تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

ويدل على المعنى الأخير ، ما ذكره بعده في قوله : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله ، ولا يحمل أحد ذنب أحد . { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي : نفس مثقلة بالخطايا والذنوب ، تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها { لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } فإنه لا يحمل عن قريب ، فليست حال الآخرة بمنزلة حال الدنيا ، يساعد الحميم حميمه ، والصديق صديقه ، بل يوم القيامة ، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد ، ولو على والديه وأقاربه .

{ إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } أي : هؤلاء الذين يقبلون النذارة وينتفعون بها ، أهل الخشية للّه بالغيب ، أي : الذين يخشونه في حال السر والعلانية ، والمشهد والمغيب ، وأهل إقامة الصلاة ، بحدودها وشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها ، لأن الخشية للّه تستدعي من العبد العمل بما يخشى من تضييعه العقاب ، والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب ، والصلاة تدعو إلى الخير ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر .

{ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي : ومن زكى نفسه بالتنقِّي من العيوب ، كالرياء والكبر ، والكذب والغش ، والمكر والخداع والنفاق ، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة ، وتحلَّى بالأخلاق الجميلة ، من الصدق ، والإخلاص ، والتواضع ، ولين الجانب ، والنصح للعباد ، وسلامة الصدر من الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الأخلاق ، فإن تزكيته يعود نفعها إليه ، ويصل مقصودها إليه ، ليس يضيع من عمله شيء .

{ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } فيجازي الخلائق على ما أسلفوه ، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

15

ولمسة أخرى بحقيقة أخرى . حقيقة فردية التبعة ، والجزاء الفردي الذي لا يغني فيه احد عن أحد شيئاً . فما بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] من حاجة الى هدايتهم يحققها لنفسه ، فهو محاسب على عمله وحده ، كما أن كلاً منهم محاسب على ما كسبت يداه ، يحمل حمله وحده ، لا يعينه أحد عليه . ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه ، وهو الكاسب وحده لا سواه ؛ والأمر كله صائر إلى الله :

( ولا تزر وازرة وزر أخرى . وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ) . . .

( ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ، وإلى الله المصير ) . .

وحقيقة فردية التبعة والجزاء ذات أثر حاسم في الشعور الأخلاقي ، وفي السلوك العملي سواء . فشعور كل فرد بأنه مجزيُّ بعمله ، لا يؤاخذ بكسب غيره ، ولا يتخلص هو من كسبه ، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل ان تحاسب ! مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء ، أو أن يحمل عنه أحد شيئاً . كما أنه - في الوقت ذاته - عامل مطمئن ، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة الجماعة ، فيطيش وييئس من جدوى عمله الفردي الطيب . ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة ومحاولة ردها عن الضلال بما يملك من وسيلة .

إن الله - سبحانه - لا يحاسب الناس جملة بالقائمة ! إنما يحاسبهم فرداً فرداً ؛ كل على عمله ، وفي حدود واجبه . ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الإصلاح غاية جهده . فإذا قام بقسطه هذا فلا عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها ، فإنما هو محاسب على إحسانه . كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح . فالله لا يحاسب عباده بالقائمة كما أسلفنا !

والتعبير القرآني يصور هذه الحقيقة على طريقة التصوير في القرآن ، فتكون أعمق وأشد أثراً . يصور كل نفس حاملة حملها . فلا تحمل نفس حمل آخرى وحين تثقل نفس بما تحمل ثم تدعو أقرب الأقرباء ليحمل عنها شيئاً ، فلن تجد من يلبي دعاءها ويرفع عنها شيئاً مما يثقلها !

إنه مشهد القافلة كل من فيها يحمل أثقاله ويمضي في طريقه ، حتى يقف أمام الميزان والوزّان ! وهي في وقفتها يبدو على من فيها الجهد والإعياء ، واهتمام كل بحمله وثقله ، وانشغاله عن البعداء والأقرباء !

وعلى مشهد القافلة المجهدة المثقلة ، يلتفت إلى رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] :

( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب واقاموا الصلاة ) . .

فهؤلاء هم الذين يفلح فيهم الإنذار . هؤلاء الذين يخشون ربهم ولم يشاهدوه . ويقيمون الصلاة ليتصلوا بربهم ويعبدوه . هؤلاء هم الذين ينتفعون بك ، ويستجيبون لك . فلا عليك ممن لا يخشى الله ولا يقيم الصلاة .

ومن تزكى فأنما يتزكى لنفسه . .

لا لك . ولا لغيرك . إنما هو يتطهر لينتفع بطهره . والتطهر معنى لطيف شفاف . يشمل القلب وخوالجه ومشاعره ، ويشمل السلوك واتجاهاته وآثاره . وهو معنى موح رفاف .

( وإلى الله المصير ) . .

وهو المحاسب ، والمجازي ، فلا يذهب عمل صالح ، ولا يفلت عمل سيىء . ولا يوكل الحكم والجزاء إلى غيره ممن يميلون أو ينسون أو يهملون . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

وقوله : وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يقول تعالى ذكره : ولا تحملْ آثمة إثم أخرى غيرها وَإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى يقول تعالى : وإن تسألْ ذاتُ ثِقْل من الذنوب مَنْ يحمل عنها ذنوبها ، وتطلب ذلك لم تجد من يحمل عنها شيئا منها ، ولو كان الذي سألته ذا قرابة من أب أو أخ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزر أُخْرَى وَإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى يقول : يكون عليه وزر لا يجد أحدا يحمل عنه من وزره شيئا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَإنْ تَدعُ مُثْقَلةٌ إلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ كنحو : لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وَزْرَ أُخْرَى .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنْ تَدْع مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِها إلى ذنوبها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى : أي قريب القرابة منها ، لا يحمل من ذنوبها شيئا ، ولا تحمل على غيرها من ذنوبها شيئاوَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ونصب ذا قربى على تمام «كان » لأن معنى الكلام : ولو كان الذي تسأله أن يحمل عنها ذنوبها ذا قربى لها وأنثت «مثقلة » ، لأنه ذهب بالكلام إلى النفس ، كأنه قيل : وإن تدع نفس مثقلة من الذنوب إلى حمل ذنوبها . وإنما قيل كذلك لأن النفس تؤدّي عن الذكر والأنثى ، كما قيل : كُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ يعني بذلك : كلّ ذكر وأنثى .

وقوله : إنّمَا تُنْذِرُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بالغَيْبِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنما تنذر يا محمد الذين يخافون عقاب الله يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك ، ولكن لإيمانهم بما أتيتهم به ، وتصديقهم لك فيما أنبأتهم عن الله فهؤلاء الذين ينفعهم إنذارك ، ويتعظون بمواعظك ، لا الذين طَبَع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا تُنْذِرُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بالغَيْبِ : أي يخشون النار .

وقوله : وأقامُوا الصّلاةَ يقول : وأَدّوْا الصلاة المفروضة بحدودها على ما فرضها الله عليهم . وقوله : وَمَنْ تَزَكّى فإنّمَا يتَزَكّى لِنَفْسِهِ يقول تعالى ذكره : ومن يتطهّر من دنس الكفر والذنوب بالتوبة إلى الله ، والإيمان به ، والعمل بطاعته ، فإنما يتطهّر لنفسه ، وذلك أنه يثيبها به رضا الله ، والفوز بجنانه ، والنجاة من عقابه ، الذي أعدّه لأهل الكفر به ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَنْ تَزَكّى فإنّمَا يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ : أي من يعملْ صالحا فإنما يعمله لنفسه .

وقوله : وَإلى اللّهِ المَصِيرُ يقول : وإلى الله مصير كلّ عامل منكم أيها الناس ، مؤمنكم وكافركم ، وبرّكم وفاجركم ، وهو مجاز جميعكم بما قدّم من خير أو شرّ على ما أهل منه .