ثم قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }
ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها ، فإنه تعالى ، لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة ، وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين ، المزيلة لكل شك ، ذكر هنا أن { مِنَ النَّاسِ } مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي : نظراء ومثلاء ، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة ، والتعظيم والطاعة .
ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة ، وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله ، مشاق له ، أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته ، فليس له أدنى عذر في ذلك ، بل قد حقت عليه كلمة العذاب .
وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله ، لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير ، وإنما يسوونهم به في العبادة ، فيعبدونهم ، ليقربوهم إليه ، وفي قوله : { اتخذوا } دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له ، تسمية مجردة ، ولفظا فارغا من المعنى ، كما قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ }
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق ، وغيره مخلوق ، والرب الرازق ومن عداه مرزوق ، والله هو الغني وأنتم الفقراء ، وهو الكامل من كل الوجوه ، والعبيد ناقصون من جميع الوجوه ، والله هو النافع الضار ، والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء ، فعلم علما يقينا ، بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا ، سواء كان ملكا أو نبيا ، أو صالحا ، صنما ، أو غير ذلك ، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة ، والذل التام ، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أي : من أهل الأنداد لأندادهم ، لأنهم أخلصوا محبتهم له ، وهؤلاء أشركوا بها ، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة ، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه ، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا ، ومحبته عين شقاء العبد وفساده ، وتشتت أمره .
فلهذا توعدهم الله بقوله : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله ، وسعيهم فيما يضرهم .
{ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } أي : يوم القيامة عيانا بأبصارهم ، { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي : لعلموا علما جازما ، أن القوة والقدرة لله كلها ، وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء ، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها ، لا كما اشتبه عليهم في الدنيا ، وظنوا أن لها من الأمر شيئا ، وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه ، فخاب ظنهم ، وبطل سعيهم ، وحق عليهم شدة العذاب ، ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا ، ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع ، بل يحصل لهم الضرر منها ، من حيث ظنوا نفعها .
ومع هذا فإن هناك من لا ينظر ولا يتعقل ، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميم الوجود ، والنظر في وحدة الناموس الكوني العجيب :
( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) . .
من الناس من يتخذ من دون الله اندادا . . كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجارا وأشجارا ، أو نجوما وكواكب ، أو ملائكة وشياطين . . وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبارات . . وكلها شرك خفي أو ظاهر ، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله ، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله . فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله ؟
إن المؤمنين لا يحبون شيئا حبهم لله . لا أنفسهم ولا سواهم . لا أشخاصا ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيما من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس :
( والذين آمنوا أشد حبا لله ) . .
أشد حبا لله ، حبا مطلقا من كل موازنة ، ومن كل قيد . أشد حبا لله من كل حب يتجهون به إلى سواه .
والتعبير هنا بالحب تعبير جميل ، فوق أنه تعبير صادق . فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب . صلة الوشيجة القلبية ، والتجاذب الروحي . صلة المودة والقربى . صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود .
( ولو يرى الذين ظلموا - إذ يرون العذاب - أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب )
أولئك الذين اتخذوا من دون الله اندادا . فظلموا الحق ، وظلموا أنفسهم . . لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد ! لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين ! لو يرون لرأوا ( أن القوة لله جميعا ) فلا شركاء ولا انداد . . ( وأن الله شديد العذاب ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.