البرد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن شريح ، عن يزيد بن أبي حبيب في هذه الاَية وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا . . . الاَية ، قال : كانوا لا يلبسون ثوبا للجمال ، ولا يأكلون طعاما للذّة ، ولكن كانوا يريدون من اللباس ما يسترون به عورتهم ، ويكتَنّون به من الحرّ والقرّ ، ويريدون من الطعام ما سدّ عنهم بالجوع ، وقوّاهم على عبادة ربهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن يزيد بن مرّة الجعفي ، قال : العلم خير من العمل ، والحسنة بين السيئتين ، يعني : إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ، وخير الأعمال أوساطها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا كعب بن فروخ ، قال : حدثنا قتادة ، عن مطرّف بن عبد الله ، قال : خير هذه الأمور أوساطها ، والحسنة بين السيئتين . فقلت لقتادة : ما الحسنة بين السيئتين ؟ فقال : الّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا . . . الاَية .
وقال آخرون : الإسرافُ هو أن تأكل مال غيرك بغير حقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا سالم بن سعيد ، عن أبي مَعْدان ، قال : كنت عند عون بن عبد الله بن عتبة ، فقال : ليس المسرف من يأكل ماله ، إنما المسرف من يأكل مال غيره .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : الإسراف في النفقة الذي عناه الله في هذا الموضع : ما جاوز الحدّ الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه ، والإقتار : ما قصر عما أمر الله به ، والقوام : بين ذلك .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن المسرف والمقتر كذلك ولو كان الإسراف والإقتار في النفقة مرخصا فيهما ما كانا مذمومين ، ولا كان المسرف ولا المقتر مذموما ، لأن ما أذن الله في فعله فغير مستحقّ فاعله الذمّ . فإن قال قائل : فهل لذلك من حدّ معروف تبينه لنا ؟ قيل : نعم ، ذلك مفهوم في كلّ شيء من المطاعم والمشارب والملابس والصدقة وأعمال البرّ وغير ذلك ، نكره تطويل الكتاب بذكر كلّ نوع من ذلك مفصلاً ، غير أن جملة ذلك هو ما بيّنا ، وذلك نحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه ، وينهك قواه ، ويشغله عن طاعة ربه ، وأداء فرائضه ، فذلك من السرف ، وأن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه ، ويَنْهَك قواه ، ويضعفه عن أداء فرائض عن أداء فرائض ربه ، فذلك من الإقتار ، وبين ذلك القَوام على هذا النحو ، كلّ ما جانس ما ذكرنا . فأما اتخاذ الثوب للجمال ، يلبسه عند اجتماعه مع الناس ، وحضوره المحافل والجمع والأعياد ، دون ثوب مهنته ، أو أكله من الطعام ما قوّاه على عبادة ربه ، مما ارتفع عما قد يسدّ الجوع ، مما هو دونه من الأغذية ، غير أنه لا يعين البدن على القيام لله بالواجب معونته ، فذلك خارج عن معنى الإسراف ، بل ذلك من القَوام ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك ، وحضّ على بعضه ، كقوله : «ما عَلى أحَدِكُمْ لَوِ اتّخَذَ ثَوْبَيْنِ . ثَوْبا لِمِهْنَتِهِ ، وَثَوْبا لِجُمْعَتِهِ وَعِيدِهِ » وكقوله : «إذَا أنْعَمَ اللّهُ عَلى عَبْدٍ نِعْمَةً أحَبّ أنْ يَرَى أثَرَهُ عَلَيْهِ » ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد بيّناها في مواضعها . )
وأما قوله : وكانَ بينَ ذلكَ قَوَاما فإنه النفقة بالعدل والمعروف ، على ما قد بيّنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سليمان ، عن وهب بن منبه ، في قوله وكانَ بينَ ذلكَ قَوَاما قال : الشطر من أموالهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله وكانَ بينَ ذلكَ قَوَاما : النفقة بالحقّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وكانَ بينَ ذلكَ قَوَاما قال : القوام : أن ينفقوا في طاعة الله ، ويمسكوا عن محارم الله .
قال : أخبرني إبراهيم بن نشيط ، عن عمر مولى غُفْرة ، قال : قلت له : ما القَوام ؟ قال : القوام : أن لا تنفق في غير حقّ ، ولا تمسك عن حقّ هو عليك . والقوام في كلام العرب ، بفتح القاف ، وهو الشيء بين الشيئين . تقول للمرأة المعتدلة الخلق : إنها لحسنة القوام في اعتدالها ، كما قال الحُطَيئة :
طافَتْ أُمامَةُ بالرّكبْانِ آوِنَةً *** يا حُسْنَهُ مِنْ قَوَامٍ مّا وَمُنْتَقَبا
فأما إذا كسرت القاف فقلت : إنه قِوام أهله ، فإنه يعني به : أن به يقوم أمرهم وشأنهم . وفيه لغات آخُرَ ، يقال منه : هو قيام أهله وقيّمهم في معنى قوامهم . فمعنى الكلام : وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما معتدلاً ، لا مجاوزة عن حدّ الله ، ولا تقصيرا عما فرضه الله ، ولكن عدلاً بين ذلك على ما أباحه جلّ ثناؤه ، وأذن فيه ورخص .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ولم يَقْتُرُوا فقرأته عامة قرّاء المدينة «ولمْ يُقْتِرُوا » بضمّ الياء وكسر التاء من : أقتر يقتر . وقرأته عامة قرّاء الكوفيين وَلمْ يَقْتُرُوا بفتح الياء وضمّ التاء من : قَتَر يَقْتُر . وقرأته عامة قرّاء البصرة «وَلمْ يَقْتِروا » بفتح الياء وكسر التاء من قتر يقتر .
والصواب من القول في ذلك ، أن كلّ هذه القراءات على اختلاف ألفاظها لغات مشهورات في العرب ، وقراءات مستفيضات وفي قرّاء الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتها قرأ القارىء فمصيب .
وقد بيّنا معنى الإسراف والإقتار بشواهدهما فيما مضى في كتابنا في كلام العرب ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وفي نصب القَوام وجهان : أحدهما ما ذكرت ، وهو أن يجعل في كان اسم الإنفاق بمعنى : وكان إنفاقهم ما أنفقوا بين ذلك قواما : أي عدلاً ، والاَخر أن يجعل بين هو الاسم ، فتكون وإن كانت في اللفظة نصبا في معنى رفع ، كما يقال : كان دون هذا لك كافيا ، يعني به : أقلّ من هذا كان لك كافيا ، فكذلك يكون في قوله : وكانَ بينَ ذلكَ قَوَاما لأن معناه : وكان الوسط من ذلك قواما .
{ والذين إذا انفقوا لم يسرفوا } لم يجاوزا حد الكرم . { ولم يقتروا } ولم يضيقوا تضييق الشحيح . وقيل الإسراف هو الإنفاق في المحارم والتقتير منع الواجب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر والكوفيون بضم الياء وكسر التاء من أقتر ، وقرئ بالتشديد والكل واحد . { وكان بين ذلك قواما } وسطا عدلا سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما ، وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خير ثان أو حال مؤكدة ، ويجوز أن يكون الخبر بين ذلك لغوا ، وقيل إنه اسم{ كان } لكنه مبني لإضافته إلى غير متمكن وهو ضعيف لأنه بمعنى القوام فيكون كالإخبار بالشيء عن نفسه .
اختلف المفسرون في هذه الآية في الإنفاق ، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة ، وإن أسرف ، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه ، وأن المقتر هو الذي يمنع حقاً عليه ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، وقال عون بن عبد الله بن عتبة «الإسراف » أن تنفق مال غيرك . ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية ، وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر ، والوجه أن يقال أن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره ، وكذلك التعدي على مال الغير ، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك ، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات ، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقاً آخر أو عيالاً ونحو هذا وأن لا يضيق أيضاً ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح ، والحسن في ذلك هو القوام ، أي المعتدل ، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال ، وخير الأمور أوسطها ، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ومنع غيره من ذلك ، ونعم ما قال إبراهيم النخعي وهو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف ، وقال يزيد بن حبيب هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للذة ، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك ؟ فقال له عمر الحسنة بين السيئتين ، ثم تلا الآية ، وقال عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفاً ألا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله ، وفي سنن ابن ماجه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته ) ، وقال الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم{[8877]}
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يُقتِروا » بضم الياء وكسر التاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد وحفص عن عاصم{[8878]} «يَقتِروا » بفتح الياء وكسر التاء ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الياء ، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة وعاصم بخلاف ، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح التاء{[8879]} ، وقرأ أبو عمرو «والناس قَواماً » بفتح القاف ، أي معتدلاً{[8880]} ، وقرأ حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف أي مبلغاً وسداداً وملاك حال ، و { قواماً } خبر { كان } واسمها مقدر أي الإنفاق ، وجوز الفراء أن يكون اسمها قوله { بين ذلك } .
أفاد قوله { إذا أنفقوا } أن الإنفاق من خصالهم فكأنه قال : والذين ينفقون وإذا أنفقوا إلخ . وأريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب وذلك إنفاق المرء على أهل بيته وأصحابه لأن الإنفاق الواجب لا يذمّ الإسراف فيه ، والإنفاق الحرام لا يُحمد مطلقاً بَلْهَ أن يذم الإقتار فيه على أن في قوله { إذا أنفقوا } إشعاراً بأنهم اختاروا أن ينفقوا ولم يكن واجباً عليهم .
والإسراف : تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق بحسب حال المنفق وحال المنفَق عليه . وتقدم معنى الإسراف في قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النساء ( 6 ) ، وقوله : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } في سورة الأنعام ( 141 ) .
والإقتار عكسه ، وكان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات ويُغْلُون السباء في الخمر ويتممون الأيسار في الميسر . وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم وهي في معلّقة طرفة وفي معلقة لبيد وفي ميمية النابغة ، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك ، قال الشاعر مادحاً :
مفيد ومتلاف إذا ما أتيتُه *** تهلَّل واهتز اهتزاز المهند
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { ولا يُقتِروا } بضم التحتية وكسر الفوقية من الإقْتار وهو مرادف التقتير . وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من قتر من باب ضَرَب وهو لغة . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح التحتية وضم الفوقية من فعل قتر من باب نصَر .
والإقتار والقَتْر : الإجحاف والنقص مما تسعه الثروة ويقتضيه حال المنفَق عليه . وكان أهل الجاهلية يُقْتِرون على المساكين والضعفاء لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك . وقد تقدم ذلك عند قوله : { كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدَيْن } [ البقرة : 180 ] .
والإشارة في قوله : { بين ذلك } إلى ما تقدم بتأويل المذكور ، أي الإسراف والإِقتار .
والقَوام بفتح القاف : العدل والقصد بين الطرفين .
والمعنى : أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه ، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق ، وأما الإقتار فمن شأنه إمساكُ المال فيُحرم من يستأهله .
وقوله : { بين ذلك } خبرُ { كَان } و { قَواماً } حال موكِّدة لمعنى { بين ذلك } . وفيها إشعار بمدح ما بين ذلك بأنه الصواب الذي لا عِوَج فيه . ويجوز أن يكون { قَواما } خبر { كان } و { بين ذلك } ظرفا متعلقاً به . وقد جرت الآية على مراعاة الأحوال الغالبة في إنفاق الناس . قال القرطبي : والقَوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله ومنع غيره من ذلك .